
- ٢- إحضار فرعون السّحرة لمقاومة دعوة موسى
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
الإعراب:
ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ فَلَمَّا: إما اسم موصول بمعنى الذي، وإما استفهامية، فإذا كانت اسما موصولا كانت مع الصّلة في موضع رفع بالابتداء، والسِّحْرُ: خبره. وإذا كانت استفهاما كانت أيضا مبتدأ، وجِئْتُمْ بِهِ الخبر، والسِّحْرُ خبر مبتدأ مقدر، تقديره: هو السحر.
ويجوز أن تكون فَلَمَّا في موضع نصب على تقدير فعل بعد فَلَمَّا وتقديره: أي شيء أتيتم أو جئتم به، والسِّحْرُ خبر مبتدأ مقدر أي هو السحر.
ولا يجوز أن تكون فَلَمَّا في موضع نصب إذا كانت بمعنى الذي لأن ما بعدها صلتها، والصّلة لا تعمل في الاسم الموصول، ولا تكون تفسيرا للعامل الذي تعمل فيه.
البلاغة:
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
ساحِرٍ عَلِيمٍ حاذق في السحر، فائق فيه. فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم. ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي الذي جئتم به هو السّحر، لا ما سمّاه فرعون وقومه سحرا وهو المعجزات. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ سيمحقه أو سيظهر بطلانه. إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يثبته ولا يقويه.
وفيه دليل على أن السّحر إفساد وتمويه لا حقيقة له. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي يثبته ويظهره.
بِكَلِماتِهِ بأوامره وقضاياه. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.

المناسبة:
هذا هو الفصل الثاني من قصة موسى مع فرعون، فإن فرعون أراد الاستعانة بالسّحرة لمعارضة معجزة موسى ومقاومة دعوته، فأمر بإحضار حذاق السّحرة ليظهر للناس أن ما أتى به موسى نوع من السّحر، فيصد الناس عن اتّباعه، باعتبار أنه ساحر.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثاني من قصة موسى عليه السّلام حيث استعان فرعون عليه بالسحرة.
ويلاحظ أنه ذكرت قصة السّحرة مع موسى في سورة الأعراف، كما تقدّم، وفي هذه السّورة، وفي سورة طه وفي الشّعراء لأن فرعون أراد التمويه على الناس وصدّهم عن اتّباع موسى ومعارضة ما جاء به عليه السّلام من الحقّ المبين، من طريق زخارف السّحرة والمشعوذين، فانعكس عليه الأمر، وصدم مرامه، وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ، قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الأعراف ٧/ ١٢٠- ١٢٢].
ومعنى الآيات هنا: قال فرعون لحاشيته أو ملئه لما رأى العصا واليد البيضاء واعتقد أنها سحر فائق حاذق في علم السحر، لظنّهم ألا فرق بين المعجزة الإلهية والسّحر. فأتوا بهم، فلما جاء السّحرة وتجمّعوا، قال لهم موسى بعد أن خيّروه بين أن يلقي ما عنده أولا، أو يلقوا هم ما عندهم، كما ذكر في سورة الأعراف: بل ألقوا ما أنتم ملقون من فنون السّحر، ليظهر الحقّ ويبطل الباطل. فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا، ويستنفدوا ما لديهم من طاقات وخبرات، ثم يأتي بالحق بعده، فيدمغ باطلهم، ولهذا لما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وجاؤوا بسحر عظيم: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا:

لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه ٢٠/ ٦٧- ٦٩].
فَلَمَّا أَلْقَوْا.. أي فلما ألقوا ما عندهم من الحبال والعصي قال موسى واثقا غير مبال بهم: ما أتيتم به هو السّحر بعينه، لا ما سمّاه فرعون سحرا مما جئت به من الآيات والمعجزات من عند الله. وهذا السّحر الذي أظهر تموه إن الله سيمحقه وسيظهر بطلانه قطعا أمام الناس، بما يفوقه من المعجزة التي هي آية خارقة للعادة تفوق السّحر وأشكاله المختلفة.
ثم علل ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يثبّته ولا يقويه، ولا يجعله صالحا للبقاء، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي ويريد الله أن يؤيّد الحقّ ويظهره، ويثبته ويقويه، وينصره على الباطل بأوامره ووعده موسى، وقيل: بما سبق من قضائه وقدره. وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي ولو كره المجرمون الظالمون كفرعون وملئه ذلك، أي نصر الحقّ على الباطل. وفي آية أخرى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف ٧/ ١١٨]، وقوله تعالى: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه ٢٠/ ٦٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه مبارزة بين الحقّ والباطل، بين المعجزة والسّحر، فالمعجزة آية إلهية خارقة للعادة يؤيّد الله بها صدق الأنبياء لإقناع الناس وتصديق دعوتهم. وأمّا السّحر فهو إفساد وتمويه وتزييف لا حقيقة له، فلم يستطع الصمود أمام الشيء الحقيقي الثابت الذي لا تمويه فيه.
وهذا المعنى هو ما تضمنته آية: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يضرّ أحدا كيد ساحر. لذا قال العلماء: لا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر.