
الشَّبَهِ تَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّ الْجِبَالَ تَنْدَكُّ بِالزَّلَازِلِ وَنَحْوِهَا فَتَتَفَرَّقُ أَجْزَاءً.
وَإِعَادَةُ كَلِمَةِ تَكُونُ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْكَوْنَيْنِ فَإِنَّ أَوَّلَهُمَا كَوْنُ إِيجَادٍ، وَالثَّانِيَ كَوْنُ اضْمِحْلَالٍ، وَكِلَاهُمَا عَلَامَةٌ عَلَى زَوَالِ عَالَمٍ وَظُهُورِ عَالَمٍ آخَرَ.
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ فِي سُورَة المعارج [٩].
[٦- ١١]
[سُورَة القارعة (١٠١) : الْآيَات ٦ إِلَى ١١]
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ (١٠)
نارٌ حامِيَةٌ (١١)
تَفْصِيلٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤] مِنْ إِجْمَالِ حَالِ النَّاسِ حِينَئِذٍ، فَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ اسْمِ النَّاسِ الشَّامِلِ لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاءِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَفْصِيلُهُ بِحَالَيْنِ: حَالٍ حَسَنٍ وَحَالٍ فَظِيعٍ.
وَثِقَلُ الْمَوَازِينِ كِنَايَةٌ عَنْ كَونه بِمحل الرضى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ، لِأَنَّ ثِقَلَ الْمِيزَانِ يَسْتَلْزِمُ ثِقْلَ الْمَوْزُونِ وَإِنَّمَا تُوزَنُ الْأَشْيَاءُ الْمَرْغُوبُ فِي اقْتِنَائِهَا، وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْعَرَبِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ بِالْوَزْنِ وَنَحْوِهِ، وَبِضِدِّ ذَلِكَ يَقُولُونَ:
فُلَانٌ لَا يُقَامُ لَهُ وَزْنٌ، قَالَ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الْكَهْف: ١٠٥]، وَقَالَ النَّابِغَةُ:
وَمِيزَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَجْدِ مَاتِعٌ أَيْ رَاجِحٌ وَهَذَا مُتَبَادِرٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَرِّحْ فِي الْآيَةِ بِذِكْرِ مَا يُثَقِّلُ الْمَوَازِينَ لِظُهُورِ أَنَّهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْمِيزَانِ لِلْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ» : لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي الْمِيزَانِ. وَالْمَقْصُودُ عَدَمُ فَوَاتِ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِآلَةٍ أَوْ بِعَمَلِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْعِيشَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ الْعَيْشِ كَالْخِيفَةِ اسْمٌ لِلْخَوْفِ. أَيْ فِي حَيَاةٍ.
وَوَصْفُ الْحَيَاةِ بِ راضِيَةٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الرَّاضِيَ صَاحِبَهَا رَاضٍ بِهَا فَوُصِفَتْ بِهِ الْعِيشَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الرِّضَى أَوْ زَمَانُ الرِّضَى.
وَقَوْلُهُ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ إِخْبَارٌ عَنْهُ بِالشَّقَاءِ وَسُوءِ الْحَالِ، فَالْأُمُّ هَنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا. وَهَاوِيَةٌ: هَالِكَةٌ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَئِذٍ بِحَالِ الْهَالِكِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْعَرَبَ يُكَنُّونَ عَنْ حَالِ الْمَرْءِ بِحَالِ أُمِّهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهَا ابْنَهَا فَهِيَ أَشَدُّ سُرُورًا بِسُرُورِهِ وَأَشَدُّ حُزْنًا بِمَا يُحْزِنُهُ. صَلَّى أَعْرَابِيٌّ وَرَاءَ إِمَامٍ فَقَرَأَ الْإِمَامُ:
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاء: ١٢٥] فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: «لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ» وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ زَيَّابَةَ حِينَ تَهَدَّدَهُ الْحَارِثُ بْنُ هَمَّامٍ الشَّيْبَانِيُّ:
يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّا | بَحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ |
هَوَتْ أُمُّهُ مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِيًا | وَمَاذَا يَرُدُّ اللَّيْل حِين يؤوب |
فَاسْتُعْمِلَ الْمُرَكَّبُ الَّذِي يُقَالُ عِنْدَ حَالِ الْهَلَاكِ وَسُوءِ الْمصير فِي الْحَالة الْمُشَبَّهَةِ بِحَالِ الْهَلَاكِ، وَرَمَزَ إِلَى التَّشْبِيهِ بِذَلِكَ الْمُرَكَّبِ، كَمَا تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ السَّائِرَةُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «أُمُّهُ» مُسْتَعَارًا لِمَقَرِّهِ وَمَآلِهِ لِأَنَّهُ يَأْوِي إِلَيْهِ كَمَا يَأْوِي الطِّفْلُ إِلَى أُمِّهِ.
وهاوِيَةٌ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الَّذِي إِذَا سَقَطَ فِيهِ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ هَلَكَ، يُقَالُ: سَقَطَ فِي الْهَاوِيَةِ.
وَأُرِيدَ بِهَا جَهَنَّمُ، وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ لِجَهَنَّمَ، أَيْ فَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ. صفحة رقم 514

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «أُمُّهُ» عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أم رَأسه، وَهِي أَعلَى الدِّمَاغ، وهاوِيَةٌ سَاقِطَة من قَوْلهم سقط على أُمُّ رَأْسِهِ، أَيْ هَلَكَ.
وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ: تَهْوِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَضَمِيرُ هِيَهْ عَائِدٌ إِلَى هاوِيَةٌ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِي الضَّمِيرِ اسْتِخْدَامٌ، إِذْ مُعَادُ الضَّمِيرِ وَصْفُ هَالِكَةٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْمُ جَهَنَّمَ كَمَا فِي قَوْلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُلَقَّبِ مُعَوِّذَ الْحُكَمَاءِ:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ | رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا |
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَكُونُ فِي هِيَهْ اسْتِخْدَامٌ أَيْضًا كَالْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَالْهَاءُ الَّتِي لَحِقَتْ يَاءَ (هِيَ) هَاءُ السَّكْتِ، وَهِي هَاءٌ تُجْلَبُ لِأَجْلِ تَخْفِيفِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، فَمِنْهُ تَخْفِيفٌ وَاجِبٌ تُجْلَبُ لَهُ هَاءُ السَّكْتِ لُزُومًا، وَبَعْضُهُ حَسَنٌ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ وَذَلِكَ فِي كُلِّ اسْمٍ أَوْ حَرْفٍ بِآخِرِهِ حَرَكَةُ بِنَاءٍ دَائِمَةٌ مِثْلَ: هُوَ، وَهِيَ، وَكَيْفَ، وَثُمَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [١٩].
وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ أَثْبَتُوا النُّطْقَ بِهَذِهِ الْهَاءِ فِي حَالَتَيِ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ وَحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ.
وَجُمْلَةُ: نارٌ حامِيَةٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ، وَالْمَعْنَى: هِيَ نَارٌ حَامِيَةٌ.
وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي اتُّبِعَ فِي حَذْفِهِ اسْتِعْمَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَوَصْفُ نارٌ بِ حامِيَةٌ مِنْ قَبِيلِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِأَنَّ النَّارَ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَمْيِ فوصفها بِهِ وصف بِمَا هُوَ من مَعْنَى لَفْظِ نارٌ فَكَانَ كَذِكْرِ الْمُرَادِفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الْهمزَة: ٦]. صفحة رقم 515

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
١٠٢- سُورَةُ التَّكَاثُرِقَالَ الْآلُوسِيُّ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمُّونَهَا «الْمَقْبَرَةَ» اهـ.
وَسُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ الْمَصَاحِفِ وَمُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ التَّكَاثُرِ» وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَهِيَ كَذَلِكَ مُعَنْوَنَةٌ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ الْعَتِيقَةِ بِالْقَيْرَوَانِ. وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ «سُورَةَ أَلْهَاكُمْ» وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ».
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ لَا أَعْلَمُ فِيهَا خِلَافًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُفَاخَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي سَهْمٍ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا وَكَانُوا مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَلِأَنَّ قُبُورَ أَسْلَافِهِمْ بِمَكَّةَ.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» : الْمُخْتَارُ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. قَالَ: وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ تَفَاخَرُوا،
وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلنْ يمْلَأ فَاه إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ»
. قَالَ أُبَيٌّ: كُنَّا نرى هَذَا فِي الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ [التَّكَاثُرُ: ١] اهـ. يُرِيدُ الْمُسْتَدِلُّ بِهَذَا أَنَّ أُبَيًّا أَنْصَارِيٌ وَأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: حَتَّى نَزَلَتْ:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَعُدُّونَ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ إِلَخْ مِنَ الْقُرْآنِ» وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أُبَيٍّ دَلِيلٌ نَاهِضٌ إِذْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِضَمِيرِ (كُنَّا) الْمُسْلِمِينَ، أَيْ كَانَ مَنْ سَبْقَ مِنْهُمْ يَعُدُّ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ التَّكَاثُرِ وَبَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ. صفحة رقم 517