آيات من القرآن الكريم

۞ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ

قوله: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة﴾ - إلى قوله - ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾:
والمعنى: إن في أخذه القرى لعظةً، وعبرةً / ممن خاف عذاب الآخرة، وحجة عليه.
﴿ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾: أي: يُحشَر الناس كلهم من قبورهم للجزاء فيه. ﴿(وذلك يَوْمٌ) مَّشْهُودٌ﴾: أي: يشهده الخلق كلهم: أهل السماء، وأهل الأرض، وهو يوم القيامة.
قال ابن عباس: الشاهد محمد ﷺ، والمشهود يومُ القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾: أي: ما نؤخره يوم القيامة عنكم إلا لأجل قد قضيتُهُ، وعددتُهُ وأحصيتُهُ. فلا يتقدم اليوم ولا يتأخر.
ثم قال تعالى: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَوْمَ يَأْتِ﴾: أي: يوم تقوم الساعة ما تكلم نفس إلا بإذن الله، وهو مثل قوله: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥]. وقد قال في موضع

صفحة رقم 3462

آخر: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الصافات: ٥٠]، وقال: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل: ١١١]، وقال: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٤]، وقال: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩]. وهذه الآيات يسأل عنها أهل الإلحاد. فالجواب عن ذلك: أنه تعالى قد أحصى الأعمال، وعِلِمَها قبل أن تكون، فلا حاجة (له) إلى سؤال أحد عن ذنبه، (ليعلم) ما عنده. فأما قوله: (إنهم مسئولون) فإنما هو سؤال توبيخ، وتقرير، لا سؤال استخبار.
وقوله: ﴿لاَ يَنطِقُونَ﴾ [النمل: ٨٥، المرسلات: ٣٥] بحجة تجب لهم، وإنما يتكلمون بذنوبهم، ويلوم بعضهم بعضاً بعد أن ينطلق لهم الكلام، بإذنه تعالى في لوم بعضهم بعضاً، لا في حجة يقيمونها لأنفسهم.
﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾: أي: فمن هذه النفوس التي لا تتكلم إلا بإذن الله، سبحانه، شقي وسعيد.

صفحة رقم 3463

وذكر ابن الأنباري أنه قد قيل: إن الضمير لأمة محمد، ﷺ، خاصة: أي: فمن هذه الأمة يا محمد شقي، وسعيد ﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار...﴾ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا...﴾ ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾: أي: إلا ما شاء الله من ترك خلودهم، وإخراجهم إلى الجنة بإيمانهم على ما روي في الآثار المشهورة.
والأشهر أن الضمير في " فمنهم " يعود على الخلق كلهم، على كل نفس. ﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾: قال ابن عباس: " صوت شديد، (وصوت) ضعيف ".
قال أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، وروي عنه ضد ذلك.
قال قتادة: " صوت الكافر في النار صوت الحمار، أَوَّله زفيرٌ، وآخره شهيق. وقال أهل اللغة: الزفير مثل: " ابتداء الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر

صفحة رقم 3464

صوت الحمار في النهيق ".
(ولما نزلت) هذه الآية، قال عمر رضي الله عنهـ: " سألت رسول الله ﷺ، فقلت: يا نبي الله فعلام عملنا؟: على شيء قد فرغ منه؟ أم على شيء لم يُفْرَغْ منه؟ فقال رسول الله ﷺ: على شيء قد فرغ مِنه يا عمر، وجرت به الأقلام، ولكن كل مُيَسَّر لما خلق له ".
قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾: أي: وقت دوام ذلك. ومعنى الآية: أبداً، لأن العرب تقول: لا أكلمك ما دامت السماوات والأرض، وما اختلف الليل والنهار /. فخوطبوا على ما يعلمون، ويفهمون بينهم.

صفحة رقم 3465

وقوله: (﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾) اختلف في ذلك اختلافاً شديداً.
١ - فمن العلماء من قال: " إلا " للاستثناء، استثنى به من الزمان، " فما " على بابها: لما لا يعقل.
٢ - ومنهم من قال: " إلا " بمعنى: " سوى " " وما " على بابها للزمان، فهي في زيادة الخلود.
٣ - ومنهم من قال: " إلا " على بابها، و " ما " بمعنى " من ": جاءت لِمَنْ يعقل، فهي استثناء من الأشخاص والمعذبين الذين يخرجون من النار من المؤمنين. وسنذكر قول من بلغنا (قوله) من العلماء في ذلك.
قال قتادة: " الله أعلم بِثَنِيَّاه. ذُكِر لنا أن ناساً يصيبهم سَفَعٌ من النار

صفحة رقم 3466

بذنوب أصابوها، ثم يدخلهم الله الجنة برحمته يسمون: الجهنميون. فيكون هذا الاستثناء في أهل التوحيد.
(وقيل: المعنى: إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنه. وذلك في أهل التوحيد) فهو استثناء من الداخلين النار، لا من الخلود. " فإلا " على هذين القولين لللاستثناء، و " ما " بمعنى " من ": استثنى خروج من يدخل النار من المؤمنين.
وقيل: " عنى بذلك أهل النار، وكل من دَخَلَهَا ".
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنهـ، أنه قال: " ليأتين على جهنم زمان تَخْفِقُ أبوابها، ليس فيها أحد ".
وقال الشعبي: " جهنم أسرع الدارين عمراناً، وأسرعها خراباً ". وهذان القولان شاذَّان.
وقال ابن زيد: هي مشيئته في الزيادة من العذاب، أو في النقصان، وقد

صفحة رقم 3467

تبين لنا معنى تبيانه في أهل الجنة بقوله: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾: إنه في الزيادة، ولم يبين لنا ذلك في أهل النار. وهو محتمل للزيادة والنقص من العذاب.
وقوله تعالى: ﴿فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً﴾ [النبأ: ٣٠]، يدل على أنه في الزيادة. وقال بعض (أهل) العربية: وهو استثناءٌ استثناه، ويفعله، كقولِك: " لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وعَزْمِك على ضربه وقال بعضهم: " إلا " هنا: بمعنى سوى. والمعنى: سوى ما شاء الله من الزيادة في الخلود، وهو اختيار أبي بكر. قال: لأن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء في أهل الجنة بقوله: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، (فدلّ) على أن الاستثناء إنما هو في زيادة الخلود.
" فما " على بابها، و " إلا " لللاستثناء.
وقول آخر، وهو قول المازني: إنه استثناء إقامتهم، واحتسابهم، ما بين

صفحة رقم 3468

الموت والبعث. وهو البرزخ، إلى أن يصيروا في الجنة. يقول: لم يغيبوا عنها إلا مقدار إقامتهم في البرزخ. " فما " أيضاً على بابها للزمان، و " إلا " للاستثناء.
وقول آخر: وهو أن يكون الاستثناء يراد به من دوام السماوات والأرض في الدنيا.
ومعنى: ﴿مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ يعني: تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
وقيل: الاستثناء واقع على مقامهم في قبورهم. وقيل: إن معنى الاستثناء في أهل الجنة مخصوص في بعضهم. يراد به: قدر بعث من دخل النار من الموحدين إلى أن رحموا، وأخْرجوا، وأدخلوا الجنة.
وقال ابن زيد: المعنى: " ما دامت الأرض أرضاً، والسماء سماء ". ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾: أي: لا يمنعه مانع من فعل ما أراد. (قال أبو محمد مكي). وقد أفردنا / كتاباً مفرداً لشرح هذه الآية، وذكرنا فيها من أقاويل

صفحة رقم 3469

العلماء بضعة عشر قولاً، وبيَّنا جواز وقوع " ما " لمن يعقل بياناً شافياً في ذلك الكتاب. وذكرنا في هذا اختصار ما ذكرنا في ذلك الكتاب.
ومن قرأ " سعدوا " بالفتح فهي اللغة الجيدة المشهورة. يقال: ما سعد حتى أسعده الله. وإجماعهم على " شقوا " بالفتح يدل على فتح " سعدوا "، ولو كانت بالضم لقيل: " سعدوا "، ومن قرأ بالضم فهي مكروهة عند أكثر النحويين، واحتج الكسائي في الضم بقولهم: " مسعود: (وهذا) لا حجة فيه له، لأن " فيه " محذوفة منه. يقال: مكان مسعود فيه. واحتج الكسائي بقول العرب: " فغر فاه، وفغر فوه "، وجبر العظم وجبرته، ونزحت البئر ونزحتها: فهذا لا يقاس عليه، إنما يسمع

صفحة رقم 3470

سماعاً. واحتج الكسائي للضم أيضاً، بأنه كذلك سمعتُ من أًحاب عبد الله يقرؤونها.
وكان الكسائي، وغيره حكوها لغة في " أسعد ": تسقط الألف وتضم السين. كقوله: ﴿مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾، وقال في موضع آخر: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، وقال: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض﴾ [إبراهيم: ٤٨]. فإن قيل: فما دوام ذلك على هذا؟ فالجواب إن ابن عباس قال: وقد سأله رجل، فقال: يا أبا عبد الله من أي شيء خلقت الأشياء؟ فقال: من خمسة أشياء من نار، وتراب، وريح، وماء، ودخان. فقال له: ومن أي شيء خلقت هذه الخمسة؟ فقال: من نور العرش. فقال له: أفرأيت قول الله تعالى، ﴿ مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾، وقوله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض﴾ [إبراهيم: ٤٨] وقوله:

صفحة رقم 3471

﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] فما دوامها، وقد فنيتا. فقال ابن عباس: فإذا كان ذلك، ردتا إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتان لا بد في نور العرش.
ومعنى: ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾: غير مقطوع، وقيل: غير منزوع.
(شقي وسعيدٌ): وقف. ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ وقف عند أبي حاتم في الموضعين. والوقف على الاستثناء في قصة أهل النار جائز وليس بجائز في قصة أهل الجنة، لأن بعده " عطاء " منصوب على المصدر، فما قبله يعمل فيه. فإن نصبته بإضمار فعل وقفت على ما قبله.

صفحة رقم 3472
الهداية الى بلوغ النهاية
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الأندلسي القرطبي المالكي
الناشر
مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة
سنة النشر
1429
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية