آيات من القرآن الكريم

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
ﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡﰢﰣﰤ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﰿ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ

هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من اللوح المحفوظ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ الذي هو الأم، أهي كيف يكون مختلقا وقد أثبت قبله في كتابين مفصلا ومجملا بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ذم لهم بالمسارعة إلى تكذيب الحق قبل التأمل والتدبر والاطلاع على الحقيقة وهذه عادة المنكرين أهل الحجاب مع كلمات القوم حيث إنهم يسارعون إلى إنكارها قبل التأمل فيها وتدبر مضامينها والوقوف على الاصطلاحات التي بنيت عليها وكان الحري بهم التثبت والتدبر والله تعالى ولي التوفيق.

صفحة رقم 117

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بيان لكونهم مطبوعا على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم ومَنْ مبتدأ خبره مقدم عليه، وهو إما موصول أو نكرة موصوفة والجملة بعده إما صلة أو صفة، وجمع الضمير الراجع إليه رعاية لجانب المعنى كما أفرد فيما بعد رعاية لجانب اللفظ، ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناء على عدم توقف الاستماع على ما يتوقف عليه النظر من الشروط العادية أو العقلية، والمعنى ومن المكذبين الذين أو أناس يصغون إلى القرآن أو إلى كلامك إذا علمت الشرائع وتصل الألفاظ لآذانهم، ولكن لا ينتفعون بها ولا يقبلونها كالصم الذين لا يسمعون أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أي تقدر على أسماعهم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقلهم لأن الأصم العاقل ربما تفرس إذا وصل إلى صماخه دوي وأما إذا اجتمع فقدان السمع والعقل فقد تم الأمر، وإنما جعلوا كالصم الذين لا عقل لهم مع كونهم عقلاء لأن عقولهم قد أصيبت بآفة معارضة الوهم لها وداء متابعة الالف والتقليد، ومن هنا تعذر عليهم فهم معاني القرآن والأحكام الدقيقة وإدراك الحكم الرشيقة الأنيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما تنتفع به البهائم من كلام الناعق وتقديم المسند إليه في أَفَأَنْتَ للتقوية عند السكاكي وجعله العلامة للتخصيص. ففي تقديم الفاعل المعنوي وإيلائه همزة الإنكار الدلالة على أن نبي الله صلّى الله عليه وسلم تصور في نفسه من حرصه على إيمان القوم أنه قادر على الاسماع أو نزل منزلة من تصور أنه قادر عليه وأنه تعالى شأنه نفى ذلك عنه صلّى الله عليه وسلم وأثبته لنفسه سبحانه على الاختصاص كأنه قيل: أنت لا تقدر على إسماع أولئك بل نحن القادرون عليه كذا قيل وفي القلب منه شيء، ولذا اختير هنا مذهب السكاكي، وجعل إنكار الإسماع متفرعا على المقدمة الاستدراكية المطوية المفهومة من المقام حسبما أشير إليه، وفيه اعتبار كون الهمزة مقدمة من تأخير لاقتضائها الصدارة وهو مذهب لبعضهم.
وقيل: إنها في موضعها، وأدخلت الفاء لإنكار ترتب الإسماع على الاستماع لكن لا بطريق العطف على فعله المذكور الواقع صلة أو صفة للزوم اختلال المعنى على ذلك بل بطريق العطف على فعل مثله مفهوم من فحوى النظم غير واقع موقعه كأنه قيل: أيستمعون إليك فأنت تسمعهم، وقد يراد إنكار إمكان وقوع الإسماع عقيب ذلك وترتبه عليه كما ينبىء عنه وضع الصم موضع ضميرهم ووصفهم بعدم العقل، وجواب لَوْ محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها، والكل في موضع الحال من مفعول الفعل السابق، أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون على معنى أفأنت تسمعهم على كل حال مفروض ويقال- للو- هذه وصلية وذلك أمر مشهور. واستشكل الإتيان بها هنا بأن الأصل فيها أن يكون الحكم على تقدير تحقق مدخولها ثابتا كما أنه ثابت على تقدير عدمه إلا أنه على تقدير عدمه أولى والأمر هنا بالعكس. وأجيب بأن اتصال الوصل بالإثبات جار على المعروف فإن تقديره تسمعهم ولو كانوا لا يعقلون وظاهر أن إسماعهم مع العقل بطريق الأولى، والاستفهام إثبات بحسب الظاهر فإن نظر إليه فذاك وإن نظر إلى الإنكار وأنه نفي بحسب المعنى اعتبر أنه داخل على المجموع بعد

صفحة رقم 119

ارتباطه وكذا يقال فيما بعد فتأمل فيه ولا تغفل وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ويعاين دلائل نبوتك الواضحة ولكن لا يهتدي بها كالأعمى أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ تقدر على هدايتهم وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أي ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الأبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك هي البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدرك البصير الأحمق، فلا يقال: كيف أثبت لهم النظر والأبصار أو لا ونفى عنهم ثانيا.
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ أي لا ينقصهم شَيْئاً مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادئ الإدراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل عليهم السلام ونصب الأدلة بل يوفيهم ذلك فضلا منه جل شأنه وكرما وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي ينقصون ما ينقصون من ذلك لعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له وإعراضهم عن قبول الحق وتكذيبهم للرسل وترك النظر في الأدلة- فشيئا- مفعول ثان- ليظلم- بناء على أنه مضمن معنى ينقص كما قيل أو أنه بمعناه من غير حاجة إلى القول بالتضمين كما نقول وأن النقص يتعدى لاثنين كما يكون لازما ومتعديا لواحد، ولم يذكر ثاني مفعولي الثاني لعدم تعلق الغرض به، وتقديم المفعول الأول يحتمل أن يكون لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصر كابن الأثير ومن تبعه كما في قوله سبحانه: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود: ١٠١] ويحتمل أن يكون لقصر المظلومية على رأي من يرى التقديم موجبا لذلك كالجمهور ومن تبعهم، ولعل إيثار قصرها على قصر الظالمية عليهم للمبالغة في بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم على أن قصر الأولى عليهم مستلزم كما قيل لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم فاكتفى بالقصر الأول عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة.
وجوز بعضهم كون أَنْفُسَهُمْ تأكيدا للناس والمفعول حينئذ محذوف فيكون بمنزلة ضمير الفصل في قوله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: ٧٦] في قصر الظالمية عليهم، والتعبير عن فعلهم ذلك بالنقص مع كونه تفويتا بالكلية لمراعاة جانب قرينه، وصيغة المضارع للاستمرار نفيا وإثباتا أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأن حرف النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقام استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما مر غير مرة.
وقيل: المعنى أن الله لا يظلم الناس بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم ولكن الناس أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا فإن مباشرتهم المستمرة للسيئات الموجبة للتعذيب عين ظلمهم لأنفسهم فالظلم على معناه المشهور، وشَيْئاً مفعول مطلق والمضارع المنفي للاستقبال والمثبت للاستمرار، ومساق الآية الكريمة على الأول لإلزام الحجة وعلى الثاني للوعيد وعلى الوجهين هي تذييل لما سبق، وجعلها على الأول تذييلا لجميع التكاليف والأقاصيص المذكورة من أول السورة وإن كان متجها خلاف الظاهر لا سيما وما بعد ليس ابتداء مشروع في قصة آخرين.
وقيل: معنى الآية أن الله لا يظلم الناس شيئا بسلب حواسهم وعقولهم إن سلبها لأنه تصرف في خالص ملكه ولكن الناس أنفسهم يظلمون بإفساد ذلك وصرفه لما لا يليق، وهي جواب لسؤال نشأ من الآية السابقة والظلم فيها على ظاهره أيضا. واستدل بها على أن للعبد كسبا وليس مسلوب الاختيار بالكلية كما ذهب إليه الجبرية والمختار عند كثير من المحققين أن نفي ظلم الناس عنه تعالى شأنه لأنه سبحانه جواد حكيم يفيض على القوابل حسب استعدادها الأزلي الثابت في العلم فما من كمال أو نقص في العبد إلا هو كماله أو نقصه الذي اقتضاه استعداده كما يرشد إلى ذلك قوله جل وعلا: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: ٥٠] وقوله سبحانه: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها

صفحة رقم 120

[الشمس: ٨] وأن إثبات ظلم الناس لأنفسهم باعتبار اقتضاء استعدادهم الثابت في العلم الأزلي ما أفيض عليهم مما استحقوا به التعذيب.
وقد ذكروا أن هذا الاستعداد غير مجعول ضرورة أن الجعل مسبوق بتعلق القدرة المسبوق بتعلق الإرادة المسبوق بتعلق العلم والاستعداد ليس كذلك لأنه لم يثبت العلم إلا وهو متعلق به بل بسائر الأشياء أيضا لأن التعلق بالمعلوم من ضروريات العلم والتعلق بما لا ثبوت له أصلا مما لا يعقل ضرورة أنه نسبة وهي لا تتحقق بدون ثبوت الطرفين، ولا يرد على هذا أنه يلزم منه استغناء الموجودات عن المؤثر لأنا نقول: إن كان المراد استغناءها عن ذلك نظرا إلى الوجود العلمي القديم فالأمر كذلك ولا محذور فيه وإن كان المراد استغناءها عن ذلك نظرا إلى وجودها الخارجي الحادث فلا نسلم اللزوم وتحقيق ذلك بما له وما عليه في محله، وفي الآية على هذا تنبيه على أن كون أولئك المكذبين كما وصفوا إنما نشأ عن اقتضاء استعدادهم له ولذلك ذموا به لا عن محض تقديره عليهم من غير أن يكون منهم طلب له باستعدادهم ولعل تسمية التصرف على خلاف ما يقتضيه الاستعداد لو كان ظلما من باب المجاز وتنزيل المقتضى منزلة الملك وإلا فحقيقة الظلم مما لا يصح إطلاقه على تصرف من تصرفاته تعالى كيف كان إذ لا ملك حقيقة لأحد سواه في شيء من الأشياء، ووضع الظاهر في الجملة الاستدراكية موضع الضمير لزيادة التعيين والتقرير.
وقرأ حمزة والكسائي بتخفيف «لكن» ورفع «الناس» وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ بالياء وهي قراءة حمزة على عاصم. وقرأ الباقون بالنون على الالتفات ويَوْمَ عند الأكثرين منصوب بمضمر أي اذكر لهم أو أنذرهم يوم نجمعهم لموقف الحساب كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أي كأنهم أناس لم يلبسوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ أي شيئا قليلا منه فإنها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعات أعرف حالا من ساعاته الليل والجملة في موقع الحال من مفعول يَحْشُرُهُمْ أي نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث في الدنيا أو في البرزخ إلا ذلك القدر اليسير، وليس المراد من التشبيه ظاهره على ما قيل، وقد صرح في شرح المفتاح أن التشبيه كثيرا ما يذكر ويراد به معان أخر تترتب عليه، فالمراد إما التأسف على عدم انتفاعهم بأعمارهم أو تمني أن يطول مكثهم قبل ذلك حتى لا يشاهدوا ما شاهدوه من الأهوال فمآل الجملة في الآخرة نحشرهم متأسفين أو متمنين طول مكثهم قبل ذلك، ويجوز أن يراد نحشرهم مشبهين في أحوالهم الظاهرة للناس بمن لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا يسيرا فإن من أقام بها دهرا وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثار نعمة وأحكام بهجة منافية لما بهم من رثاثة الهيئة وسوء الحال وإليه ذهب بعضهم، والظاهر أنه تكلف لإبقاء التشبيه على ظاهره والأول أولى كما لا يخفى، وأيا ما كان ففائدة التشبيه كنار على علم، والعجب ممن لم يرها فقال الظاهر إن كَأَنْ للظن، وادعى البعض أن فائدة التقييد على تقدير أن يراد اللبث في البرزخ بيان كمال يسر الحشر بالنسبة إلى قدرته تعالى ولو بعد دهر طويل وإظهار بطلان استبعادهم وإنكارهم بقولهم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون: ٨٢، الصافات: ١٦، الواقعة: ٤٧] ونحو ذلك أو بيان تمام الوافقة بين النشأتين في الإشكال والصور فإن قلة اللبث في البرزخ من موجبات عدم التبدل والتغير، ولعل مآل الحال على هذا ويوم نحشرهم على صورهم وأشكالهم غير متغيرين، وجوز أبو علي كون الجملة في موضع الصفة- ليوم- والعائد محذوف تقديره كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف والعائد كذلك أي حشرا كأن لم يلبثوا قبله، ورد بأن مثل هذا الرابط لا يجوز حذفه والأول بأن المراد بالظرف المضاف وهو الموصوف يوم القيامة وهو يوم معين وتقدير الكلام يوم حشره أو يوم حشرنا فيكون الموصوف معرفة والجمل نكرات ولا تنعت المعرفة بالنكرة. وأجيب بأن المنع من جواز حذف مثل ذلك الرابط في حيز المنع وبأن الجمل التي تضاف إليها أسماء الزمان قد يقدر حلها إلى معرفة فيكون ما أضيف إليها معرفة

صفحة رقم 121

وقد يقدر حلها إلى نكرة فيكون ذلك نكرة، ولعل أبا علي يتكلف لاعتبار حلها إلى نكرة ويكون الموصوف هنا نكرة عنده فيرتفع محذور نعت المعرفة بالنكرة. وأنت تعلم أن الجواب إنما يدفع البطلان لا غير فالحق ترجيح الحالية، وقوله سبحانه: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا يحتمل أن يكون استئنافا وأن يكون بيانا للجملة التشبيهية واستدلالا عليها كما قيل، وذلك أنه لو طال العهد لم يبق التعارف لأن طول العهد منس مفض إلى التناكر لكن التعارف باق فطول العهد منتف وهو معنى لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً وفيه دغدغة.
وزعم أبو البقاء كونه حالا مقدرة ولا داعي لاعتبار كونها مقدرة لأن الظاهر عدم تأخر التعارف عن الحشر بزمان طويل ليحتاج إليه، وقد صرحوا بأن التعارف بينهم يكون أول خروجهم من القبور ثم ينقطع لشدة الأهوال المذهلة واعتراء الأحوال المعضلة المغيرة للصور والأشكال المبدلة لها من حال إلى حال، وعندي أن لا قطع بالانقطاع فالمواقف مختلفة والأحوال متفاوتة فقد يتعارفون بعد التناكر في موقف دون موقف وحال دون حال، وفي بعض الآثار ما يؤيد ذلك. وزعم بعضهم المنافاة بين ما تدل عليه هذه الآية وما يدل عليه قوله سبحانه: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: ١٠١] وقوله تعالى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: ١٠] من عدم التعارف لولا اعتبار الزمانين.
وقيل: لا منافاة بناء على أن المثبت تعارف تقريع وتوبيخ والمنفي تعارف تواصل وشفقة، ولمانع أن يمنع دلالة ما ذكر من الآيات على نفي التعارف، وقصارى ما يدل عليه نفي نفع الأنساب وسؤال بعضهم بعضا، والتعارف الذي تدل عليه هذه الآية لا ينافي ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال فيها: يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه فلا يستطيع أن يكلمه ثم إن حمل التعارف على معرفة بعضهم بعضا هو المعروف عند المفسرين، وقيل:
المراد به التعريف أي يعرف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطأ والكفر وفيه ما فيه.
وجوز بعضهم أن يكون الظرف السابق متعلقا- بيتعارفون- قيل فيعطف على ما سبق ولا يظهر له وجه وقوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ جملة مستأنفة سيقت للشهادة منه تعالى على خسرانهم والتعجيب منه وهي خبرية لفظا إنشائية معنى، وقيل: مقول لقول مقدر وقع حالا من ضمير يَتَعارَفُونَ أو من ضمير يَحْشُرُهُمْ إن كانت جملة يَتَعارَفُونَ حالا أيضا لئلا يفصل بين الحال وذيها أجنبي والاستئناف أظهر، والتعبير عنهم بالموصول مع أن المقام مقام إضمار لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لما أصابهم، والظاهر أن المراد بلقاء الله تعالى مطلق الحساب والجزاء وبالخسران الوضيعة أي قد وضعوا في تجارتهم ومعاملتهم واشترائهم الكفر بالإيمان، وجوز أن يراد بالأول سوء اللقاء وبالثاني الهلاك والضلال، أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم بذلك وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي لطرق التجارة عارفين بأحوالها أو ما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة، والجملة عطف على جملة قَدْ خَسِرَ إلخ، وجوز أن تكون معطوفة على صلة الموصول على أنها كالتأكيد لها وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أصله إن نرينك وما مزيد لتأكيد معنى الشرط ومن تمت أكد الفعل بالنون والرؤية بصرية أي إما نرينك بعينك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب بأن نعذبهم في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب للشرط وما عطف عليه. والمعنى إن عذابهم في الآخرة مقرر عذبوا في الدنيا أو لا، وقيل: هو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ كأنه قيل: إما نتوفينك فإلينا مرجعهم فنريكه في الآخرة وجواب محذوف أي إما نرينك فذاك المراد أو المتمنى أو نحو ذلك، وقال الطيبي: أي فذاك حق وصواب أو واقع أو ثابت واختار الأول أبو حيان، والاعتراض عليه بأن الرجوع لا يترتب على تلك الإراءة فيحتاج إلى التزام كون الشرطية اتفاقية ناشىء من الغفلة عن المعنى المراد، والمراد من نَعِدُهُمْ وعدناهم إلا أنه عدل إلى صيغة

صفحة رقم 122

الاستقبال لاستحضار الصورة أو للدلالة على التجدد والاستمرار أي نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار.
وفي تخصيص البعض بالذكر قيل رمز إلى أن العدة بإراءة بعض الموعود وقد أراه صلّى الله عليه وسلم ذلك يوم بدر ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ من الأفعال السيئة التي حكيت عنهم، والمراد من الشهادة لازمها مجازا وهو المعاقبة والجزاء فكأنه قيل: ثم الله تعالى معاقب على ما يفعلون، وجوز أن يراد منها إقامتها وأداؤها بإنطاق الجوارح وإلا فشهادة الله سبحانه بمعنى كونه رقيبا وحافظا أمر دائم في الدارين وثُمَّ لا تناسب ذلك، والظاهر أنها على هذين الوجهين على ظاهرها. وفي الكشف وغيره هي على الأول للتراخي الرتبي وعلى الثاني على الظاهر وظاهر كلام البعض استحسان حملها على التراخي الرتبي مطلقا ولا أرى لارتكاب خلاف الظاهر بعد ذلك الارتكاب داعيا، وأن العطف بها على الجزاء لا على مجموع الشرطية، وأنت تعلم أن العطف على ذاك يمنع من إرادة التعذيب منه أو إراءته أو نحو ذلك مما لا يصح أن يكون المعنى المعطوف بثم بعده ومترتبا عليه، ولعل ما اعتبروه هناك ليس تفسيرا للرجوع بل هو بيان للمقصود من الكلام، وإظهار اسم الجلالة لإدخال الروعة وتربية المهابة وتأكيد التهديد. وقرأ ابن أبي عبلة ثُمَّ بالفتح أي هنالك وَلِكُلِّ أُمَّةٍ يوم القيامة رَسُولٌ تنسب إليه وتدعى به فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بعد أن يشهد بِالْقِسْطِ بالعدل وحكم بنجاة المؤمن وعقاب الكافر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أصلا والجملة قيل تذييل لما قبلها مؤكدة له.
وقيل: في موضع الحال أي مستمرا عدم ظلمهم، ونظير هذه الآية على هذا قوله سبحانه: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الزمر: ٦٩] أو لكل أمة من الأمم الخالية رسول يبعث إليهم بشريعة اقتضتها الحكمة ليدعوهم إلى الحق فإذا جاء رسولهم فبلغهم ودعاهم فكذبوه وخالفوه قضي بينهم أي بين كل أمة ورسولها بالعدل وحكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذبين والأول مما رواه ابن جرير وغيره عن مجاهد، والاستقبال عليه على ظاهره ولا يحتاج إلى تقدير مثل ما احتيج في التفسير الثاني وقد رجح بقوله تعالى:
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بناء على أن الظاهر أن المراد بالوعد الذي أشاروا إليه العذاب الدنيوي الموعود كما يرشد إليه ما بعد. واستشكل ما يقتضيه ظاهر الآية من أن الله تعالى لم يهمل أمة من الأمم قط بل بعث إلى كل واحدة منهم رسولا بأن أهل الفترة ليست فيهم رسول كما يشهد له قوله سبحانه: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: ٦] وأجيب بأن عموم الآية لا يقتضي أن يكون الرسول حاضرا مع كل أمة منهم لأن تقدمه على بعض منهم لا يمنع من كونه رسولا إلى ذلك البعض كما لا يمنع تقدم رسولنا صلّى الله عليه وسلم من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد غاية ما في الباب أن ما وقع من تخليط القوم في زمن الفترة يكون مؤديا إلى ضعف أثر دعوة الأنبياء عليهم السلام انتهى وهو كما ترى. وقد يقال: إن المراد من كل أمة كل جماعة أراد الله تعالى تكليفها حسبما سبق به علمه أو أراد سبحانه تنفيذ كلمته فيها أو نحو ذلك من المخصصات التي لا يلغو معها الحكم لا كل جماعة من الناس مطلقا فلا إشكال أصلا فتدبر. ثم إن هذا القول من المكذبين استعجال لما وعدوا به وغرضهم منه على ما قيل استبعاد الموعود وأنه مما لا يكون وقد يراد بالاستفهام الاستبعاد ابتداء إذ المقام يقتضيه ولا مانع عنه والقول بأن ذلك إنما يكون ابتداء بأين وأنى ونحوهما دون متى غير مسلم كيف وهو معنى مجازي والمجاز لا حجر فيه والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمؤمنين الذين يتلون عليهم الآيات المتضمنة لذلك، وجواب إِنْ محذوف اعتمادا على ما تقدمه أي إن كنتم صادقين في أنه يأتينا فليأتنا عجلة، ولكونه صلّى الله عليه وسلم هو الواسطة في إتيان ذلك ومنه نشأ الوعد دون

صفحة رقم 123

المؤمنين أمر صلّى الله عليه وسلم بالجواب بقوله سبحانه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا أقدر على شيء منهما بوجه من الوجوه وتقديم الضر لما أن مساق النظم الكريم لإظهار العجز عنه وأما ذكر النفع فللتعميم إظهارا لكمال العجز، وقيل: إنه استطرادي لئلا يتوهم اختصاص ذلك بالضر والأول أولى، وما وقع في سورة الأعراف من تقديم النفع فللإشعار بأهميته والمقام مقامه، والمعنى لا أملك شيئا من شؤوني ردا وإيرادا مع إن ذلك أقرب حصولا فكيف أملك شؤونكم حتى أتسبب في إتيان عذابكم الموعود حسبما تريدون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء منقطع عند جمع أي ولكن ما شاء الله تعالى كائن، وقيل: متصل على معنى إلا ما شاء الله تعالى أن أملكه، وتعقب بأنه يأباه مقام التبري عن أن يكون له صلّى الله عليه وسلم دخل في إتيان الوعد فإن ذلك يستدعي بيان كون المتنازع فيه مما لا يشاء أن يملكه عليه الصلاة والسلام: والمعتزلة قالوا باتصال الاستثناء واستدلوا بذلك على أن العبد مستقل بأفعاله من الطاعات والمعاصي، وأنت تعلم أن ذلك بمراحل عن إثبات مدعاهم. نعم استدل بها بعض من يرى رأي السلف من أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا أنه ليس له قدرة أصلا كما يقوله الجبرية، ولا أن له قدرة لكنها غير مؤثرة كما هو المشهور عن الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة إن شاء الله تعالى وإن لم يشأ كما هو رأي المعتزلة وقال: المعنى لا أقدر على شيء من الضر والنفع إلا ما شاء الله تعالى أن أقدر عليه منهما فإني أقدر عليه بمشيئته سبحانه، وقال بعضهم: إذا كان الملك بمعنى الاستطاعة يكون الاستثناء متصلا وإذا أبقي على ظاهره تعين الانقطاع، ولا يخفى أن الأصل الاتصال ولا ينبغي العدول عنه حيث أمكن من دون تعسف، وأيا ما كان فظاهر كلامهم أن الاستثناء من المفعول إلا أنه على تقدير الانقطاع ليس المعنى على إخراج المستثنى من حكم المستثنى منه ولذا جعل الحكم على ذلك التقدير أنه كائن دون أملكه مثلا فلا تدافع في كلام من حكم بالانقطاع وقال في بيان المعنى أي ولكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن مشيرا بذلك إلى النفع والضر فإنه صريح في كون المستثنى من جنس المستثنى منه المقتضي للاتصال لأن المدار عند المحققين في الأمرين على الإخراج من الحكم وعدمه.
ومما يقضي منه العجب زعم أن الاستثناء من فاعل لا أَمْلِكُ وجعل المعنى لا أملك أنا ولكن الله سبحانه هو المالك لكل ما يشاء بمشيئته لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الذين أصروا على تكذيب رسلهم أَجَلٌ لعذابهم يحل بهم عند حلوله لا يتعدى إلى أمة أخرى إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي أجل كل أمة على ما هو الظاهر، ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التقرير، والإضافة لإفادة كمال التعيين، وجوز أن يكون الضمير للأمم المدلول عليه بكل أمة، ووجه إظهار الأجل مضافا لذلك بأنه لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بعينها من بين الأمم بواسطة اكتساب الأجل بإضافته عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل: إذا جاءتهم آجالهم بالجمع كما قرأ به ابن سيرين بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها، ويفسر الأجل بحد معين من الزمان والمجيء عليه ظاهر وبما امتد إليه من ذلك فمجيئه حينئذ عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه أي إذا تم وانقضى أجلهم الخاص بهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً أي شيئا قليلا من الزمان وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عليه، والاستفعال عند جمع على أصله، ونفي طلب التأخر والتقدم أبلغ، وقال آخرون: إنه بمعنى التفعل أي لا يتأخرون ولا يتقدمون، والجملة الثانية إما مستأنفة أو معطوفة على القيد والمقيد ومنعوا عطفها على فَلا يَسْتَأْخِرُونَ لئلا يرد أنه لا يتصور التقدم بعد مجيء الأجل فلا فائدة في نفيه، وأجازه غير واحد والفائدة عنده في ذلك المبالغة في انتفاء التأخر لأنه لما نظم في سلكه أشعر بأنه بلغ في الاستحالة إلى مرتبته فهو مستحيل مثله للتقدير الإلهي وإن أمكن في نفسه، قيل: وهذا هو السر في إيراد صيغة الاستفعال أي إنه بلغ في الاستحالة إلى أنه لا يطلب إذ المحال لا يطلب. ودفع بعضهم ذلك بأن

صفحة رقم 124

جاءَ بمعنى قارب المجيء نحو قولك: إذا جاء الشتاء فتأهب له. وتعقب بأنه ليس في تقييد عدم الاستئخار بالقرب والدنو مزيد فائدة، وأشار الزمخشري إلى جواب آخر وهو أن لا يتأخر ولا يتقدم كناية عن كونه له حد معين وأجل مضروب لا يتعداه بقطع النظر عن التقدم والتأخر كقول الحماسي:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متقدم عنه ولا متأخر
فإنه أراد كما قال المرزوقي حبسني الهوى في موضع تستقرين فيه فألزمه ولا أفارقه وأنا معك مقيمة وظاعنة لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك، ووجه تقديم بيان انتفاء الاستئخار على بيان انتفاء الاستقدام قد تقدم في آية الأعراف مع بسط كلام فيها ثم لا يخفى أن هذه الآية داخلة في حيز الجواب ولم تعطف على ما قبلها إيذانا باستقلالها فيه.
قال العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه: إن الجواب بقوله سبحانه: قُلْ لا أَمْلِكُ إلخ وارد على الأسلوب الحكيم لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا استبعاد أن الموعود من الله تعالى وأنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه هو الذي يدعي أن ذلك منه فطلبوا منه تعيين الوقت تهكما وسخرية فقيل في الجواب هذا التهكم إنما يتم إذا ادعيت بأني أنا الجالب لذلك الموعود: وإذا كنت مقرا بأني مثلكم في أني لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا كيف ادعي ما ليس لي بحق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح ولم يلتفت صلّى الله عليه وسلم إلى تهكمهم واستبعادهم فقال: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إلخ، وحاصله على ما في الكشاف إن عذابكم له أجل مضروب عند الله تعالى وحد محدود من الزمان إذا جاء ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة فلا تستعجلوا، ومن هنا يعلم سر إسقاط الفاء من إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ وزيادتها في فَلا يَسْتَأْخِرُونَ على عكس آية الأعراف حيث أتى بها أولا ولم يؤت بها ثانيا، وذلك أنه لما سيقت الآية جوابا عن استعجالهم العذاب الموعود حسبما علمت آنفا اعتنى بأمر الشرطية ولزومها كمال الاعتناء فأتى بها غير متفرعة على شيء كأنها من الأمور الثابتة في نفسها الغير المتفرعة على غيرها وقوي لزوم التالي فيها للمقدم بزيادة الفاء التي بها يؤتى للربط في أمثال ذلك ولا كذلك آية الأعراف كما لا يخفى إلا على الأنعام فاحفظه فإنه من الأنفال، ولا يأباه ما مر في تقرير الاستفهام في صدر الكلام كما هو ظاهر لدى ذوي الأفهام، وكذا لا يأباه ما قيل في ربط هذه الآية بما قبلها من أنها بيان لما أبهم في الاستثناء وتقييد لما في القضاء السابق من الإطلاق المشعر بكون المقضي به أمرا منجزا غير متوفق على شيء غير مجيء الرسول وتكذيب الأمة لأنه على ما فيه ما فيه إنكار المدخلية في الجواب، ولعل الغرض يتم بمجرد ذلك لحصول التغاير بين مساقي الآيتين به أيضا، وقد يقال: إن إسقاط الفاء أولا لتكون الجملة في موضع الصفة- لأجل- تهويلا لأمره وتنويها بشأنه حسبما يقتضيه المقام، أي لكل أمة أجل موصوف بأنه إذا جاء لا يستأخرون عنه ولا يستقدمون عليه البتة، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير مثل ما مر آنفا وليس بذاك، ومما تضحك منه الموتى ما قاله بعض العظاميين بعد أن كاد يقضي عليه فكرا من أن السر في اختلاف الآيتين الإشارة منه تعالى إلى جواز الأمرين عربية ولم يعلم عافاه الله تعالى أن القرآن الكريم لم ينزل معلما للعربية مبينا لقواعدها وشارحا لما يجوز فيها وما لا يجوز، بل نزل معجزا بفصاحته وبلاغته وما تضمنه من الأسرار أقواما كل منهم في ذلك الشأن- الجذيل المحكك والعذيق المرجب..
وذكر بعض من أحيا ميت الفضل علمه وصفا عن تخليط أبناء العصر فهمه صفاء الدين عيسى البندنيجي أن مساق هذه الآية لتثبيت النبي صلّى الله عليه وسلم وشرح صدره عليه الصلاة والسلام عما عسى يضيق به بحسب البشرية من قولهم:
مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ولتلقينه صلّى الله عليه وسلم رد قولهم ذلك كما يشعر به السياق فناسب قطع كل من الجملتين عن الأخرى ليستقل كل منهما في إفادة التثبيت والرد للتأكيد والمبالغة فيها ولذا لم يؤت بالفاء في صدر

صفحة رقم 125

الشرطية وجيء بها في الجواب زيادة في ذلك لإفادتها تحقق ما بعدها عقيب ما يقتضيه بلا مهلة، وآية الأعراف سيقت وعيدا لأهل مكة، ومن البين أن محط الفائدة في إشعار أنه وعيد وأن ما هو أدخل في التخويف الجملة الشرطية، لأنها النص في نزول العذاب عند حلول الأجل وأنه لا محيص لهم عن ذلك عنده دون لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فقط فكان المقام مقام ربط ووصل فجيء بالفاء لتدل على ذلك وتؤذن باتحاد الجملتين في كونهما وعيدا ولمسامحته سبحانه في الوعيد لم يؤت بالفاء في الجواب انتهى. ولعل ما قدمناه ليس بالبعيد عنه من وجه وإن خالفه من وجه آخر ولكل وجهة والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. قُلْ لهم بعد ما بينت لهم كيفية حالك وجريان سنة الله تعالى فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتهم على أن عذابهم أمر مقرر محتوم لا يتوقف إلا على مجيء أجله المعلوم إيذانا بكمال دنوه وتنزيلا له منزلة إتيانه حقيقة أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الذي تستعجلون به ولعل استعمال إِنْ من باب المجاراة بَياتاً أي وقت بيات أَوْ نَهاراً أي عند اشتغالكم بمشاغلكم وإنما لم يقل ليلا ونهارا ليظهر التقابل لأن المراد الإشعار بالنوم والغفلة والبيات متكفل بذلك لأنه الوقت الذي يبيت فيه العدو ويوقع فيه ويغتنم فرصة غفلته وليس في مفهوم الليل هذا المعنى ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار، وقد يقال: النهار كله محل الغفلة لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو زمان قيلولة بخلاف الليل فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات فلذا خص بالذكر، والبيات جاء بمعنى البيتوتة وبمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم والمعنى المراد هنا مبني على هذا ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أي أي شيء يستعجلون من العذاب وليس شيء منه يوجب الاستعجال لما أن كله مكروه من المذاق موجب للنفار، فمن للتبعيض والضمير للعذاب والتنكير في شيء للفردية، وجوز أن يكون المعنى على التعجيب وهو مستفاد من المقام كأنه قيل: أي هول شديد يستعجلون منه، فمن بيانية وتجريدية بناء على عد الزمخشري لها منها، وقيل: الضمير لله تعالى، وعليه فالمعنى على الثاني ولكن تزول فائدة الإبهام والتفسير وما فيه من التفخيم.
وما قيل: إنه أبلغ على معنى هل تعرفون ما العذاب المعذب به هو الله سبحانه (١) فهو مشترك على التقديرين ألا ترى إلى قوله تعالى: عَذابُهُ، وماذا بمعنى أي شيء منصوب المحل مفعولا مقدما وهو أولى من جعله مبتدأ، ومن فعل قدر العائد، ومن قال: إن ضمير مِنْهُ هو الرابط مع تفسيره بالعذاب جنح إلى أن المستعجل من العذاب فهو شامل للمبتدأ فيقوم مقام رابطه لأن عموم الخبر في الاسم الظاهر يكون رابطا على المشهور ففي الضمير أولى.
وزعم أبو البقاء أن الضمير عائد إلى المبتدأ وهو الرابط وجعل ذلك نظير قولك: زيد أخذت منه درهما وليس بشيء كما لا يخفى، والمراد من المجرمون المخاطبون، وعدل عن الضمير إليه للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من إتيان العذاب فضلا عن أن يستعجلوه، وقيل: النكتة في ذلك إظهاره تحقيرهم وذمهم بهذه الصفة الفظيعة، والجملة متعلقة- بأرأيتم- على أنها استئناف بياني أو في محل نصب على المفعولية وعلق عنها الفعل للاستفهام، وهو في الأصل استفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية ثم استعمل بمعنى أخبروني لما بين الرؤية والأخبار من السببية والمسببية في الجملة فهو مجاز فيما ذكر وإليه ذهب الكثير، وذهب أبو حيان إلى أن ذلك بطريق التضمين ولم يستعمل إلا في الأمر العجيب، وجواب الشرط محذوف أي إن أتاكم عذابه في أحد ذينك الوقتين تندموا أو تعرفوا الخطأ أو فاخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون.

(١) قوله «هو الله سبحانه» كذا بخطه رحمه الله تعالى.

صفحة رقم 126

وزعم أبو حيان تعين الأخير لأن الجواب إنما يقدر مما تقدمه لفظا أو تقديرا ولم يدر أن تقديره من غير جنس المذكور إذا قامت قرينة عليه ليس بعزيز، ولئن سلم صحة الحصر الذي ادعاه فما ذكر غير خارج عنه بناء على أن المقصود من أَرَأَيْتُمْ ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ إلخ تنديمهم أو تجهيلهم كما نص عليه بعض المحققين.
وفي الكشف تقرير لأحد الأوجه المذكورة في الكشاف أن ماذا إلخ متعلق الاستخبار والشرط مع جوابه المحذوف مقرر لمضمون الاستخبار ولهذا وسط بينهما، ولما كان في الاستفهام تجهيل وتنديم قدر الجواب تندموا أو تعرفوا الخطأ، ولا مانع من تقديرهما معا أو ما يفيد المعنيين ولهذا حذف الجواب ووسط تأكيدا على تأكيد انتهى.
وجوز كون ماذا يَسْتَعْجِلُ جوابا للشرط كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني والمجموع بتمامه متعلق «بأرأيتم» ورد بأن جواب الشرط إذا كان استفهاما فلا بد فيه من الفاء تقول أن زارنا فلان فأي رجل هو ولا تحذف إلا ضرورة، وقد صرح في المفصل بأن الجملة إذا كانت إنشائية لا بد من الفاء معها، والاستفهام وإن لم يرد به حقيقته لم يخرج عن الإنشائية، والمثال مصنوع فلا يعول عليه.
وأجيب بأن الرضي صرح بأن وقوع الجملة الاستفهامية جوابا بدون الفاء ثابت في كثير من الكلام الفصيح، ولو سلم ما ذكر فيقدر القول وحذفه كثير مطرد بلا خلاف، وأورد أيضا على هذا الوجه أن استعجال العذاب قبل إتيانه فكيف يكون مرتبا عليه وجزاء له، وأجيب بأنه حكاية عن حال ماضية أي ماذا كنتم تستعجلون، ويشهد لهذا التصريح- بكنتم- فيما بعد والقرآن يفسر بعضه بعضا، وأنت تعلم أن مجرد ذلك لا يجوز كونه جوابا لأن الاستعجال الماضي لا يترتب على إتيان العذاب فلا بد من تقدير نحو تعلموا أي تعلموا ماذا إلخ، وقيل: إن أتاكم بمعنى إن قارب إتيانه إياكم أو المراد إن أتاكم أمارات عذابه، وقيل: حيث إن المراد إنكار الاستعجال بمعنى نفيه رأسا صح كونه جوابا، واعترض على جعل مجموع الشرطية متعلقا «بأرأيتم» بأنه لا يصح أن يكون مفعولا به له بناء على أنه بمعنى أخبروني وهو متعد بعن ولا تدخل الجملة إلا أنها إذا اقترنت بالاستفهام وقلنا بجواز تعليقها وفيه كلام في العربية جاز، ودفع بأن مراد القائل بالتعلق التعلق اللغوي لأن المعنى أخبروني عن صنيعكم إن أتاكم إلخ، والمراد بقوله سبحانه: أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ زيادة التنديم والتجهيل، والمعنى أئذا وقع العذاب وحل بكم حقيقة آمنتم به وعاد استهزاؤكم وتكذيبكم تصديقا وإذعانا، وجيء بثم دلالة على زيادة الاستبعاد، وفيه أن هذا الثاني أبعد من الأول وأدخل في الإنكار.
وجوز أن يكون هذا جواب الشرط والاستفهامية الأولى اعتراض، والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، وأصل الكلام على ما قيل: إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا أو وقع وتحقق آمنتم ثم جيء بحرف التراخي بدل الواو دلالة على الاستبعاد ثم زيد أداة الشرط دلالة على استقلاله بالاستبعاد وعلى أن الأول كالتمهيد له وجيء- بإذا- مؤكدا- بما- ترشيحا لمعنى الوقوع والتحقيق وزيادة للتجهيل وأنهم لم يؤمنوا إلا بعد أن لم ينفعهم البتة، وهذا الوجه مما جوزه الزمخشري. وتعقب بأنه في غاية البعد لأن ثم حرف عطف لم يسمع تصدير الجواب به والجملة المصدرة بالاستفهام لا تقع جوابا بدون الفاء وأجيب عن هذا بما مر.
وأما الجواب عنه بأنه أجرى ثُمَّ مجرى الفاء فكما أن الفاء في الأصل للعطف والترتيب وقد ربطت الجزاء فكذلك هذه فمخالف لإجماع النحاة، وقياسه على الفاء غير جلي ولهذه الدغدغة قيل: مراد الزمخشري أنه يدل على الجواب التقدير إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه وما في النظم الكريم معطوف عليه للتأكيد نحو كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وتعقب بأنه لا يخفى تكلفه فإن عطف التأكيد بثم مع حذف المؤكد مما لا ينبغي ارتكابه ولو قيل: المراد إن آمَنْتُمْ هو الجواب وأَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ معترض فالاعتراض بالواو والفاء وأما- بثم-

صفحة رقم 127

فلم يذهب إليه أحد، وبالجملة قد كثر الجرح والتعديل لهذا الوجه ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر. وقرىء «ثمّ» بفتح الثاء بمعنى هنالك، وقوله سبحانه: آلْآنَ على تقدير القول وهو الأظهر والأقوى معنى أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب الآن آمنتم به، فالآن في محل نصب على أنه ظرف لآمنتم مقدرا، ومنع أن يكون ظرفا للمذكور لأن الاستفهام له صدر الكلام. وقرىء بدون همزة الاستفهام والظاهر عندي على هذا تعلقه بمقدر أيضا لأن الكلام على الاستفهام، وبعض جوز تعلقه بالمذكور وليس بذاك. وعن نافع أنه قرىء «آلان» بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام، وقوله سبحانه: وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ في موضع الحال من فاعل آمَنْتُمْ المقدر، والكلام على ما قيل مسوق من جهته تعالى غير داخل تحت القول الملقن لتقرير مضمون ما سبق من إنكار التأخير والتوبيخ عليه، وفائدة الحال تشديد التوبيخ والتقريع وزيادة التنديم والتحسير. قال العلامة الطيبي: إن الآن آمنتم به يقتضي أن يقال بعده: وقد كنتم به تكذبون لا تَسْتَعْجِلُونَ إلا أنه وضع موضعه لأن المراد به الاستعجال السابق وهو ما حكاه سبحانه عنهم بقوله تعالى: مَتى هذَا الْوَعْدُ وكان ذلك تهكما منهم وتكذيبا واستبعادا، وفي العدول استحضار لتلك المقالة الشنيعة فيكون أبلغ من تكذبون، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصل، وقوله تعالى: ثُمَّ قِيلَ إلخ عطف على قيل المقدر قبل آلْآنَ لتوكيد التوبيخ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي وضعوا ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب موضع ما أمروا به من الإيمان والتصديق أو ظلموا أنفسهم بتعريضها للهلاك والعذاب، ووضع الموصول موضع الضمير لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي المؤلم على الدوام هَلْ تُجْزَوْنَ أي ما تجزون اليوم إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي إلا ما استمررتم على كسبه في الدنيا من أصناف الكفر التي من جملتها ما مر من الاستعجال، وزاد غير واحد في البيان سائر أنواع المعاصي بناء أن الكفار مكلفون بالفروع فيعذبون على ذلك لكن هل العذاب عليه مستمر تبعا للكفر أو منته كعذاب غيرهم من العصاة؟
قيل: الظاهر الثاني وبالجمع بين النصوص الدالة على تخفيف عذاب الكفار وما يعارضها فقالوا: إن المخفف عذاب المعاصي والذي لا يخفف عذاب الكفر وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي يستخبرونك أَحَقٌّ هُوَ أي العذاب الموعود كما هو الأنسب بالسياق دون ادعاء النبوة الذي جوزه بعضهم، ورجح عليه أيضا بأنه لا يتأتى إثبات النبوة لمنكريها بالقسم.
وأجيب بأنه ليس المراد منه إثباتها بل كون تلك الدعوى جدا لا هزلا أو أنه بالنسبة لمن يقنع بالإثبات بمثله، وقد يقال:
ما ذكر مشترك الإلزام لأن العذاب الموعود لا يثبت عند الزاعمين أنه افتراء قبل وقوعه بمجرد القسم أيضا فلا يصلح ما ذكر مرجحا، والحق أن القسم لم يذكر للإلزام بل توكيد لما أنكروه، والاستفهام للإنكار، والاستنباء على سبيل التهكم والاستهزاء كما هو المعلوم من حالهم فلا يقتضي بقاءه على أصله، وربما يقال: إن الاستنباء بمعنى طلب النبأ حقيقة لكن لا عن الحقية ومقابلها بالمعنى المتبادر لأنهم جازمون بالثاني بل المراد من ذلك الجد والهزل كأنهم قالوا: إنا جازمون بأن ما تقوله كذب لكنا شاكون في أنه جد منك أم هزل فأخبرنا عن حقيقة ذلك، ونظير هذا قولهم: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٨] على ما قرره الجماعة إلا أن ذلك خلاف الظاهر، وحَقٌّ خبر قدم على المبتدأ الذي هو هُوَ ليلي الهمزة المسئول عنه، وجوز أن يكون مبتدأ وهو مرتفع به ساد مسدا لخبر لأنه بمعنى ثابت فهو حينئذ صفة وقعت بعد الاستفهام فتعمل ويكتفى بمرفوعها عن الخبر إذا كان اسما ظاهرا أو في حكمه كالضمير المنفصل هنا، والمشهور أن استنبأ تتعدى إلى اثنين أحدهما بدون واسطة والآخر بواسطة- عن- فالمفعول الأول على هذا ليستنبؤن الكاف والثاني قامت مقامه هذه الجملة، على معنى يسألونك عن جواب هذا السؤال إذ الاستفهام لا يسأل عنه وإنما يسأل عن جوابه والزمخشري لما رأى أن الجملة هنا لا تصلح أن تكون مفعولا ثانيا معنى لما عرفت ولفظا لأنه لا يصح دخول- عن- عليها جعل الفعل مضمنا معنى القول أي يقولون لك هذا، والجملة في

صفحة رقم 128

محل نصب مفعول القول. وقرأ الأعمش «آلحق هو» بالتعريف مع الاستفهام وهي تؤيد كون الاستفهام للإنكار لما فيها من التعريض لبطلانه المقتضي لإنكاره لإفادة الكلام عليها القصر وهو من قصر المسند على المسند إليه على المشهور، والمعنى أن الحق ما تقول أم خلافه، وجعله الزمخشري من قصر المسند إليه على المسند حيث قال كأنه قيل: أهو الحق لا الباطل أو أهو الذي سميتموه الحق، وأشار بالترديد إلى أن الغرض من هذا الوجه لا يختلف جعل الحصر حقيقيا تهكما أو ادعائيا. واعترض ذلك بأنه مخالف لما عليه علماء المعاني في مثل هذا التركيب. وفي الكشف أنه يتخايل أن الحصر على معنى أهو الحق لا غيره لا معنى أهو الحق لا الباطل على ما قرروه في قولهم: زيد المنطلق والمنطلق زيد، فعلى هذا لا يسد ما ذكره الزمخشري ولكنه يضمحل بما حققناه في قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: ٢٤، التحريم: ٦] وأن انحصار أحدهما في الآخر يلاحظ بحسب المقام وحينئذ لا يبالى قدم أو أخر، وهاهنا المعنى على حصر العذاب في الحقية لا على حصر الحقيقة في العذاب.
وقد قال هناك: إن التحقيق أن نحو زيد المنطلق وعكسه إنما يحكم فيه بقصر الثاني أعني الانطلاق على الأول لأن المناسب قصر العام على الخاص، وكذلك نحو الناس هم العلماء والعلماء هم الناس وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه لأن المقصود بين، وأما في نحو قولنا: الخاشعون هم العلماء والعلماء هم الخاشعون فالحكم مختلف تقديما وتأخيرا وأحد القصرين غير الآخر، فينبغي أن ينظر إلى مقتضى المقام إن تعين أحدهما لذلك حكم به قدم أو أخر وإلا روعي التقديم والتأخير، وقد يكون القصر متعاكسا نحو زيد المنطلق إذا أريد المعهود وهذا ذاك، وكذلك الجنسان إذا اتحدا موردا كقولك: الضاحك الكاتب إلى آخر ما قال، وكون المعنى هاهنا على حصر العذاب في الحقية دون العكس هو المناسب، ومخالفة علماء المعاني ليست بدعا من صاحب الكشاف وأمثاله، والحق ليس محصورا بما هم عليه كما لا يخفى فتدبر قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أي قل لهم غير مكترث باستهزائهم مغضيا عما قصدوا بانيا للأمر على أساس الحكمة: نعم إن ذلك العذاب الموعود ثابت البتة، فضمير إِنَّهُ للعذاب أيضا وإِي حرف جواب وتصديق بمعنى نعم قيل: ولا تستعمل كذلك إلا مع القسم خاصة كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة، ولذلك سمع من كلامهم وصلها بواو القسم إذا لم يذكر المقسم به فيقولون- إيو- ويوصلون به هاء السكت أيضا فيقولون:- إيوه- وهذه اللفظة شائعة اليوم في لسان المصريين وأهل ذلك الصقع. وادعى أبو حيان أنه يجوز استعمالها مع القسم وبدونه إلا أن الأول هو الأكثر قال: وما ذكر من السماع ليس بحجة لأن اللغة فسدت بمخالطة غير العرب فلم يبق وثوق بالسماع، وحذف المجرور بواو القسم والاكتفاء بها لم يسمع من موثوق به وهو مخالف للقياس، وأكد الجواب بأتم وجوه التأكيد حسب شدة إنكارهم وقوته وقد زيد تقريرا وتحقيقا بقوله جل شأنه: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين العذاب على أنه من فاته الأمر إذا ذهب عنه، ويصح جعله من أعجزه بمعنى وجده عاجزا أي ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزا عن إدراككم وإيقاعه بكم، وأيا ما كان فالجملة إما معطوفة على جواب القسم أو مستأنفة سيقت لبيان عجزهم عن الخلاص مع ما فيه من التقرير المذكور.
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ أي بالكفر أو بالتعدي على الغير أو غير ذلك من أصناف الظلم كذا قيل، وربما يقتصر على الأول لأنه الفرد الكامل مع أن الكلام في حق الكفار ولَوْ قيل بمعنى أن وقيل على ظاهرها واستبعد ولا أراه بعيدا ما فِي الْأَرْضِ أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالها ومنافعها قاطبة لَافْتَدَتْ بِهِ أي لجعلته فدية لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه فالمفعول محذوف أي لافتدت نفسها به.
وجوز أن يكون افتدى لازما على أنه مطاوع فدى المتعدي يقال فداه فافتدى، وتعقب بأنه غير مناسب للسياق

صفحة رقم 129

إذ المتبادر منه أن غيره فداه لأن معناه قبلت الفدية والقابل غير الفاعل، ونظر فيه بأنه قد يتحد القابل والفاعل إذا فدى نفسه نعم المتبادر الأول وَأَسَرُّوا أي النفوس المدلول عليها بكل نفس، والعدول إلى صيغة الجمع لإفادة تهويل الخطب بكون الأسرار بطريق المعية والاجتماع، وإنما لم يراع ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كون جمع ما في الأرض لكل واحد من النفوس، وإيثار صيغة جمع المذكر لحمل لفظ النفس على الشخص أو لتغليب ذكور مدلوله على إنائه، والأسرار الإخفاء أي أخفوا النَّدامَةَ أي الغم والأسف على ما فعلوا من الظلم، والمراد إخفاء آثارها كالبكاء وعض اليد وإلا فهي من الأمور الباطنة التي لا تكون إلا سرا وذلك لشدة حيرتهم وبهتهم لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي عند معاينتهم من فظاعة الحال وشدة الأهوال ما لم يمر لهم ببال، فأشبه حالهم حال المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من الخطب ويغلب حتى لا يستطيع التفوه ببنت شفة ويبقى جامدا مبهوتا، وقيل: المراد بالأسرار الإخلاص أي أخلصوا الندامة وذلك إما لأن إخفاءها إخلاصها وإما من قولهم: سر الشيء لخالصه الذي من شأنه أن يخفى ويصان ويضن به وفيه تهكم بهم: وقال أبو عبيدة. والجبائي: إن الأسرار هنا بمعنى الإظهار. وفي الصحاح أسررت الشيء كتمته وأعلنته أيضا وهو من الأضداد، والوجهان جميعا يفسران في قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ وكذلك في قول امرئ القيس:
لو يسرون مقتلي
انتهى وفي القاموس أيضا أسره كتمه وأظهره ضد، وفيه اختلاف اللغويين فإن الأزهري منهم ادعى أن استعمال أسر بمعنى أظهر غلط وأن المستعمل بذلك المعنى هو أشهر بالشين المعجمة لا غير. ولعله قد غلط في التغليط، وعليه فالإظهار أيضا باعتبار الآثار على ما لا يخفى.
وجوز بعضهم أن يكون المراد بالإسرار الإخفاء إلا أن المراد من ضمير الجمع الرؤساء أي أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم، وفيه أن ضمير أَسَرُّوا عام لا قرينة على تخصيصه على أن هول الموقف أشد من أن يتفكر معه في أمثال ذلك، وجملة أَسَرُّوا مستأنفة على الظاهر وقيل:
حال بتقدير قد، ولَمَّا على سائر الأوجه بمعنى حين منصوب بأسروا، وجوز أن يكون للشرط والجواب محذوف على الصحيح لدلالة ما تقدم عليه أي لما رأوا العذاب أسروا الندامة وَقُضِيَ أي حكم وفصل بَيْنَهُمْ أي بين النفوس الظالمة بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. أصلا لأنه لا يفعل بهم إلا ما يقتضيه استعدادهم، وقيل:
ضمير بَيْنَهُمْ للظالمين السابقين في قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ والمظلومين الذين ظلموهم وإن لم يجر لهم ذكر لكن الظلم يدل بمفهومه عليهم وتخصيص الظلم بالتعدي، والمعنى وقعت الحكومة بين الظالمين والمظلومين وعومل كل منهما بما يليق به. وأنت تعلم أن المقام لا يساعد على ذلك لأنه إن لم يقتض حمل الظلم على أعظم أفراده وهو الشرك فلا أقل من أنه يقتضي حمله على ما يدخل ذلك فيه دخولا أوليا، والظاهر أن جملة قُضِيَ مستأنفة، وجوز أن تكون معطوفة على جملة رَأَوُا فتكون داخلة في حيز لما أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن له سبحانه لا لغيره تعالى ما وجد في هذه الإجرام العظيمة داخلا في حقيقتها أو خارجا عنها متمكنا فيها، وكلمة ما لتغليب غير العقلاء على العقلاء، وهو تذييل لما سبق وتأكيد واستدلال عليه بأن من يملك جميع الكائنات وله التصرف فيها قادر على ما ذكر وقيل: إنه متصل بقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ كأنه بيان لعقدهم ما يفتدون به وعدم ملكهم شيئا حيث أفاد أن جميع ما في السماوات والأرض ملكه لا ملك لأحد فيه سواه جل وعلا وليس بشيء وإن ذكره بعض الأجلة واقتصر عليه أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ

صفحة رقم 130

أي جميع ما وعد به كائنا ما كان فيندرج فيه العذاب الذي استعجلوه وما ذكر في أثناء بيان حاله اندراجا أوليا.
فالمصدر بمعنى اسم المفعول، ويجوز أن يكون باقيا على معناه المصدري أي وعده سبحانه بجميع ما ذكر حَقٌّ أي ثابت واقع لا محالة أو مطابق للواقع، والظاهر أن حمل الوعد على العموم بحيث يندرج فيه العذاب المذكور والعقاب للعصاة أو الوعد بهما يستدعي اعتبار التغليب في الكلام، وبعضهم حمل الوعد على ما وعد به صلّى الله عليه وسلم من نصره وعقاب من لم يتبعه وقال: إن اعتبار التغليب توهم وليس بالمتعين، وإظهار الاسم الجليل لتفخيم شأن الوعد والإشعار بعلة الحكم، وتصدير الجملتين بحر في التنبيه والتحقيق للتسجيل على تحقق مضمونها المقرر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه على وجوب استحضاره والمحافظة عليه.
وذكر الإمام في توجيه ذكر أداة التنبيه في الجملة الأولى أن أهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيضيفون الأشياء إلى ملاكها الظاهرة المجازية ويقولون مثلا الدار لزيد والغلام لعمرو والسلطنة للخليفة والتصرف للوزير فكانوا مستغرقين في نوم الجهل والغفلة حيث يظنون صحة تلك الإضافات فلذلك زادهم سبحانه بقوله عز اسمه: أَلا إِنَّ لِلَّهِ إلخ، واستناد جميع ذلك إليه جل شأنه بالمملوكية لما ثبت من وجوب وجوده لذاته سبحانه وأن جميع ما سواه ممكن لذاته وأن الممكن لذاته مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بواسطة وذلك يقتضي أن الكل مملوك له تعالى، والكلام في ذكر الأداة في الجملة الثانية على هذا النمط لا يخلو عن تكلف، والحق ما أشرنا إليه في وجه التصدير، ووجه اتصال هذه الجملة بما تقدم ظاهر مما قررنا وللطبرسي في توجيه ذلك كلام ليس بشيء وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لسوء استعدادهم وقصور عقولهم واستيلاء الغفلة عليهم لا يَعْلَمُونَ فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ في الدنيا من غير دخل لأحد في ذلك، وهذا على ما يفهم من كلام البعض استدلال على البعث والنشور على معنى أنه تعالى يفعل الإحياء والإماتة في الدنيا فهو قادر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا، ولا يخفى أن ذكر القدرة على الإماتة استطرادي لا دخل له في الاستدلال على ذلك، والظاهر عندي أنه كالذي قبله تذييل لما سبق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة بالبعث والحشر يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ التفات ورجوع إلى استمالتهم نحو الحق واستنزالهم إلى قبوله واتباعه غب تحذيرهم من غوائل الضلال بما تلا عليهم من القوارع وإيذان بأن جميع ذلك مسوق لمصالحهم وهذا وجه الربط بما تقدم. وقال أبو حبان في ذلك:
إنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو المتصف بهذه الأوصاف والأول أولى ولا يأباه عموم الخطاب كما هو الظاهر واختار الطبري خلافا لمن جعله خاصا بقريش، والموعظة كالوعظ والعظة تذكير ما يلين القلب من الثواب والعقاب، وقيل: زجر مقترن بتخويف، والشفاء الدواء ويجمع على أشفية وجمع الجمع أشافي، والهدى معلوم مما مر غير مرة، والرحمة الإحسان أو إرادته أو صفة غيرهما لائقة بمن قامت به، ومِنْ رَبِّكُمْ متعلق بجاء ومِنْ ابتدائية أو بمحذوف وقع صفة لموعظة ومِنْ تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي موعظة من مواعظ ربكم ولِما إما متعلق بما عنده واللام مقوية وإما متعلق بمحذوف وقع نعتا له وكذا يقال على ما قيل فيما بعد، والمراد قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد والمنافع كاشف عن أحوال الأعمال حسناتها وسيئاتها مرغب في الأولى ورادع عن الأخرى ومبين للمعارف الحقة المزيلة لأدواء الشكوك وسوء مزاج الاعتقاد وهاد إلى طريق الحق واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل الآفاقية والأنفسية ورحمة للمؤمنين حيث نجوا به من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان وتخلصوا من دركات النيران

صفحة رقم 131

وارتقوا إلى درجات الجنان. قال بعض المحققين: إن في ذلك إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها. أحدها تهذيب الظاهر عن فعل ما لا ينبغي وإليه الإشارة «بالموعظة» بناء على أن فيها الزجر عن المعاصي وثانيها تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية وإليه الإشارة ب شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وثالثها تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى. ورابعها تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن لذلك. وقال الإمام: الموعظة إشارة إلى تطهر ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إلى تطهر الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة، والهدى إلى ظهور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة إلى بلوغ الكمال والإشراق حتى يكمل غيره ويفيض عليه وهو النبوة والخلافة فهذه درجات لا يمكن فيها تقديم ولا تأخير، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا والذي يقتضيه الظاهر كون المذكورات أوصافا للقرآن باعتبار كونه سببا وآلة لها، وجعلت عينه مبالغة وبينها تلازم في الجملة، والتنكير فيها للتفخيم، والهداية إن أخذت بمعنى الدلالة مطلقا فعامة أو بمعنى الدلالة الموصولة فخاصة وحينئذ يكون لِلْمُؤْمِنِينَ قيد الأمرين، ويؤيد تقييد الهدى بذلك قوله سبحانه: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] فالقرآن واعظ بما فيه من الترهيب والترغيب أو بما فيه من الزجر عن المعاصي كيفما كانت المقترن بالتخويف فقط بناء على التفسير الثاني للموعظة، وشاف لما في الصدور من الأدواء المفضية إلى الهلاك كالجهل والشك والشرك والنفاق وغيرها، ومرشد ببيان ما يليق وما لا يليق إلى ما فيه النجاة والفوز بالنعيم الدائم أو موصول إلى ذلك، وسبب الرحمة للمؤمنين الذين آمنوا به وامتثلوا ما فيه من الأحكام، وأما إذا ارتكب خلاف الظاهر فيقال غير ما قيل أيضا مما ستراه إن شاء الله تعالى في باب الإشارة. واستدل كما قال الجلال السيوطي بالآية على أن القرآن يشفي من الأمراض البدنية كما يشفي من الأمراض القلبية
فقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:
إني أشتكي صدري فقال عليه الصلاة والسلام: «اقرأ القرآن يقول الله تعالى شفاء لما في الصدور»

وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وجع حلقه فقال: «عليك بقراءة القرآن»
وأنت تعلم أن الاستدلال بها على ذلك مما لا يكاد يسلم، والخبر الثاني لا يدل عليه إذ ليس فيه أكثر من أمره صلّى الله عليه وسلم الشاكي بقراءة القرآن إرشادا له إلى ما ينفعه ويزول به وجعه ونحن لا ننكر أن لقراءة القرآن بركة قد يذهب الله تعالى بسببها الأمراض والأوجاع وإنما ننكر الاستدلال بالآية على ذلك والخبر الأول وإن كان ظاهرا في المقصود لكن ينبغي تأويله كأن يقال: لعله صلّى الله عليه وسلم اطلع على أن في صدر الرجل مرضا معنويا قلبيا قد صار سببا للمرض الحسي البدني فأمره عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن ليزول عنه الأول فيزول الثاني، ولا يستبعد كون بعض الأمراض القلبية قد يكون سببا لبعض الأمراض القالبية فإنا نرى أن نحو الحسد والحقد قد يكون سببا لذلك، ومن كلامهم: لله تعالى در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله: وهذا أولى من إخراج الكلام مخرج الأسلوب الحكيم.
والحسن البصري ينكر كون القرآن شفاء للأمراض، فقد أخرج أبو الشيخ عنه، أنه قال: إنّ الله تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور ولم يجعله شفاء لأمراضكم، والحق ما ذكرنا قُلْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليأمر الناس بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة أي قل لهم بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ متعلق بمحذوف، وأصل الكلام ليفرحوا بفضل الله تعالى وبرحمته ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة اختصاصه بالمجرور ثم أدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية فصار بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم جيء بقوله سبحانه: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه، والفاء الأولى قيل جزائية والثانية زائدة للتأكيد،

صفحة رقم 132

والأصل أن فرحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخر ثم زيدت الفاء لما ذكر ثم حذف الشرط، وقيل: إن الأولى هي الزائدة لأن جواب الشرط في الحقيقة فليفرحوا- وبذلك- مقدم من تأخير لما أشير إليه، وزيدت فيه الفاء للتحسين، ولذلك جوز أن يكون بدلا من قوله سبحانه: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف متعلقه ونظير ذلك في الاختلاف في تعيين الزائد فيه قول النمر بن تولب:

لا تجزعي إن منفسا أهلكته فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
ومن غريب العربية ما أشار إليه بعضهم أن الآية من باب الاشتغال وقد أقيم اسم الإشارة مقام ضمير المعمول وتوحيده باعتبار ما ذكر ونحوه كما هو شائع فيه، ووجه غرابته أن المعروف في شرط الباب اشتغال العامل بضمير المعمول ولم يذكر أحد من النحاة اشتغاله باسم الإشارة إليه، وجوز أن يقدر متعلق الجار والمجرور فليعتنوا أي بفضل الله ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، والقرينة على تقدير ذلك أن ما يفرح به يكون مما يعتنى ويهتم بشأنه، أو تقديم الجار والمجرور على ما قيل، وقال الحلبي: الدلالة عليه من السياق واضحة وليس شرط الدلالة أن تكون لفظية، فقول أبي حيان: إن ذلك إضمار لا دليل عليه ما لا وجه له، وأن يقدر جاءتكم بعد قُلْ مدلولا عليه بما قبل أي قل جاءتكم موعظة وشفاء وهدى ورحمة بفضل الله وبرحمته ولا يجوز تعلقه بجاءتكم المذكور لأن قُلْ تمنع من ذلك،- وذلك- على هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو المجيء أي فبمجيء المذكورات فليفرحوا، وتكرير الباء في برحمته على سائر الأوجه للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرح، والمراد بالفضل والرحمة إما الجنس ويدخل فيه ما في مجيء القرآن من الفضل والرحمة دخولا أوليا وإما ما في مجيئه من ذلك، ويؤيده ما روي عن مجاهد أن المراد بالفضل والرحمة القرآن.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال قال: «رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله» وروي ذلك عن البراء وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما موقوفا.
وجاء عن جمع جم أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفضل العلم والرحمة محمد صلّى الله عليه وسلم. وأخرج الخطيب، وابن عساكر عنه تفسير الفضل بالنبي عليه الصلاة والسلام والرحمة بعلي كرم الله تعالى وجهه، والمشهور وصف النبي صلّى الله عليه وسلم بالرحمة كما يرشد إليه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧] دون الأمير كرم الله تعالى وجهه، وإن كان رحمة جليلة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقيل: المراد بهما الجنة والنجاة من النار وقيل غير ذلك، ولا يجوز أن يراد بالرحمة على الوجه الأخير من أوجه الإعراب ما أريد بها أولا بل هي فيه غير الأولى كما لا يخفى. وروى رويس عن يعقوب أنه قرأ «فلتفرحوا» بتاء الخطاب ولام الأمر على أصل المخاطب المتروك بناء على القول بأن أصل صيغة الأمر الأمر باللام فحذفت مع تاء المضارعة واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن لا على القول بأنها صيغة أصلية، وقد وردت هذه القراءة في حديث صحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد أخرجه جماعة منهم أبو داود وأحمد والبيهقي من طرق عن أبي ابن كعب رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وقرأ بها أيضا ابن عباس وقتادة وغيرهما. وفي تعليقات الزمخشري على كشافه كأنه صلّى الله عليه وسلم إنما آثر القراءة بالأصل لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تصريحا به إيذانا بأن الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته بليغ التوصية به ليطابق التقرير والتكرير وتضمين معنى الشرط لذلك، ونظيره مما انقلب فيه ما ليس بفصيح فصيحا قوله سبحانه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: ٤] من تقديم الظرف اللغو ليكون الغرض اختصاص التوحيد انتهى،

صفحة رقم 133

وهو مأخوذ من كلام ابن جني في توجيه ذلك، ونقل عن شرح اللب في توجيهه أنه لما كان النبي صلّى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الحاضر والغائب جمع بين اللام والتاء قيل: وكأنه عنى أن الأمر لما كان لجملة المؤمنين حاضرهم وغائبهم غلب الحاضرون في الخطاب على الغائبين وأتى باللام رعاية لأمر الغائبين، وهي نكتة بديعة إلا أنه أمر محتمل، وما نقل عن صاحب الكشاف أولى بالقبول.
وقرىء «فافرحوا» وهي تؤيد القراءة السابقة لأنها أمر المخاطب على الأصل. وقرىء «فليفرحوا» بكسر اللام هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأموال والحرث والأنعام وسائر حطام الدنيا فإنها صائرة إلى الزوال مشرفة عليه وهو راجع إلى لفظ ذلك باعتبار مدلوله وهو مفرد فروعي لفظه وإن كان عبارة عن الفضل والرحمة.
ويجوز إرجاع الضمير إليهما ابتداء بتأويل المذكور كما فعل في ذلك أو جعلهما في حكم شيء واحد، ولك أن تجعله راجعا إلى المصدر أعني المجيء الذي أشير إليه وما تحتمل الموصولية والمصدرية. وقرأ ابن عامر «تجمعون» بالخطاب لمن خوطب ب يا أَيُّهَا النَّاسُ سواء كان عاما أو خاصا بكفار قريش، وضمير فَلْيَفْرَحُوا للمؤمنين أي فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعون أيها المخاطبون وعلى قراءة «فلتفرحوا» «وافرحوا» يكون الخطاب على ما قيل للمؤمنين، وجوز أن يكون لهم على قراءة الغيبة أيضا التفاتا، وتعقب بأن الجمع أنسب بغيرهم وإن صح وصفهم به في الجملة فلا ينبغي أن يلتزم القول بما يستلزمه ما دام مندوحة عنه.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ أي ما قدر لانتفاعكم من ذلك وإلا فالرزق ليس كله منزلا، واستعمال أنزل فيما ذكر مجاز من إطلاق المسبب على السبب، وجوز أن يكون الإسناد مجازيا بأن أسند الإنزال إلى الرزق لأن سببه كالمطر منزل، وقيل: إن هناك استعارة مكنية تخيلية وهو بعيد. وجعل الرزق مجازا عن سببه أو تقدير لفظ سبب مما لا ينبغي وما إما موصولة في موضع النصب على أنها مفعول أول- لأرأيتم- والعائد محذوف أي أنزله والمفعول الثاني ما ستراه إن شاء الله تعالى قريبا وما استفهامية في موضع النصب على أنه مفعول أَنْزَلَ وقدم عليه لصدارته، وهو معلق لما قبله إن قلنا بالتعليق فيه أي أي شيء أنزل الله تعالى من رزق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا أي فبعضتموه وقسمتموه إلى حرام وحلال وقلتم، هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: ١٣٨] وما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام: ١٣٩] إلى غير ذلك.
قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في جعل البعض منه حراما والبعض الآخر حلالا أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أَمْ والهمزة متعادلتان والجملة في موضع المفعول الثاني- لأرأيتم- وقُلْ مكرر للتأكيد فلا يمنع من ذلك، والعائد على المفعول الأول مقدر، والمعنى أرأيتم الذي أنزله الله تعالى لكم من رزق ففعلتم فيه ما فعلتم أي الأمرين كائن فيه الأذن فيه من الله تعالى بجعله قسمين أم الافتراء منكم، وكان أصل آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ إلخ آلله أذن أم غيره فعدل إلى ما في النظم الجليل دلالة على أن الثابت هو الشق الثاني وهم نسبوا ذلك إليه سبحانه فهم مفترون عليه جل شأنه لا على غيره وفيه زجر عظيم كما لا يخفى، ولعل هذا مراد من قال: إن الاستفهام للاستخبار ولم يقصد به حقيقته لينافي تحقق العلم بانتفاء الإذن وثبوت الافتراء بل قصد به التقرير والوعيد وإلزام الحجة.
وجوز أن يكون الاستفهام لإنكار الإذن وتكون أَمْ منقطعة بمعنى بل الاضرابية، والمقصود الاضراب عن ذلك لتقرير افترائهم، والجملة على هذا معمولة للقول وليست متعلقة- بأرأيتم- وهو قد اكتفى بالجملة الأولى كما أشرنا إليه، ومن الناس من جوز كون أَمْ متصلة وكونها منفصلة على تقدير تعلق الجملة بفعل القول وأوجب الاتصال على تقدير تعلقها- بأرأيتم- وجعل الاسم الجليل مبتدأ مخبرا عنه بالجملة للتخصيص عند بعض ولتقوية

صفحة رقم 134

الحكم عند آخر، والإظهار بعد في مقام الإضمار للإيذان بكمال قبح افترائهم، وتقديم الجار والمجرور للقصر مطلقا في رأي ولمراعاة الفواصل على الوجه الأول وللقصر على الوجه الثاني في آخر.
واستدل المعتزلة بالآية على أن الحرام ليس برزق ولا دليل لهم فيها على ما ذكرناه لأن المقدر للانتفاع هو الحلال فيكون المذكور هنا قسما من الرزق وهو شامل للحلال والحرام والكفرة إنما أخطؤوا في جعل بعض الحلال حراما، ومن جعل أهل السنة نظيرا لهم في جعلهم الرزق مطلقا منقسما إلى قسمين فقد أعظم الفرية وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ كلام مسوق من جهته تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به، والتعبير عنهم بالموصول لقطع احتمال الشق الأول من الترديد والتسجيل عليهم بالافتراء، وزيادة الكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذبا في اعتقادهم أيضا، وما استفهامية مبتدأ وظَنُّ خبرها هو مصدر مضاف إلى فاعله ومفعولاه محذوفان.
وقوله سبحانه: يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف لنفس الظن لا بيفترون لعدم صحته معنى ولا بمقدر لأن التقدير خلاف الظاهر، أي أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أني فاعل بهم، والمقصود التهديد والوعيد، ويدل على تعلقه بالظن قراءة عيسى بن عمر وَما ظَنُّ بصيغة الماضي وما في هذه القراءة بمعنى الظن في محل نصب على المصدرية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بذلك في القرآن لما ذكر، والعمل في الظرف المستقبل لا يمنع لتصييره الفعل نصا في الاستقبال التجوز المذكور لأنه يقدر لتحققه أيضا ماضيا، وقيل: الظرف متعلق بما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلا له ولما يقع فيه من الأهوال لمكان وضوح أمره في التحقق والتقرر منزلة المسلم عندهم، أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون جزاء يسيرا ولذلك ما يفعلون يفعلون كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي، والآية السابقة قيل متصلة بقوله سبحانه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [يونس: ٣١] إلخ كأنه قيل: حيث أقروا أنه سبحانه الرازق قل لهم أرأيتم ما أنزل الله إلخ ونقل ذلك عن أبي مسلم، وقيل: بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إلخ، وذلك أنه جل شأنه لما وصف القرآن بما وصفه وأمر نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يرغب باغتنام ما فيه عقب ذلك بذكر مخالفتهم لما جاء به وتحريمهم ما أحل، وقيل: إنها متصلة بالآيات الناعية عليهم سوء اعتقادهم كأنه سبحانه بعد أن نعي عليهم أصولهم بين بطلان فروعهم، ولعل خير الثلاثة وسطها.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ أي عظيم لا يقدر قدره ولا يكتنه كنهه عَلَى النَّاسِ جميعا حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبين لهم ما لا تستقل عقولهم بإدراكه وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد ورغبهم ورهبهم وشرح لهم الأحوال وما يلقاه الحائد عن الرشاد من الأهوال.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ذلك الفضل فلا ينتفعون به، ولعل الجملة تذييل لما سبق مقرر لمضمونه.
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي في أمر معتنى به، من شأنه بالهمز كسأله إذا قصده وقد تبدل همزته ألفا، وهو في الأصل مصدر وقد أريد المفعول وَما تَتْلُوا مِنْهُ الضمير المجرور للشأن والتلاوة أعظم شؤونه صلّى الله عليه وسلم ولذا خصت بالذكر أو للتنزيل، والإضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه أو لله عز وجل، ومِنْ قيل تبعيضية على الاحتمالين الأولين وابتدائية على الثالث والتي في قوله سبحانه: مِنْ قُرْآنٍ زائدة لتأكيد النفي على جميع التقادير وإلى ذلك ذهب القطب. وقال الطيبي: إن مِنْ الأولى على الاحتمال الأخير ابتدائية والثانية مزيدة، وعلى الاحتمال الأولى الأولى للتبعيض والثانية للبيان، وعلى الثاني الأولى ابتدائية والثانية للبيان.

صفحة رقم 135

وفي إرشاد العقل السليم أن الضمير الأول للشأن والظرف صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة من الشأن أو للتنزيل ومِنْ ابتدائية أو تبعيضية أو لله تعالى شأنه ومِنْ الثانية مزيدة وابتدائية على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضية على الوجه الثاني والثالث. وأنت تعلم أنه قد يكون الظرف متعلقا بما عنده، والتزام تعلقه بمحذوف وقع صفة لمصدر كذلك في جميع الاحتمالات مما لا حاجة إليه. نعم اللازم بناء على المشهور أن لا يتعلق حرفان بمعنى بمتعلق واحد، وذهب أبو البقاء إلى أن الضمير الأول للشأن و «من» الأولى للأجل كما في قوله سبحانه: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: ٢٥] ومِنْ الثانية مزيدة وما بعدها مفعول به- لتتلو- وله وجه، ومما يقضي منه العجب ما قاله بعضهم إنه يحتمل أن يكون ضمير مِنْهُ للشأن إما على تقدير ما تتلو حال كون القراءة بعض شؤونك وإما أن يحمل الكلام على حذف المضاف أي وما تتلو من أجل الشأن بأن يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله فإن الحالية مما لا تكاد تخطر ببال من له أدنى ذوق في العربية ولم نر القول بتقدير مضاف في الكلام إذا كان فيه مِنْ الأجلية أو نحوها، وما في كلام غير واحد من الأفاضل في أمثال ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب، ويبعد حمل هذا البعض على ذلك كما لا يخفى «هذا» ثم إن القرآن عام للمقروء كلّا وبعضا وهو حقيقة في كل كما حقق في موضعه، والقول بأنه مجاز في البعض بإطلاق الكل وإرادة الجزء مما لا يلتفت إليه وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ أي أي عمل كان، والخطاب الأول خاص برأس النوع الإنساني وسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم وهذا عام ويشمل سائر العباد برهم وفاجرهم لا الأخيرين فقط، وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به فعبر في مقام الخصوص في الأول بالشأن لأن عمل العظيم عظيم وفي الثاني بالعمل العام للجليل والحقير، وقيل: الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١] إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له كذا قالوا، ويفهم منه أن الجار والمجرور متعلق بما بعده، ولعل تقديمه للاهتمام بتخويف من أريد تخويفه من المخاطبين، وكأنه للمبالغة فيه جيء بضمير العظمة، وأن المقصود من الاطلاع عليهم الاطلاع على عملهم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تشرعون فيه وتتلبسون به، وأصل الإفاضة الاندفاع بكثرة أو بقوة، وحيث أريد بالأفعال السابقة الحالة المستمرة الدائمة المقارنة للزمان الماضي أيضا أوثر في الاستثناء صيغة الماضي، وفي الظرف كلمة إِذا التي تفيد المضارع معنى الماضي كذا قيل، ولم أر من تعرض لبيان وجه اختيار النفي- بما- التي تخلص المضارع للحال عند الجمهور عند انتفاء قرينة خلافه في الجملتين الأوليين والنفي- بلا- التي تخلص المضارع للاستقبال عند الأكثرين خلافا لابن مالك في الجملة الثالثة، ولعل ذلك من آثار اختلاف الخطاب خصوصا وعموما فتأمله فإنه دقيق جدا وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي ما يبعد وما يغيب، ومنه يقال: الروض العازب وروض عزيب إذا كان بعيدا من الناس، والكلام على حذف مضاف أي وما يعزب عن علم ربك عز وجل أو هو كناية عن ذلك، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم من الإشعار باللطف ما لا يخفى.
وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب بكسر الزاي مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ مِنْ مزيدة لتأكيد النفي، والمثقال اسم لما يوازن الشيء ويكون في ثقله وهو في الشرع أربعة وعشرون قيراطا. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر، والصحيح أنه لم يختلف جاهلية وإسلاما فقد نقل الجلال السيوطي عن الرافعي أنه قال: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإسلام. والذرة واحدة الذر وهو النمل الأحمر الصغير، وسئل ثعلب عنها فقال: إن مائة نملة وزن

صفحة رقم 136

حبة والذرة واحدة منها، وقيل: الذرة ليس لها وزن ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي في جهتي السفل والعلو أو في دائرة الوجود والإمكان لأن العامة لا تعرف سواهما ممكنا ليس فيهما ولا متعلقا بهما، والكلام شامل لهما أنفسهما أيضا كما لا يخفى، وتقديم الأرض على السماء مع أنها قدمت عليها في كثير من المواضع ووقعت أيضا في سبأ في نظير هذه الآية مقدمة لأن الكلام في حال أهلها والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه سبحانه بتفاصيلها، وذكر السماء لئلا يتوهم اختصاص إحاطة علمه جل وعلا بشيء دون شيء، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء ومن يكون هذا شأنه كيف لا يعلم حال أهل الأرض وما هم عليه مع نبيه صلّى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ جملة مستقلة ليست معطوفة على ما قبلها، ولا نافية للجنس وأَصْغَرَ اسمها منصوب لشبهه بالمضاف وكذا أَكْبَرَ لتقدير عمله، وقول السمين: إنهما مبنيان على الفتح ضعيف وهو مذهب البغداديين، وزعم أنه سبق قلم متأخر عن حيز القبول، وفِي كِتابٍ متعلق بمحذوف وقع خبرا.
وقرأ حمزة ويعقوب وخلف وسهل بالرفع على الابتداء والخبر، ولا يجوز إلغاؤها إذا تكررت، وأما قولهم:
إن الشبيه بالمضاف يجب نصبه فالمراد منه المنع من البناء لا المنع من الرفع والإلغاء كما توهمه بعضهم، وجوز أن يكون ذلك على جعل لا عاملة عمل ليس، وقيل: إن أَصْغَرَ على القراءة الأولى عطف على مِثْقالِ أو ذَرَّةٍ باعتبار اللفظ، وجيء بالفتح بدلا عن الكسر لأنه لا ينصرف للوصف ووزن الفعل، وعلى القراءة الأخرى معطوف على مِثْقالِ باعتبار محله لأنه فاعل، ومِنْ كما عرفت مزيد. واستشكل بأنه يصير التقدير ولا يعزب عنه أصغر من ذلك ولا أكبر منه إلا في كتاب فيعزب عنه ومعناه غير صحيح. وأجيب بأن هذا على تقدير اتصال الاستثناء وأما على تقدير انقطاعه فيصير التقدير لكن لا أصغر ولا أكبر إلا هو في كتاب مبين، وهو مؤكد لقوله سبحانه: لا يَعْزُبُ عَنْهُ [سبأ: ٣] إلخ، وأجاب بعضهم على تقدير الاتصال بأنه على حد لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: ٥٦] وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: ٢٣] في رأي، فالمعنى لا يبعد عن علمه شيء إلا ما في اللوح الذي هو محل صور معلوماته تعالى شأنه بناء على تفسير الكتاب المبين به أو إلا ما في علمه بناء على ما قيل: إن الكتاب العلم، فإن عد ذلك من العزوب فهو عازب عن علمه وظاهر أنه ليس من العزوب قطعا فلا يعزب عن علمه شيء قطعا. ونقل عن بعض المحققين في دفع الإشكال أن العزوب عبارة عن مطلق البعد، والمخلوقات قسمان قسم أوجده الله تعالى من غير واسطة كالأرض والسماء والملائكة عليهم السلام وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث في العالم وقد تتباعد سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود سبحانه، فالمعنى لا يبعد عن مرتبة وجوده تعالى ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه سبحانه تلك المعلومات، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وإثبات العزوب بمعنى البعد عنه تعالى في سلسلة الإيجاد لا محذور فيه وهو وجه دقيق إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء وإن خالف ما هم عليه في الجملة.
وقال الكواشي: معنى يعزب يبين وينفصل، أي لا يصدر عن ربك شيء من خلقه ألا وهو في اللوح وتلخيصه أن كل شيء مكتوب فيه. واعترض بأن تفسيره يبين وينفصل غير معروف، وقيل: المراد بالبعد عن الرب سبحانه البعد والخروج عن غيبه أي لا يخرج عن غيبه إلا ما كان في اللوح فيعزب عن الغيب ويبعد إذ لا يبقى ذلك غيبا حينئذ لاطلاع الملائكة عليهم السلام وغيرهم عليه فيفيد إحاطة علمه سبحانه بالغيب والشهادة.
ومن هنا يظهر وجه آخر لتقديم الأرض على السماء، وقيل: إن إِلَّا عاطفة بمنزلة الواو كما قال بذلك الفراء

صفحة رقم 137

في قوله تعالى: لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل: ١٠، ١١] والأخفش في قوله سبحانه: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة: ١٥] وقوم في قوله جل شأنه: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم: ٣٢] وهو مقدر بعدها، والكلام قد تم عند قوله سبحانه: وَلا أَكْبَرَ ثم ابتدأ بقوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ أي وهو في كتاب ونقل ذلك مكي عن أبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني ثم قال: وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون إِلَّا بمعنى الواو، والإنصاف أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز على ذلك ولو اجتمع الخلق إنسهم وجنهم على مجيء إلا بمعنى الواو، وقيل: إن الاستثناء من محذوف دل عليه الكلام السابق أي ولا شيء إلا في كتاب ونظيره ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨] ويكون من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى في كل معلوم وإن كل شيء مكتوب في الكتاب، ويشهد لهذا على ما قيل كثير من أساليب كلام العرب. ونقل عن صاحب كتاب تبصرة المتذكر أنه يجوز أن يكون الاستثناء متصلا بما قبل قوله تعالى: ولا يَعْزُبُ ويكون في الآية تقديم وتأخير، وترتيبها وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه إلي ولا أكبر، وتلخيصه وما من شيء إلا وهو في اللوح المحفوظ ونحن نشاهده في كل آن. ونظر فيه البلقيني في رسالته المسماة بالاستغناء بالفتح المبين في الاستثناء في وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بأنه على ما فيه من التكلف يلزم عليه القول بتركيب في الكلام المجيد لم يوجد في كلام العرب مثله أعني إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودا وليس ذلك نظير. أمر ربهم إلا الفتى إلا العلا. كما لا يخفى.
وأنت تعلم أن أقل الأقوال تكلفا القول بالانقطاع، وأجلها قدرا وأدقها سرا القول بالاتصال وإخراج الكلام مخرج إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: ٢٢، ٢٣] ونظائره الكثيرة نثرا ونظما، ولا عيب فيه إلا أن الآية عليه أبلغ فليفهم، ثم إنه تعالى لما عمم وعده ووعيده في حق كافة من أطاع وعصي أتبعه سبحانه بشرح أحوال أوليائه تعالى المخلصين فقال عز من قائل: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وفي إرشاد العقل السليم أنه بيان على وجه التبشير والوعد لما هو نتيجة لأعمال المؤمنين وغاية لما ذكر قبله من كونه سبحانه مهيمنا على نبيه صلّى الله عليه وسلم وأمته في كل ما يأتون ويذرون وإحاطة علمه جل وعلا بعد ما أشير إلى فظاعة حال المفترين على الله تعالى يوم القيامة وما سيعتريهم من الهول إشارة إجمالية على طريق التهديد والوعيد، وصدرت الجملة بحرف التنبيه والتحقيق لزيادة تقرير مضمونها، والأولياء جمع ولي من الولي بمعنى القرب والدنو يقال: تباعد بعد ولي أي قرب، والمراد بهم خلص المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه كما يفصح عنه تفسيرهم الآتي، ويفسر الولي بالمحب وبين المعنيين تلازم، وسيأتي تمام الكلام على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى، وجاء بمعنى النصير ويشير كلام البعض إلى صحة اعتبار هذا المعنى هنا، والمراد من الجملتين المنفيتين المتعاطفتين دوام انتفاء مدلولهما كما مر تحقيقه غير مرة، قيل: والمعنى لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مطلوب في جميع الأوقات أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك أصلا لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن أصلا بل يستمرون على النشاط والسرور، كيف لا واستشعار الخوف استعظاما لجلال الله تعالى واستقصارا للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين بل كلما ازداد العبد قربا من ربه سبحانه ازداد خوفا وخشية منه سبحانه، ويرشد إلى ذلك غير ما خبر وقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وإنما لا يعتريهم ذلك لأن مقصدهم ليس إلا الله تعالى ونيل رضوانه المستتبع للكرامة والزلفى وذلك مما لا ريب في حصوله ولا احتمال لفواته بموجب الوعد الإلهي، وأما ما عدا

صفحة رقم 138

ذلك من الأمور الدنيوية المترددة بين الحصول والفوات فهي عندهم أحقر من ذبالة (١) عند الحجاج بل الدنيا بأسرها في أعينهم أقذر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم فهيهات أن تنتظم في سلك مقصدهم وجودا وعدما حتى يخافوا من حصول ضارها أو يحزنوا من فوات نافعها.
وقيل: المراد بانتفاء الخوف والحزن أمنهم من ذلك يوم القيامة بعد تحقق ما لهم من القرب والسعادة وإلا فالخوف والحزن يعرضان لهم قبل ذلك سواء كان سببهما دنيويا أو أخرويا، ولا يجوز أن يراد أمنهم مما ذكر في الدنيا أو فيما يعمها والآخرة لأن في ذلك أمنا من مكر الله تعالى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: ٩٩] وهذا مبني على أن الخوف المنفي مسند إليهم وليس بالمتعين، فقد ذهب بعض الجلة إلى أنه مسند إلى غيرهم أي غيرهم لا يخاف عليهم ولا يلزم من ذلك أنهم لا يخافون ليجيء حديث لزوم الأمن، وجعل ذلك نكتة اختلاف أسلوب الجملتين.
والعدول عن لا هم يخافون الأنسب- بل هم يحزنون- إلى ما في النظم الجليل، وقد يقال: إذا كان المراد أنهم لا يعتريهم ما يوجب الخوف والحزن لا يبقى لحديث لزوم الأمن من مكر الله تعالى مجال على ما لا يخفى على المتدبر لكن لا يظهر عليه نكتة اختلاف أسلوب الجملتين وكونها اختلاف شأن الخوف والحزن بشيوع وصف الأخير بعدم الثبات كما قيل:
فلا حزن يدوم ولا سرور دون الأول ولذا ناسب أن يعبر بالاسم في الأول وبالفعل المفيد للحدوث التجدد في الثاني كما ترى.
وقيل: إن المراد نفي استيلاء الخوف عليهم ونفي الحزن أصلا ومفاد ذلك اتصافهم بالخوف في الجملة، ففيه إشارة إلى أنهم بين الرجاء والخوف غير آيسين ولا آمنين، ولهذا لم يؤت بالجملتين على طرز واحد، وكذا لم يقل لا خوف لهم مثلا، والأوجه عندي ما نقل عن بعض الجلة من أن معنى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لا يخاف عليهم غيرهم ويجعل الجملة الأولى عليه كناية عن حسن حالهم، وأنت في الجملة الثانية بالخيار، والخوف على ما قال الراغب توقع المكروه وضده الأمن، والحزن من الحزن بالفتح وهو خشونة في النفس لما يحصل من الغم ويضاده الفرح، وعلى هذا قالوا في بيان المعنى لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مأمول الَّذِينَ آمَنُوا أي بكل ما جاء من عند الله تعالى وَكانُوا يَتَّقُونَ عما يحق الاتقاء منه من الأفعال والتروك اتقاء دائما حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل والموصول في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة استئناف بياني كأنه قيل: من أولئك وما سبب فوزهم بما أشار إليه الكلام السابق؟ فقيل: هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خير المجنبين عن كل شر؟ ولك أن تقصر في السؤال على من أولئك فيكون ذلك بيانا وتفسيرا للمراد من الأولياء فقط، وعلى الأول هذا مع الإشارة إلى ما به نالوا مالوا، وقيل: محله النصب أو الرفع على المدح أو على أنه وصف للأولياء. ورد بأن في ذلك الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر. وقد أباه النحاة. نعم جوزه الحفيد، وجوز فيه البدلية أيضا، والمراد من التقوى عند جمع المرتبة الثالثة منها وهي التقوى المأمور بها في قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢] وفسرت بتنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل إليه بالكلية، وبذلك يحصل الشهود والحضور والقرب الذي يدور إطلاق الاسم عليه، وهكذا كان حال من دخل معه صلّى الله عليه وسلم تحت

(١) قوله من ذبالة كذا في خطه رحمة الله تعالى بذال معجمة والمعروف كما في غير كتاب تبالة بتاء مفتوحة اهـ.

صفحة رقم 139

الخطاب بقوله سبحانه وتعالى: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إلخ خلا أن لهم في شأن التبتل والتنزه درجات متفاوتة حسبما درجات تفاوت استعداداتهم، وأقصى الدرجات ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حتى جمعوا بذلك بين رياسة النبوة والولاية ولم يعقهم التعلق بعالم الأشباح عن الاستغراق في عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن التبتل إلى جناب الحق سبحانه عز وجل لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية كذا قيل، وفي كون حال كل من دخل معه صلّى الله عليه وسلم تحت الخطاب مرادا به جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما أشار إليه من التقوى الحقيقية المأمور بها في الآية التي بها يحصل الشهود والحضور والقرب بحث، وقصارى ما تحقق بعد نزاع طويل ذكرناه في جوابنا لسؤال أهل- لاهور- أن الصحابة كلهم عدول من لابس منهم الفتنة ومن لم يلابسها ودعوى أن العدالة تستلزم الولاية بالمعنى السابق إن تمت تم المقصود وإلا فلا، والآية ظاهرة في أن الأولياء هم المؤمنون المتقون وأقل ما يكفي في إطلاق الولي التقرب إليه سبحانه بالفرائض من امتثال الأوامر واجتناب الزواجر، والأكمل التقرب إليه جل شأنه بكل ما يمكن من القرب، وفي المبين المعين الولي هو من يتولى الله تعالى بذاته أمره فلا تصرف له أصلا إذ لا وجود له ولا ذات ولا فعل ولا وصف، والتركيب يدل على القرب فكأنه قريب منه عز وجل لاستدامة عباداته واستقامة طاعاته أو لاستغراقه في بحر معرفته ومشاهدة طلعة عظمته انتهى، وفيه القول بأن الولي فعيل بمعنى مفعول، وجوز أن يكون بمعنى فاعل، وفسر بأنه من يتولى عبادة الله تعالى وطاعته على التوالي من غير تخلل معصية، وعن القشيري أن كلا الوصفين تولى الله تعالى أمره وتولية عبادة الله تعالى وطاعته شرط في الولاية غير أن الوصف الأول غالب على المجذوب المراد والثاني على السالك المريد، ولا يخفى أن هذا الكلام وكذا ما قبله يدل على أن تخلل المعصية مناف للولاية وهو الذي يشير إليه كلام غير واحد من الفضلاء، وليس في ذلك قول بالعصمة التي لم يثبتها الجماعة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل قصارى ما فيه القول بالحفظ، وقد قيل: الأولياء محفوظون وفسر بعدم صدور الذنب مع إمكانه، والقيد لإخراج العصمة.
نعم جاءت العصمة بمعنى الحفظ المفسر بما ذكر، وعلى ذلك خرج قول صاحب حزب البحر اللهم اعصمني في الحركات والسكنات لأن الدعاء بما هو من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز كالدعاء بسائر المستحيلات كما حقق في محله. وأطلق بعضهم القول بأن تخلل ذلك غير مناف احتجاجا بما حكي عن الجنيد قدس سره أنه سئل هل يزني العارف؟ فقال: نعم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب: ٣٨]، وتعقب بأنه محمول على الإمكان سؤالا وجوابا ولا كلام فيه وإنما الكلام في أن الوقوع مناف أو غير مناف، وقال بعضهم: لا شبهة في عدم بقاء وصف الولاية حال التلبس بالمعصية إذ لا تقوى حينئذ بالإجماع ومدار هذا الوصف عليها وكذا على الإيمان، وهو غير كامل إذ ذاك عند أهل الحق وغير متحقق أصلا بل المتحقق الفسق المعنى بالواسطة أو الكفر عند آخرين، وكذا لا شبهة في عدم منافاة وقوع المعصية الاتصاف بالولاية بعده بأن يعود من ابتلي بذلك إلى قوى الله تعالى ويتصف بما تتوقف الولاية عليه، وهو نظير من يتصف بالإيمان أو بالعدالة مثلا بعد أن لم يكن متصفا بذلك بقي الكلام في منافاة الوقوع الاتصاف قبل، فإن قيل: إنه مناف له بمعنى أنه لذلك لم يكن متصفا قبل بما هو إيمان وتقوى عند الناس فلا شبهة أيضا في عدم المنافاة بهذا المعنى وهو ظاهر وإن قيل: إنه مناف له بمعنى أنه لم يكن لذلك متصفا بما ذكر عند الله تعالى بناء على أن المراد بالتقوى التي هي شرط الولي التقوى الكاملة التي يترتب عليها حب الله تعالى المترتب عليه الحفظ كما أشير إليه فيما
رواه البخاري من حديث أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى

صفحة رقم 140

أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» الحديث.
وقد قال غير واحد في معنى الشرطية فإذا أحببته كنت حافظا حواسه وجوارحه فلا يسمع ولا يبصر ولا يأخذ ولا يمشي إلا فيما أرضى وأحب وينقلع عن الشهوات ويستغرق في الطاعات، وقريب منه قول الخطابي: المراد من ذلك توفيقه في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، يعني ييسر عليه فيها سبيل ما يحبه ويعصمه عن موافقة ما يكرهه من إصغاء إلى لهو يسمعه ونظر إلى ما نهي عنه ببصره وبطش بما لا يحل بيده وسعى في باطل برجله، وكذا قول بعضهم المعنى أجعل سلطان حبي غالبا عليه حتى أسلب عنه الاهتمام بشيء غير ما يقربه إلي فيصير متخليا عن اللذات متجنبا عن الشهوات متى ما يتقلب وأينما يتوجه لقي الله تعالى بمرأى فيه ومسمع منه ويأخذ حب الله تعالى مجامع قلبه فلا يسمع ولا يرى ولا يفعل إلا ما يحبه ويكون له في ذلك عونا ومؤيدا ووكيلا يحمي جوارحه وحواسه فله وجه لأنه إذا وقعت المعصية يعلم أنه لم يكن محفوظا وبه يعلم أنه لم يكن محبوبا وبذلك يعلم أنه لم يكن متقربا إليه تعالى شأنه ومتقيا إياه حق تقاته وإن ظنه الناس كذلك فهو ليس من أوليائه سبحانه في نفس الأمر. نعم من اتصف بصفات الأولياء ظاهرا يجب تعظيمه واحترامه والتأدب معه والكف عن إيذائه بشيء من أنواع الإيذاء التي لا مسوغ لها شرعا كالإنكار عليه عنادا أو حسدا دون المنازعة في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض ونحو ذلك لما دل عليه الحديث السابق المشتمل من تهديد المؤذي على الغاية القصوى والحكم على من ذكره لولاية إذا لم يكن هناك نص من معصوم على ما يدل على تحققها في نفس الأمر إنما هو بالنظر إلى الظاهر لا إلى ما عند الله تعالى لما أن من الذنوب ما لا يمكن أن يطلع عليه إلا علام الغيوب ومنها الذنوب القلبية التي هي أدواء قاتلة وسموم ناقعة مع أن الأعمال بخواتيمها وهي مجهولة إلا للمبدىء المعيد جل جلاله «هذا» وهو تحقيق يلوح عليه مخايل القبول، ومن الناس من قسم الولاية إلى صغرى قد يقع فيها الذنب على الندرة لكن يبادر للتنصل منه فورا وعد العلامة ابن حجر عليه الرحمة من وقع منه الذنب كذلك فبادر للتنصل منه محفوظا فالوقوع عنده على الندرة مع المبادرة للتنصل لا ينافي الحفظ وإنما ينافيه تكرر الوقوع وكثرته وكذا ندرته مع عدم المبادرة للتنصل، وكبرى لا يقع فيها الذنب أصلا مع إمكان الوقوع ولو قيل أو مع استحالته كما في ولاية الأنبياء عليهم السلام وادعى أن ذلك من خصوصيات ولايتهم فيكون الحفظ أعم من العصمة لم يبعد. وأنت تعلم أن قولهم الأنبياء معصومون ظاهر في كون العصمة من توابع النبوة ومعللة بها وهو مخالف لتلك الدعوى كما لا يخفى، وما ذكر من التقسيم حسن ويعلم منه أن الكثير ممن يدعي الولاية في زماننا أو تدعى له ليس له منها سوى الدعوى لإصراره والعياذ بالله تعالى على كبائر تقع منه في اليوم مرارا عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك. وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم في تفسير الأولياء ما يظن أنه مخالف لما دلت عليه الآية في ذلك.
فقد أخرج ابن المبارك، والترمذي في نوادر الأصول وأبو الشيخ وابن مردويه وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل: يا رسول الله من أولياء الله؟ قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى»
أي لحسن سمتهم وأخباتهم.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي وجماعة عن أبي مالك الأشعري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله تعالى. قال أعرابي: يا رسول الله انعتهم لنا قال: «هم أناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا في الله يضع الله تعالى لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها يفزع الناس وهم لا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»
ولا مخالفة في الحقيقة فإن ما أشير إليه من حسن السمت والإخبات والتحاب في الله تعالى

صفحة رقم 141

من الأحكام اللازمة للإيمان والتقوى والآثار الخاصة بهما الحقيقة بالتخصيص بالذكر لظهورها وقربها من أفهام الناس، وقد أورد رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلا من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والتذكير ترغيبا لسائل أو حاضر فيما خصه بالذكر من أحكامهما، وأريد بوصفهم بأنهم يغبطهم النبيون على مجالسهم وقربهم الإشارة إلى راحتهم مما يعتري الأنبياء عليهم السلام من الاشتغال بأممهم، والمراد أنهم يغبطونهم على مجموع الأمرين، وعن الكواشي أن ذلك خارج مخرج المبالغة، والمعنى أنه لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء. وقال بعض المحققين: إن ذلك تصوير لحسن حالهم على طريقة التمثيل، وأيا ما كان فلا دليل فيه على أن الولاية أفضل من النبوة وقد كفر معتقد ذلك، وقد يؤول له بحمل ذلك على أن ولاية النبي أفضل من نبوته كما حمل ما قاله العز بن عبد السلام المخالف للأصح من أن النبوة أفضل من الرسالة على نحو ذلك، وكذا لنظير ما ذكرنا لا يخالف ما دلت الآية عليه تفسير عيسى عليه السلام لذلك.
فقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب قال: قال الحواريون: يا عيسى من أولياء الله تعالى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال عليه السلام: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها وأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم فصار استكثارهم منها استقلالا وذكرهم إياها فواتا وفرحهم بما أصابوا منها حزنا وما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها هم الفرحين، باعوها فكانوا ببيعها هم الرابحين ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله سبحانه وتعالى ويستضيئون بنوره ويضيئون به لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليس يرون نائلا مع ما نالوا ولا أماني دون ما يرجون ولا فرقا دون ما يحذرون.
ُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
استئناف جيء به في موضع التعليل لنفي حزنهم والخوف عليهم في قول، وفي آخر جيء به بيانا لما أولاهم سبحانه من خيرات الدارين بعد أن أخبر جل وعلا بإنجائهم من شرورهما ومكارهما وكأنه على هذا قيل: هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامة؟ فقيل: لهم البشرى إلخ، وتقديم الأول لما أن التخلية سابقة على التحلية مع ما فيه من رعاية حق المقابلة بين حسن حال المؤمنين وسوء حال المفترين وتعجيل إدخال المسرة بتبشير الخلاص عن الأهوال، وتوسيط البيان السابق بين التخلية والتحلية لإظهار كمال العناية به مع الإيذان بأن انتفاء ما تقدم لإيمانهم واتقائهم عما يؤدي إليه من الأسباب، ومن الناس من فسر الأولياء بالذين يتولونه تعالى بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل الَّذِينَ آمَنُوا إلخ تفسيرا لتوليهم إياه تعالى، وهذه الجملة تفسيرا لتوليته تعالى إياهم.
وتعقب بأنه لا ريب في أن اعتبار القيد الأخير في مفهوم الولاية غير مناسب لمقام ترغيب المؤمنين في تحصيلها والثبات عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخل بذلك إذ التحصيل إنما يتعلق بالمقدور والاستبشار لا يحصل إلا بما علم وجود سببه والقيد المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصوله حتى يعرفوا حصول الولاية لهم ويستبشروا بمحاسن آثارها بل التولي بالكرامة عين نتيجة الولاية فاعتباره في عنوان الموضوع ثم الاخبار بعدم الخوف والحزن مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل انتهى، وأنت تعلم أن ما ارتكبه ذلك البعض تكلف وعدول عن الظاهر فلا ينبغي العدول إليه وإن كان ما ذكره المتعقب لا يخلو عن نظر.

صفحة رقم 142

وجوز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره، وفي بعض الأخبار ما يؤيده، وْبُشْرى
في الأصل الخبر بما يظهر السرور في بشرة الوجه ومثلها البشارة وتطلق على المبشر به من ذلك وإلى إرادة كل ذهب بعض، والظرفان بعده على الأول متعلقان به وعلى الثاني في موضع الحال منه، والعامل ما في الخبر من معنى الاستقرار أي لهم البشرى حال كونها في الدنيا وحال كونها في الآخرة أي عاجلة وآجلة أو من الضمير المجرور أي حال كونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والثابت في أكثر الروايات أن البشرى في الحياة الدنيا هي الرؤيا الصالحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما هو المشهور، أو جزء من سبعين جزءا منها كما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر وأبي هريرة وهو وابن ماجة عن الأول.
فقد أخرج الطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي وابن ماجة والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
قال: هي «الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له»
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك فأجيب بما ذكر أيضا، وأخرج من طريق أبي سفيان عن جابر مثلي ذلك،
وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ وأبو القاسم ابن منده من طريق أبي جعفر عن جابر المذكور قال: أتى رجل من أهل البادية رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخبرني عن قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى إلخ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام: «أما قوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه أما قوله سبحانه: فِي الْآخِرَةِ
فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك»

وجاء مرفوعا وموقوفا عن غير واحد تفسيرها بما ذكر، وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن البشرى في الحياة الدنيا هي قوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: ٤٧] وعن الزجاج والفراء أنها هذا وما يشاكله من قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: ٢] وقوله سبحانه: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ [التوبة: ٢١] الآية، وقوله جل وعلا: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٥] إلى غير ذلك، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الضحاك أنه قال في ذلك: إنهم يعلمون أين هم قبل أن يموتوا. وجاء في تفسير البشرى في الآخرة ما سمعت في الخبر عن جابر الأخير.
وأخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة مرفوعا أنها الجنة،
وعن عطاء أن البشرى في الدنيا أن تأتيهم الملائكة عند الموت بالرحمة قال الله تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت: ٣٠] وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرؤون منها وغير ذلك من البشارات، وقيل: المراد بالبشرى العاجلة نحو النصر والفتح والغنيمة والثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس وغير ذلك، وأما البشرى الآجلة فغنية عن البيان، وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تفسير ذلك إذا صح وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن، فالأولى أن يحمل البشرى في الدارين على البشارة بما يحقق نفي الخوف والحزن كائنا ما كان، ويرشد إلى ذلك السباق، ومن أجل ذلك بشرى الملائكة لهم بذلك وقتا فوقتا حتى يدخلوا الجنة، وقد نطق الكتاب العزيز في غير موضع بهذه البشرى من الله تعالى علينا بها برحمته وكرمه تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي لا تغيير لأقواله التي من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمؤمنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة هاهنا دخولا أوليا ويثبت امتناع الأخلاف فيها لطفا وكرما ثبوتا قطعيا، وأريد من عدم تبديل كلماته سبحانه على تقدير أن يراد من البشرى الرؤيا الصالحة عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتي بطريق الوعد من قوله تبارك اسمه: هُمُ الْبُشْرى
لا عدم

صفحة رقم 143

الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية ولم يظهر لي وجهه بعد التدبر، والمشهور أن الرؤيا الصالحة لا يتخلف ما تدل عليه. وقد جاء من حديث الحكيم الترمذي وغيره عن عبادة رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلم قال له في الرؤيا الصالحة كلام يكلم به ربك عبده في المنام لِكَ
أي ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
الذي لا فوز وراءه، وجوز أن تكون الإشارة إلى البشرى بمعنى التبشير وقيل: إن ذلك إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى وجعل غير واحد الجملة الأولى وهذه الجملة اعتراضا جيء به لتحقيق المبشر به لتعظيم شأنه وهو مبني على جواز تعدد الاعتراض وعلى أنه يجوز أن يكون في آخر الكلام. ولذا قال العلامة الطيبي: لو جعلت الأولى معترضة والثانية تذييلا للمعترض والمعترض فيه ومؤكدة لهما كان أحسن بناء على أن ما في آخر الكلام يسمى تذييلا لا اعتراضا وهو مجرد اصطلاح. ومن جعل قوله سبحانه: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ معطوفا على الجملة قبل أي أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فلا يحزنك قول أعداء الله تعالى فالاعتراض عنده بين متصلين لا في آخر الكلام لكنه ليس بشيء، والذي عليه الجمهور أنه استئناف سيق تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم عما كان يلقاه من جهة الأعداء من الأذية الناشئة مقالاتهم الرديئة الوحشية وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بالنصر والعز إثر بيان أن له ولأتباعه أمنا من كل محذور وفوزا بكل مطلوب فهو متصل بقوله سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ إلخ معنى. وقيل: إنه متصل بقوله سبحانه: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ [يونس: ٤١] الآية واختاره على ما فيه من البعد الطبرسي.
وقرأ نافع «ولا يحزنك» من أحزن وهو في الحقيقة نهي له صلّى الله عليه وسلم عن الحزن كأنه قيل: لا تحزن بقولهم ولا تبال بكل ما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه، وإنما عدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في النهي عن الحزن لما أن النهي عن التأثير نهي عن التأثر بأصله ونفي له بالمرة، ونظير ذلك كما مر قولهم- لا أرينك هاهنا- ولا يأكلك السبع- ونحوه، وقد وجه فيه النهي إلى اللازم والمراد هو النهي عن الملزوم، قيل: وتخصيص النهي عن الحزن بالإيراد مع شمول النفي السابق للخوف أيضا لما أنه لم يكن فيه صلّى الله عليه وسلم شائبة خوف حتى ينهى عنه وربما كان يعتريه صلّى الله عليه وسلم في بعض الأوقات حزن فسلي عنه، ولا يخفى أن إذا قلنا إن الخوف والحزن متقاربان فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما علمت آنفا كان النهي عن الحزن نهيا عن الخوف أيضا إلا أن الأولى عدم اعتبار ما فيه توهم نسبة الخوف إلى ساحته عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن في ذلك نقص. فقد جاء نهي الأنبياء عليهم السلام عن الخوف كنهيهم عن الحزن بل قد ثبت صريحا نسبة ذلك إليهم وهو مما لا يخل بمرتبة النبوة إذ ليس كل خوف نقصا لينزهوا عنه كيف كان.
إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً كلام مستأنف سيق لتعليل النهي، وقيل: جواب سؤال مقدر كأنه قيل: لم لا يحزنه؟
فقيل: لأن الغلبة والقهر لله سبحانه لا يملك أحد شيئا منها أصلا لا هم ولا غيرهم فلا يقهر ولا يغلب أولياءه بل يقهرهم ويغلبهم ويعصمك منهم. وقرأ أبو حيوة «أن» بالفتح على صريح التعليل أي لأن، وحمل قتيبة بن مسلم ذلك على البدل ثم أنكر القراءة لذلك لأنه يؤدي إلى أن يقال: فلا يحزنك أن العزة لله جميعا وهو فاسد. وذكر الزمخشري أنه لو حمل على البدل لكان له وجه أيضا على أسلوب فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص: ٨٦] وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الشعراء: ٢٠٣، القصص: ٨٨] فيكون للتهييج والإلهاب والتعريض بالغير وفيه بعد هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع أقوالهم في حقك ويعلم ما يضمرونه عليك فيكافؤهم على ذلك وما ذكرناه في الآية هو الظاهر المتبادر.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله تعالى وأقاموا على كفرهم كبر ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءه من الله سبحانه فيما يعاتبه وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ

صفحة رقم 144

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
يسمع ما يقولون ويعلمه فلو شاء بعزته لانتصر منهم ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا مع ما فيه من تعليق العلم بما علق بالسمع، ولعل روايته عن الحبر غير معول عليها.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي من الملائكة والثقلين كما يدل عليه التعبير- بمن- الشائع في العقلاء، والتغليب غير مناسب هنا، ووجه تخصيصهم بالذكر الإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيد الله مملوكين له سبحانه فما عداهم من الموجودات أولى بذلك، والجملة مع ما فيها من التأكيد لما سبق من اختصاص العزة به جل شأنه الموجب لسلوته عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاته بمقالات المشركين تمهيد لما لحق من قوله سبحانه: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ ودليل على بطلان ظنونهم وأعمالهم المبينة عليها والاقتصار على أحد الأمرين قصور فلا تكن من القاصرين، وما نافية وشُرَكاءَ مفعول يَتَّبِعُ ومفعول يَدْعُونَ محذوف لظهوره، أي ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء في الحقيقة وإن سموها شركاء لجهلهم فالمراد سلب الصفة في الحقيقة ونفس الأمر فما ذكره أبو البقاء من عدم جواز هذا الوجه من الإعراب لأنه يدل على نفي اتباعهم الشركاء مع أنهم اتبعوهم ناشىء من الغفلة عما ذكرنا، وجوز أن يكون شُرَكاءَ المذكور مفعول يَدْعُونَ ويكون مفعول يَتَّبِعُ محذوفا لانفهامه من قوله سبحانه:
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون يقينا وإنما يتبعون ظنهم الباطل أو ظنهم أنها شركاء بتقدير معمول الظن أو تنزيله منزلة اللازم، وقدر بعضهم مفعول يَتَّبِعُونَ شركاء ميلا إلى إعمال الثاني في التنازع، وتعقب بأنه لا يصح أن يكون من ذلك الباب لأن مفعول الفعل الأول مقيد دون الثاني فلا يتحد المعمول والاتحاد شرط في ذلك، وكون التقييد عارضا بعد الإعمال بقرينة عامله فلا ينافي ما شرط في الباب بالباب كما لا يخفى، وجوز أيضا أن تكون ما استفهامية منصوبة- بيتبع- وشُرَكاءَ مفعول يَدْعُونَ أي أي شيء يتبع المشركون أي ما يتبعونه ليس بشيء، وأن تكون موصولة معطوفة على مَنْ أي وله تعالى ما يتبعه المشركون خلقا وملكا فكيف يكون شريكا له سبحانه، وتخصيص ذلك بالذكر مع دخوله فيما سبق عبارة أو دلالة للمبالغة في بيان بطلان الاتباع وفساد ما بنوه عليه من الظن الذي هو من الفساد بمكان، وجوز على احتمال الموصولية أن تكون مبتدأ خبره محذوف أي باطل ونحوه أو الخبر قوله سبحانه: إِنْ يَتَّبِعُونَ والعائد محذوف أي في عبادته أو اتباعه.
وقرأ السلمي «تدعون» بالتاء الخطابية، وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه وهي قراءة متجهة خلافا لزاعم خلافه فإن «ما» فيها استفهامية للتبكيت والتوبيخ والعائد على الَّذِينَ محذوف وشُرَكاءَ حال منه، والمراد من الَّذِينَ الملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل: أي شيء يتبع الذين تدعونهم حال كونهم شركاء في زعمكم من الملائكة والنبيين تقريرا لكونهم متبعين لله تعالى مطيعين له وتوبيخا لهم على عدم اقتدائهم بهم في ذلك كقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء: ٥٧] وحاصله أن الذين تعبدونهم يعبدون الله تعالى ولا يعبدون غيره فما لكم لا تقتدون بهم ولا تتبعونهم في ذلك ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقيل: إن يتبع هؤلاء إلا الظن ولا يتبعون ما يتبعه الملائكة والنبيون عليهم السلام من الحق وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يحزرون ويقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا أو يكذبون فيما ينسبونه إليه سبحانه وتعالى على أن الخرص إما بمعنى الحزر والتخمين كما هو الأصل الشائع فيه وإما بمعنى الكذب فإنه جاء استعماله في ذلك لغلبته في مثله.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً تنبيه على تفرده تعالى بالقدرة الكاملة والنعمة

صفحة رقم 145

الشاملة ليدلهم على توحده سبحانه باستحقاق العبادة فتعريف الطرفين للقصر وهو قصر تعيين، وفي ذلك أيضا تقرير لما سلف من كون جميع الموجودات الممكنة تحت قدرته وملكته المفصح عن اختصاص العزة به سبحانه.
والجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق- فمبصرا- حال وإن كان بمعنى التصيير- فلكم- المفعول الثاني أو حال كما في الوجه الأول فالمفعول الثاني لِتَسْكُنُوا فِيهِ أو هو محذوف يدل عليه المفعول الثاني من الجملة الثانية كما أن العلة الغائية منها محذوفة اعتمادا على ما في الأولى، والتقدير هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم فحذف من كل ما ذكر في الآخر اكتفاء بالمذكور عن المتروك وفيه على هذا صنعة الاحتباك والآية شائعة في التمثيل بها لذلك وهو الظاهر فيها وإن كان أمرا غير ضروري، ومن هنا ذهب جمع إلى أنه لا احتباك فيها، والعدول عن لتبصروا فيه الذي يقتضيه ما قبل إلى ما في النظم الجليل للتفرقة بين الظرف المجرور والظرف الذي هو سبب يتوقف عليه في الجملة وإسناد الأبصار إلى النهار مجازي كالذي في قول جرير:

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وقولهم:- نهاره صائم- وغير ذلك مما يحصى كثرة. وإلى هذا ذهب ابن عطية وجماعة، وقيل: إن مُبْصِراً للنسب كلابن وتامر أي ذا إبصار إِنَّ فِي ذلِكَ أي في الجعل المذكور أو في الليل والنهار، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه وعلو رتبته لَآياتٍ أي حججا ودلالات على توحيد الله تعالى كثيرة أو آيات أخر غير ما ذكر لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي الحجج مطلقا سماع تدبر واعتبار أو يسمعون هذه الآيات المتلوة ونظائرها المنبهة على تلك الآيات التكوينية الآمرة بالتأمل فيها ذلك السماع فيعملون بمقتضاها، وتخصيص هؤلاء بالذكر مع أن الآيات منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها.
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً شروع في ذكر ضرب آخر من أباطيل المشركين وبيان بطلانه، والمراد بهؤلاء المشركين على ما قيل: كفار قريش والعرب فإنهم قالوا: الملائكة بنات الله تعالى، واليهود والنصارى القائلون: عزير وعيسى عليهما السلام ابناه عز وجل والاتخاذ صريح في التبني، وظاهر الآية يدل على أن ذلك قول كل المشركين وإذا ثبت أن منهم من يقول بالولادة والتقدير حقيقة كان ما هنا قول البعض ولينظر هل يجري فيه احتمال إسناد ما للبعض للكل لتحقق شرطه أم لا يجري لفقد ذلك والولد يستعمل مفردا وجمعا.
وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة بالكسر فيهما وولد الضم وهو يشمل الذكر والأنثى سُبْحانَهُ تنزيه وتقديس له تعالى عما نسبوا إليه على ما هو الأصل في معنى سبحان وقد يستعمل للتعجب مجازا ويصح إرادته هنا، والمراد التعجب من كلمتهم الحمقى، وجمع بعضهم بين التنزيه والتعجب ولعله مبني على أن التعجب معنى كنائي وأنه يصح إرادة المعنى الحقيقي في الكناية وهو أحد قولين في المسألة، وقيل: إنه لا يلزم استفادة معنى التعجب منه باستعمال اللفظ فيه بل هو من المعاني الثواني، وقوله سبحانه: هُوَ الْغَنِيُّ أي عن كل شيء في كل شيء علة لتنزهه تعالى وتقدس عن ذلك وإيذان بأن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة وهي التقوى أو بقاء النوع مثلا، وقوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي من العقلاء وغيرهم تقرير لمعنى الغني لأن المالك لجميع الكائنات هو الغني وما عداه فقير، وقيل: هو علة أخرى لتنزه عن التبني لأنه ينافي المالكية، وقوله جل شأنه: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي حجة بِهذا أي بما ذكر من القول الباطل توضيح لبطلانه بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض والمنافي- فإن- نافية ومِنْ زائدة لتأكيد النفي ومجرورها مبتدأ والظرف المقدم خبره أو مرتفع على أنه فاعل له لاعتماده على النفي وبِهذا متعلق

صفحة رقم 146

إما- بسلطان- لأنه بمعنى الحجة كما سمعت وإما بمحذوف وقع صفة له، وقيل: وقع حالا من الضمير المستتر في الظرف الراجع إليه وإما بما في عِنْدَكُمْ من معنى الاستقرار، ويتعين على هذا كون سُلْطانٍ فاعلا للظرف لئلا يلزم الفصل بين العامل المعنوي ومتعلقه بأجنبي، والالتفات إلى الخطاب لمزيد المبالغة في الإلزام والإفحام وتأكيد ما في قوله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من التوبيخ والتقريع على جهلهم واختلاقهم، وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد بمعزل من الاهتداء ولا تصلح متمسكا لنفي القياس والعمل بخبر الآحاد لأن ذلك في الفروع وهي مخصوصة بالأصول لما قام من الأدلة على تخصيصها وإن عم ظاهرها.
قُلْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ليبين سوء مغبتهم ووخامة عاقبتهم وفي ذلك إنذارهم عن الاستمرار على ما هم فيه ولغيرهم عن الوقوع في مثله إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في كل أمر ويدخل الافتراء بنسبة الولد والشريك إليه تعالى دخولا أوليا وهو أولى من الاقتصار على ما الكلام فيه، وحينئذ فالمراد بالموصول ما يعم أولئك المخاطبين وغيرهم، أي إن من تكون هذه صفتهم كائنا ما كانوا لا يُفْلِحُونَ لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب أصلا ويندرج في ذلك عدم النجاة من النار وعدم الفوز بالجنة والاقتصار عليه في مقام المبالغة في الزجر عن الافتراء عليه سبحانه دون النعيم في المناسبة.
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، والتنوين للتحقير والتقليل، والظرف متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع نعتا له، والجملة كلام مستأنف سيق جوابا لسؤال مقدر عما يتراءى فيهم بحسب الظاهر من نيل المطالب والفوز بالحظوظ الدنيوية على الإطلاق أو في ضمن افترائهم وبيانا لأن ذلك بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح كأنه قيل: كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم؟ فقيل: هو أو ذلك متاع حقير قليل في الدنيا وليس بفوز بالمطلوب، ثم أشير إلى انتفاء النجاة عن المكروه أيضا بقوله سبحانه: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي إلى حكمنا رجوعهم بالموت فيلقون الشقاء المؤبد ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم المستمر أو بكفرهم في الدنيا فأين هم من الفلاح وما ذكرنا من كون متاع خبر مبتدأ محذوف هو الذي ذهب إليه غير واحد من المعربين، غير أن أبا البقاء وآخرين منهم قدروا المبتدأ حياتهم أو تقلبهم أو افتراؤهم، واعترض على تقدير الأخير بأن المتاع إنما يطلق على ما يكون مطبوعا عند النفس مرغوبا فيه في نفسه يتمتع به وينتفع وإنما عدم الاعتداد به لسرعة زواله، ونفس الافتراء عليه سبحانه أقبح القبائح عند النفس فضلا عن أن يكون مطبوعا عندها. وأجيب بأن إطلاق المتاع على ذلك باعتبار أنه مطبوع عند نفوسهم الخبيثة وفيه انتفاع لهم به حسبما يرونه انتفاعا وإن كان من أقبح القبائح وغير منتفع به في نفس الأمر، ولا يخفى أن الوجه الأول مع هذا أوجه، وقيل: إن المذكور مبتدأ محذوف الخبر أي لهم متاع إلخ وليس ببعيد، والآية إما مسوقة من جهته سبحانه لتحقيق عدم أفلاحهم غير داخلة في الكلام المأمور به وهو الذي يقتضيه ظاهر قوله سبحانه: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وقوله تعالى: ثُمَّ نُذِيقُهُمُ وإما داخلة فيه على أن النبي صلّى الله عليه وسلم مأمور بنقله وحكايته عنه تعالى شأنه وله نظائر في الكتاب العزيز وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي على المشركين من أهل مكة وغيرهم لتحقيق ما سبق من عدم إفلاح المفترين وكون ما يتمتعون به على جناح الفوات وأنهم مشرفون على الشقاء المؤبد والعذاب الشديد نَبَأَ نُوحٍ أي خبره الذي له شأن وخطر مع قومه الذين هم أضراب قومك في الكفر والعناد ليتدبروا ما فيه مما فيه مزدجر فلعلهم ينزجرون عما هم عليه أو تنكسر شدة شكيمتهم ولعل بعض من يسمع ذلك منك ممن أنكر صحة نبوتك أن يعترف بصحتها فيؤمن بك بأن يكون قد ثبت عنده ما يوافق ما تضمنه المتلو من

صفحة رقم 147

غير مخالفة له أصلا فيستحضر أنك لم تسمع ذلك من أحد ولم تستفده من كتاب فلا طريق لعلمك به إلا من جهة الوحي وهو مدار النبوة.
وفي ذلك من تقرير ما سبق من كون الكل لله سبحانه، واختصاص؟؟؟ العزة به تعالى، وانتفاء الخوف على أوليائه وحزنهم، وتشجيع النبي صلّى الله عليه وسلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى، والاقتصار على بعض ذلك قصور وقد تقدم الكلام في نوح عليه السلام إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اللام للتبليغ أو للتعليل وإِذْ بدل من نَبَأَ بدل اشتمال أو معمولة له لا- لاتل- لفساد المعنى، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من نَبَأَ وأيّا ما كان فالمراد بعض نبئه عليه الصلاة والسلام لا كل ما جرى بينه وبين قومه وكانوا على ما قال الأجهوري من بني قابيل يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ أي عظم وشق عَلَيْكُمْ مَقامِي أي نفسي على أنه في الأصل اسم مكان وأريد منه النفس بطريق الكناية الإيمائية كما يقال المجلس السامي، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الإقامة يقال: قمت بالمكان وأقمت بمعنى أي إقامتي بين ظهرانيكم مدة مديدة، وكونها ما ذكر الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما يقتضي أن يكون القول في آخر عمره ومنتهى أمره ويحتاج ذلك إلى نقل، أو المراد قيامه بدعوتهم وقريب منه قيامه لتذكيرهم ووعظهم لأن الواعظ كان يقوم بين من يعظهم لأنه أظهر وأعون على الاستماع كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود، وكثيرا ما كان نبينا صلّى الله عليه وسلم يقوم على المنبر فيعظ الجماعة وهم قعود فيجعل القيام كناية أو مجازا عن ذلك أو هو عبارة عن ثبات ذلك وتقرره وَتَذْكِيرِي إياكم بِآياتِ اللَّهِ الدالة على وحدانيته المبطلة لما أنتم عليه من الشرك فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ لا على غيره، والجملة جواب الشرط وهو عبارة عن عدم مبالاته والتفاته إلى استثقالهم، ويجوز أن تكون قائمة مقامه، وقيل: الجواب محذوف وهذا عطف عليه أي فافعلوا ما شئتم، وقيل: المراد الاستمرار على تخصيص التوكل به تعالى، ويجوز أن يكون المراد إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل وإلا فهو عليه السلام متوكل عليه سبحانه لا على غيره دائما، وقوله سبحانه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ عطف على الجواب المذكور عند الجمهور والفاء لترتيب الأمر بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفس الإجماع عليه، وقيل: إنه الجواب وما سبق اعتراض وهو يكون بالفاء. فاعلم فعلم المرء ينفعه. ولعله أقل غائلة مما تقدم لما سمعته مع ما فيه من ارتكاب عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام. و «أجمعوا» بقطع الهمزة وهو كما قال أبو البقاء من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه إلا أنه حذف حرف الجر فوصل الفعل، وقيل: إن أجمع متعد بنفسه واستشهد له بقول الحارث بن حلزة:

أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
ونص السدوسي على أن عدم الإتيان بعلى كأجمعت الأمر أفصح من الإتيان بها كأجمعت على الأمر، وقال أبو الهيثم: معنى أجمع أمره جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فإذا عزم فقد جمع ما تفرق من عزمه ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى وأصله التعدية بنفسه، ولا فرق بين أجمع وجمع عند بعض، وفرق آخرون بينهما بأن الأول يستعمل في المعاني والثاني في الأعيان فيقال: أجمعت أمري وجمعت الجيش ولعله أكثري لا دائمي، والمراد بالأمر هنا نحو المكر والكيد وَشُرَكاءَكُمْ أي التي زعمتم أنها شركاء لله سبحانه وتعالى، وهو نصب على أنه مفعول معه من الفاعل لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم، ويؤيد ذلك قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وأبي عبد الرحمن السلمي وعيسى الثقفي بالرفع فإن الظاهر أنه حينئذ معطوف على الضمير المرفوع المتصل ووجود الفاصل قائم مقام التأكيد بالضمير المنفصل.

صفحة رقم 148

وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر أي وشركاؤكم يجمعون ونحوه. وقيل: إن النصب بالعطف على أَمْرَكُمْ بحذف المضاف أي وأمر شركائكم بناء على أن أجمع تتعلق بالمعاني والكلام خارج مخرج التهكم بناء على أن المراد بالشركاء الأصنام، وقيل: إنه على ظاهره والمراد بهم من على دينهم. وجوز أن لا يكون هناك حذف والكلام من الإسناد إلى المفعول المجازي على حد ما قيل في وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] وقيل: إن ذاك على المفعولية به لمقدر كما قيل في قوله:
علفتها تبنا وماء باردا أي وادعوا شركاءكم كما قرأ به أبي رضي الله تعالى عنه، وقرأ نافع «فأجمعوا» بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع، وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال: جمعت شركائي كما يقال: جمعت أمري، وزعم بعضهم أن المعنى ذوي أمركم وهو كما ترى، والمعنى أمرهم بالعزم والإجماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم من المكر ونحوه ثقة بالله تعالى وقلة مبالاة بهم، وليس المراد حقيقة الأمر ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ ذلك عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي مستورا من غمه إذا ستره، ومنه حديث وائل بن حجر «لا غمة في فرائض الله تعالى» أي لا تستر ولا تخفي وإنما تظهر وتعلن، والجار والمجرور متعلق- بغمة. ، والمراد نهيهم عن تعاطي ما يجعل ذلك غمة عليهم فإن الأمر لا ينهى ويستلزم ذلك الأمر بالإظهار، فالمعنى أظهروا ذلك وجاهروني به فإن الستر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للستر وجه، وكلمة «ثم» للتراخي في الرتبة، وإظهار الأمر في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وقيل: أظهر لأن المراد به ما يعتريهم من جهته عليه السلام من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم لا الأمر الأول، والمراد بالغمة الغم كالكربة والكرب، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع حالا منها، وثم للتراخي في الزمان، والمعنى ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم وتخلصوا بهلاكي من ثقل مقامي وتذكيري بآيات الله تعالى، واعترض عليه بأنه لا يساعده قوله تعالى شأنه: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ أي أدوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون ولا تمهلوني على أن القضاء من قضى دينه إذا أداه، ومفعوله محذوف كما أشرنا إليه وفيه استعاره مكنية والقضاء تخييل وقد يفسر القضاء بالحكم أي احكموا بما تؤدوه إلي ففيه تضمين واستعارة مكنية أيضا لأن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والوجه الأول سالم عن ذلك وهو ظاهر، وقيل: المراد بالغمة المعنى الأول وبالأمر ما تقدم وبالنهي الأمر بالمشاورة أي اجمعوا أمركم ثم تشاوروا فيه وفيه بعد لعدم ظهور كلا الترتيبين الدالة عليهما ثم سواء اعتبرت قراءة الجماعة أو قراءة نافع في «اجمعوا» وقرىء «أفضوا» إلي بالفاء أي انتهوا إليّ بشركم أو ابرزوا إليّ من أفضى إذا خرج إلى الفضاء كأبرز إذا خرج إلى البراز وهو المكان الواسع فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي بقيتم على إعراضكم عن تذكيري أو أحدثتم إعراضا مخصوصا عن ذلك بعد وقوفكم على أمري ومشاهدتكم مني ما يدل على صحة قولي فَما سَأَلْتُكُمْ بمقابلة تذكيري ووعظي مِنْ أَجْرٍ تؤدونه إلي حتى يؤدي ذلك إليكم إلى توليكم إما لاتهامكم إياي بالطمع أو لثقل دفع المسئول عليكم أو حتى يضرني توليكم المؤدي إلى الحرمان فالأول لإظهار بطلان التولي ببيان عدم ما يصححه والثاني لإظهار عدم مبالاته عليه السلام بوجوده وعدمه، وعلى التقديرين فالفاء الأولى لترتب هذا الشرط على الجزاء قبله والفاء الثانية لسببية الشرط للإعلام بمضمون الجزاء بعده كما ذكره بعض المحققين، أي إن توليتم فاعلموا أن ليس في مصحح له أولا تأثر منه على حد ما قيل في قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام: ١٧].

صفحة رقم 149

وذهب بعضهم إلى أن جواب الشرط محذوف أقيم ما ذكر وهو علته مقامه أي فلا باعث لكم على التولي ولا موجب له أو فلا ضير عليّ بذلك، وكلام البعض مشعر بأنه مع اعتبار الحذف والإقامة المذكورين يجيء حديث اعتبار سببية الشرط للإعلام وهو الذي يميل إليه الذوق و «من» زائدة للتأكيد أي فما سألتكم أجرا، وقوله تعالى: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ تأكيد لما قبله على المعنى الأول وتعليل لاستغنائه عليه السلام على المعنى الثاني أي ما ثوابي على العظة والتذكير إلا عليه تعالى يثيبني بذلك آمنتم أو توليتم، وقوله سبحانه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تذييل على ما قيل لمضمون ما قبله مقرر له، والمعنى وأمرت بأن أكون منتظما في عداد المسلمين الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا ولا يطلبون به دنيا، وفيه حمل الإسلام على ما يساوق الإيمان واعتبار التقييد، وعدل عنه بعضهم لما فيه من نوع تكلف
فحمل الإسلام على الاستسلام والانقياد ولم يقيد، أي وأمرت بأن أكون من جملة المنقادين لحكمه تعالى لا أخالف أمره ولا أرجو غيره، وفيه على هذا المعنى أيضا من تأكيد ما تقدم وتقرير مضمونه ما لا يخفى، ولا يظهر أمر التأكيد على تقدير أن يكون المعنى من المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء في طاعة الله تعالى ظهوره على التقديرين السابقين، وبالجملة إنه عليه السلام لم يقصر في إرشادهم بهذا الكلام وبلغ الغاية القصوى فيه.
وذكر بعضهم وجه نظمه على هذا الأسلوب على بعض الأوجه المحتملة فقال: إنه عليه الصلاة والسلام قال في أول الأمر: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فبين وثوقه بربه سبحانه أي إني وثقت به فلا تظنوا بي أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ كأنه يقول: اجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأشياء التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضيفوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانهم وبالتقرب إليهم ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثا وهو قوله: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً فأراد أن يسعوا في أمره غاية السعي ويبالغوا فيه غاية المبالغة حتى يطيب عيشهم، ثم لم يقتصر على ذلك حتى ضم إليه رابعا فقال: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ آمرا لهم بأداء ذلك كله إليه، ثم ضم إلى ذلك خامسا وَلا تُنْظِرُونِ فنهاهم عن الإمهال وفي ذلك من الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الغاية في التوكل على الله سبحانه وأنه كان قاطعا بأن كيدهم لا يضره ولا يصل إليه وأن مكرهم لا ينفذ فيه ما هو أظهر من الشمس وأبين من أمس، ثم إنه عليه السلام أراد أن يجعل الحجة لازمة عليهم ويبرىء ساحته فنفى سؤاله إياهم شيئا من الأجر وأكد ذلك بأن أجره على الله سبحانه لا على غيره مشيرا إلى مزيد كرمه جل جلاله وأنه يثيبه على فعله سأله أو لم يسأله ولذا لم يقل إن سؤالي الأجر إلا من الله تعالى، ثم لم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه مأمور بما يندرج فيه عدم سؤالهم والالتفات إلى ما عندهم وأن يتصف به على أتم وجه لأن مِنَ الْمُسْلِمِينَ أبلغ من مسلما كما تحقق في محله وفي ذلك قطع ما عسى أن يحول بينهم وبين إجابة دعوته والاتعاظ بعظته إلا أن القوم قد بلغوا الغاية في العناد والتمرد.
فَكَذَّبُوهُ أي فأصروا بعد أن لم يبق عليهم عليه السلام في قوس الإلزام منزعا وفي كأس بيان أن لا سبب لتوليهم غير التمرد مكرعا على ما هم عليه من التكذيب الدال عليه السباق واللحاق وهو عطف على جملة قوله تعالى:
قالَ لِقَوْمِهِ والفاء في قوله تعالى: فَنَجَّيْناهُ فصيحة في رأي أي فحقت عليهم كلمة العذاب فأنجيناه، وأنكر ذلك الشهاب وادعى أن ذكر ما يشير إليه في عبارة بعض المفسرين توطئة للتفريع لا إشارة إلى أن الفاء فصيحة، وأنا لا أرى فيه بأسا إلا أن تقدير فعاملنا كلا بما تقتضيه الحكمة ونحوه عندي أولى، ومتعلق الإنجاء محذوف أي من الغرق كما يدل عليه المقام، وقيل: من أيدي الكفار أي فخلصناه من ذلك وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنين به وكانوا في

صفحة رقم 150

المشهور أربعين رجلا وأربعين امرأة وقيل دون ذلك فِي الْفُلْكِ أي السفينة وهو مفرد هاهنا والجار كما قال الأجهوري وغيره متعلق بأنجيناه أي وقع الإنجاء في الفلك، ويجوز أن يتعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف قبله الواقع صلة أي والذي استقروا معه في الفلك وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ عمن هلك بالإغراق بالطوفان وهو جمع خليفة وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهم الباقون من قومه، والتعبير عنهم بالموصول للإيذان بعلية مضمون الصلة للإغراق وتأخير ذكره عن ذكر الإنجاء والاستخلاف لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات جرائم المجرمين فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ المخوفين بالله تعالى وعذابه والمراد بهم المكذبين، والتعبير عنهم بذلك للإشارة إلى إصرارهم على التكذيب حيث لم ينجع الإنذار فيهم ولم يفدهم شيئا وقد جرت عادة الله تعالى أن لا يهلك قوما بالاستئصال إلا بعد الإنذار لأن من أنذر فقد أعذر، والنظر كما قال الراغب يكون بالبصر والبصيرة والثاني أكثر عند الخاصة وسيق الكلام لتهويل ما جرى عليهم وتحذير من كذب بالرسول عليه الصلاة والسلام والتسلية له صلّى الله عليه وسلم، والمراد اعتبر ما أخبر الله تعالى به لأنه لا يمكن أن ينظر إليه هو صلّى الله عليه وسلم ولا من أنذره ثُمَّ بَعَثْنا أي أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نوح عليه الصلاة والسلام رُسُلًا أي كراما ذوي عذر كثير فالتنكير للتفخيم والتكثير إِلى قَوْمِهِمْ قيل أي إلى أقوامهم على معنى أرسلنا كل رسول الله إلى قوم خاصة مثل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص لا على معنى أرسلنا كل رسول منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم أي قوم كانوا، وفيه إشارة إلى أن عموم الرسالة إلى البشر لم يثبت لأحد من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام، وظاهر كلامهم الإجماع على أن ذلك مخصوص بنبينا صلّى الله عليه وسلم ولم يثبت لأحد ممن أرسل بعد نوح، واختلف فيه عليه السلام هل بعث إلى أهل الأرض كافة أو إلى أهل صقع منها، وعليه يبنى النظر في الغرق هل عم جميع أهل الأرض أو كان لبعضهم وهم أهل دعوته المكذبين به كما هو ظاهر كثير من الآيات والأحاديث، قال ابن عطية: الراجح عند المحققين هو الثاني، وكثير من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الغرق، والأول لا ينافي القول باختصاص عموم الرسالة على العموم المشهور بين الخصوص والعموم بنبينا صلّى الله عليه وسلم لأنها لمن بعده إلى يوم القيامة.
وزعم بعضهم أن الغرق كان عاما مع خصوص البعثة ولا مانع من أن يهلك الله تعالى من لا جناية له مع من له جناية ولا اعتراض عليه سبحانه فيما ذكر إذ هو تصرف في خالص ملكه ولا يسئل عما يفعل. وفي قوله سبحانه:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً نوع إشارة إلى ذلك. نعم قد ثبت لنوح عليه السلام عموم الرسالة انتهاء حيث لم يبق على وجه الأرض بعد الطوفان سوى من كان معه وهم جميع أهل الأرض إذ ذاك فالفرق بين رسالته عليه السلام ورسالة نبينا صلّى الله عليه وسلم ظاهر فإن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام عامة ابتداء وانتهاء ورسالته عليه السلام عامة انتهاء لا ابتداء ولا يخلو عن نظر، والأولى أن يعتبر في اختصاص عموم رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام كونها لمن بعده إلى يوم القيامة فإن عدم ثبوت ذلك لأحد من الرسل عليهم السلام قبل نوح وبعده ما لا يتنازع فيه، وهذا كله إذا لم يلاحظ في العموم الجن وكذا الملائكة إذا لوحظ كما يفيده قوله سبحانه: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:
١] فأمر الاختصاص أظهر وأظهر.
فَجاؤُهُمْ أي فأتى كل رسول قومه المخصوصين به بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الواضحة الدالة على صدق ما يقولون، والباء إما متعلقة بما عندها على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المرفوع أي متلبسين بالبينات لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة فقط بل بأن يأتي ببينة أو ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء

صفحة رقم 151

الحكمة، وإلى نفي إرادة الإتيان ببينة وإرادة الإتيان ببينات كثيرة ذهب شيخ الإسلام، ثم قال: فإن مراعاة انقسام الآحاد على الآحاد إنما هي في ضميري فَجاؤُهُمْ كما أشير إليه، ولعل صنيعنا أحسن من صنيعه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن انفهام إرسال كل رسول إلى قومه من إضافة القوم إلى ضمير رُسُلًا وليس ذلك من مقابلة الجمع بالجمع المقتضي لانقسام الآحاد على الآحاد، ولا شك أن انفهام مجيء كل رسول قومه المخصوصين به تابع لذلك. وبعد هذا كله إذا اعتبر مقابلة الجمع بالجمع في جاؤوهم بالبينات، وقيل بانقسام الآحاد على الآحاد لا يلزم أن يكون لكل رسول بينة جاء بها كما أن- باع القوم دوابهم- لا يقتضي أن يكون لكل واحد من القوم دابة واحدة باعها فإن معناه باع كل من القوم ما له من الدواب وهو يعم الدابة الواحدة وغيرها، وهذا بخلاف ركب القوم دوابهم فإنه يتعين فيه إرادة كل واحدة من الدواب لاستحالة ركوب الشخص دابتين مثلا. وقد نص العلامة أبو القاسم السمرقندي في حواشيه على المطول أنه لا يشترط في مقابلة الجمع بالجمع انقسام الآحاد على الآحاد بمعنى أن يكون لكل واحد من أحد الجمعين واحد من الجمع الآخر وهو ظاهر فيما قلنا، والمعول عليه في كون الآية من قبيل المثال الأول أمر خارج، فإن من المعلوم أن الرسول الواحد من الرسل عليهم السلام قد جاء قومه ببينات فوق الواحدة فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي أي فما صح ولا استقام لهم في وقت من الأوقات أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم ومزيد عنادهم، وضمير الجمع عنا للقوم المبعوث إليهم وكذا في قوله تعالى: بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ والباء فيه صلة- يؤمنوا- وما موصولة والمراد بها جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها، والمراد بعدم إيمانهم بها إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبتكذيبهم من قبل تكذيبهم من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان الإصرار والعناد، وهذا بناء على أن المحكي آخر أحوالهم حسبما يشير إليه حكاية قوم نوح عليه السلام، ولم يجعل التكذيب مقصودا بالذات كما جعل عدم إيمانهم كذلك إيذانا بأنه بين في نفسه غني عن البيان، وإنما المحتاج إليه عدم إيمانهم بعد تواتر البينات وتظاهر المعجزات التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أهل العقول، وإذا كان المحكي جميع أحوال أولئك الأقوام فالمراد بعدم إيمانهم المفاد بالنفي السابق كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان إصرارهم وبعدم إيمانهم المفهوم من جملة الصلة كفرهم قبل مجيء الرسل عليهم السلام ويراد حينئذ من الموصول أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها كالتوحيد ولوازمه مما يستحيل تبدله وتغيره ومعنى تكذيبهم بذلك قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا أهل جاهلية بحيث لم يسمعوا بذلك قط بل كأن كل قوم يتسامعون به من بقايا من قبلهم فيكذبونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد، وقيل: المراد أنهم لم ينتفعوا بالبعثة وكانت حالهم بعد البعثة كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية والأولى أولى، وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص، فإنهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه الكافة فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به البعض أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لأن ما عليه يدور أمر العذاب عند اجتماع التكذيبين هو التكذيب الواقع بعد البعثة والدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] وإنما ذكر ما وقع قبل بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وفكك بعضهم بين الضمائر فقيل: ضمير كانُوا ويؤمنوا لقوم الرسل وضمير كَذَّبُوا لقوم نوح عليه السلام أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي بمثله، والمراد به ما بعث الرسل عليهم السلام لإبلاغه وجوز على هذا القول أن يراد بالموصول نوح نفسه أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بنوح عليه السلام إذ
لو آمنوا به

صفحة رقم 152

آمنوا بأنبيائهم عليهم السلام ولا يخفى ما في ذلك، ومن الناس من جعل الباء سببية وما مصدرية والمعنى كذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله تعالى أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بسبب تكذيبهم من قبل وأيده بالآية الآتية، وفيه مخالفة الجمهور من جعل ما المصدرية اسما كما هو رأي الأخفش. وابن السراج ليرجع الضمير إليها، وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونه مركوزا في الأذهان ما لا يخفى من التعسف، وقيل: ما موصوفة والباء للسببية أيضا أو للملابسة أي بشيء كذبوا به وهو العناد والتمرد وهو كما ترى كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع المحكم نَطْبَعُ فالإشارة على حد ما قرر في قوله سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣] ونظائره مما مر، وجعل الإشارة إلى الإغراق كما فعل الخازن ليس بشيء، والطبع يطلق على تأثير الشيء بنقش الطابع وعلى الأثر الحاصل عن النقش والختم مثله في ذلك على ما ذكره الراغب أيضا، وذكر أنه تصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدراهم وأنه أعم من الختم وأخص من النقش، والأكثرون على تفسيره بالختم مرادا به المنع أن نختم عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي المتجاوزين عن الحدود المعهودة في الكفر والعناد ونمنعها لذلك عن قبول الحق وسلوك سبيل الرشاد، وقد جاء الطبع بمعنى الدنس ومنه طبع السيف لصدئه ودنسه، وبعضهم حمل ما في الآية على ذلك، وفسره المعتزلة حيث وقع منسوبا إليه تعالى بالخذلان تطبيقا له على مذهبهم، ومن هنا قال الزمخشري: إنه جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم لأن من عاند وثبت على اللجاج خذله الله تعالى ومنه التوفيق واللطف فلا يزال كذلك حتى يراكم الرين والطبع على قلبه، ومراده كما قيل إن نَطْبَعُ بمعنى نخذل على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية لكن لما كان الطبع الذي هو الخذلان تابعا لعنادهم ولجاجهم لازما لهما أجري مجرى الكناية عنهما. وقرىء «يطبع» بالياء على أن الضمير لله سبحانه وتعالى ثُمَّ بَعَثْنا عطف على ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ عطف قصة على قصة مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد أولئك الرسل عليهم السلام مُوسى وَهارُونَ أؤثر التنصيص على بعثتهما عليهما السلام مع ضرب تفصيل إيذانا بخطر شأن القصة وعظم وقعها إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه الذين يجتمعون على رأي فيملؤون العين رواء والنفوس جلالة وبهاء، وتخصيصهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالح والمهمات ومراجعة الكل إليهم في النوازل والملمات، وقيل: المراد بهم هنا مطلق القوم من استعمال الخاص في العام بِآياتِنا أي أدلتنا ومعجزاتنا وهي الآيات المفصلات في الأعراف والباء للملابسة أي متلبسين بها فَاسْتَكْبَرُوا أي تكبروا وأعجبوا بأنفسهم وتعظموا عن الاتباع، والفاء فصيحة أي فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا، وأشير بهذا الاستكبار إلى ما وقع منهم أول الأمر من قول اللعين لموسى عليه السلام: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء:
١٨] وغير ذلك وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ جملة معترضة تذييلية وجوز فيها الحالية بتقدير قد، وعلى الوجهين تفيد اعتيادهم الإجرام وهو فعل الذنب العظيم، أي وكانوا قوما شأنهم ودأبهم ذلك.
وقد يؤخذ مما ذكر تعليل استكبارهم، والحمل على العطف الساذج لا يناسب البلاغة القرآنية ولا يلائمها فمعلوم هذا القدر من سوابق أوصافهم فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا الفاء فصيحة أيضا معربة عما صرح به في مواضع أخر كأنه قيل: قال موسى: قد جئتكم ببينة من ربكم إلى قوله تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف: ١٠٧] فلما جاءهم الحق قالُوا من فرط عنادهم وعتوهم مع تناهي عجزهم:
إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر كونه سحرا أو واضح في بابه فائق فيما بين أضرابه- فمبين- من أبان بمعنى ظهر واتضح لا بمعنى أظهر وأوضح كما هو أحد معنييه، والإشارة إلى الحق الذي جاءهم، والمراد به كما قال غير

صفحة رقم 153

واحد الآيات، وقد أقيم مقام الضمير للإشارة إلى ظهور حقيته عند كل أحد، ونسبة المجيء إليه على سبيل الاستعارة تشير أيضا إلى غاية ظهوره وشدة سطوعه بحيث لا يخفى على من له أدنى مسكة، ومن هنا قيل في المعنى: فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه قالوا إلخ، فالاعتراض عليه بأنه لا دلالة في الكلام على هذه المعرفة وإنما تعلم في موضع آخر كقوله سبحانه: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤] من قلة المعرفة لظهور دلالة ما علمت، وكذا ما قالوا بناء على ما قيل من دلالته على الاعتراف وتناهي العجز عليها، وقرىء «لساحر» وعنوا به موسى عليه السلام لأنه الذي ظهر على يده ما أعجزهم قالَ مُوسى استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال لهم موسى عليه السلام؟ فقيل: قال لهم على سبيل الاستفهام الإنكاري التوبيخي: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ الذي هو أبعد شيء من السحر الذي هو الباطل البحت لَمَّا جاءَكُمْ أي حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه وهو الذي يقتضيه ما أشير إليه آنفا، أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبر كما قيل، وأيا ما كان فهو مما ينافي القول الذي في حيز الاستفهام، والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه وإيذانا بأنه مما لا ينبغي أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية، أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحر مبين؟ يعني به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم، وجوز أن يكون مقول القول قوله عز وجل: أَسِحْرٌ هذا على أن مقصودهم بالاستفهام تقريره عليه السلام لا الاستفهام الحقيقي لأنهم قد بتوا القول بأنه سحر فكيف يستفهمون عنه، والمحكي في أحد الموضعين مفهوم قولهم ومعناه وإلا فالقصة واحدة والصادر فيها بحسب الظاهر إحدى المقالتين ولا يخفى ضعفه، وأن يكون القول بمعنى العيب والطعن من قولهم: فلأن يخاف القالة- وبين الناس تقاول- إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه، ونظيره الذكر في قوله تعالى: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء: ٦٠] وحينئذ يستغنى عن المفعول، واللام لبيان المطعون فيه كما في قوله تعالى: هَيْتَ لَكَ [يوسف: ٢٣] أي أتعيبونه وتطعنون فيه، وعلى هذا الوجه وكذا الوجه الأول يكون قوله سبحانه: أَسِحْرٌ هذا إنكارا مستأنفا من جهة موسى عليه السلام لكونه سحرا وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم عليه إثر توبيخ وتجهيل إثر تجهيل، أما على الوجه المتقدم فظاهر، وأما على الوجه الأخير فوجه إيثار إنكار كونه سحرا على إنكار كونه معيبا بأن يقال: أفيه عيب؟ حسبما يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار الأول على أنه ليس فيه شائبة عيب ما، وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار، وما في اسم الإشارة من معنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه واستحضار ما فيه من الصفات الدالة على كونه آية باهرة من آيات الله تعالى المنادية على امتناع كونه سحرا، أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة، وقوله سبحانه: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ تأكيد للإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل، وقد استلزم القول بكونه سحرا القول بكون من أتى به ساحرا، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطبين والرابط الواو بلا ضمير كما في قوله:
جاء الشتاء ولست أملك عدة وقولك: جاء زيد ولم تطلع الشمس، أي أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح فاعله أي لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه وأنا قد أفلحت وفزت بالحجة ونجوت من الهلكة، وجملة أَسِحْرٌ هذا معترضة بين الحال وذيها لتأكيد الإنكار السابق ببيان استحالة كونه سحرا بالنظر إلى ذاته قبل بيان استحالته بالنظر إلى صدوره منه عليه السلام، ومن جعلها مقول القول أبقى الحالية على حالها ولا اعتراض عنده، وكان المعنى على ذلك أتحملوني على الإقرار بأنه سحر وما أنا عليه من الفلاح دليل على أن بينه وبين السحر أبعد مما بين المشرق والمغرب، وقيل: يجوز

صفحة رقم 154

أن تكون هذه الجملة كالتي قبلها في حيز قولهم وهي حالية أيضا لكن على نمط آخر والاستفهام مصروف إليها، والمعنى أجئتنا بسحر تطلب به الفلاح والحال أنه لا يفلح الساحر، أو هم يتعجبون من فلاحه وهو ساحر، ولا يخفى أن السباق والسياق يأبيان هذا التجويز فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك، وفي إرشاد العقل السليم أن تجويز أن يكون الكل مقول القول مما لا يساعده النظم الكريم أصلا، أما أولا فلأن ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه، فصرف جوابه عليه السلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يفهم منه مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله وكون ذلك إعراضا عن رد الإنكار السابق إلى رد ما هو أبلغ منه في الإنكار لا أراه يحسن الالتفات هنا إلى قبول ذلك التجويز في كلام الله تعالى العزيز.
وأما ثانيا فلأن التعرض لعدم إفلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعض منهم في معارضته عليه السلام ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة، والاعتذار بأن التشبث بأذيال بعض السحرة لا ينافي التعرض لعدم إفلاحهم على الإطلاق لجواز أن يكون اعتقادهم عدم الإفلاح مطلقا وتشبثهم بعد بما تشبثوا به من باب تلقي الباطل بالباطل لا أراه إلا من باب تشبث الغريق بالحشيش، وأما ثالثا فلأن قوله عز وجل: قالُوا أَجِئْتَنا إلخ مسوق لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه عليه السلام فضلا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الذي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معالج لجوج على أنه استئناف وقع جوابا عما قبله من كلامه صلّى الله عليه وسلم على طريقة قالَ مُوسى كما أشير إليه كأنه قيل: فماذا قالوا لموسى عليه السلام حين قال لهم ما قال؟ فقيل: قالوا عاجزين عن المحاجة: أجئتنا لِتَلْفِتَنا أي لتصرفنا، وبين اللفت والفتل مناسبة معنوية واشتقاقية وقد نص غير واحد على أنهما أخوان وليس أحدهما مقلوبا من الآخر كما قال الأزهري عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي من عبادة غير الله تعالى، ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونه محكيا من قبلهم يكون جوابه عليه السلام خاليا عن التبكيت الملجئ لهم إلى العدول عن سنن المحاجة، ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم: أَجِئْتَنا إلخ وبين إنكاره عليه السلام لما حكي عنهم مصححة لكونه جوابا عنه، وهذا ظاهر إلا على من حجب عن إدراك البديهيات، وبالجملة الحق أن لا وجه لذلك التجويز بوجه والانتصار له من الفضول كما لا يخفى وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أي الملك كما روي عن مجاهد فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وعن الزجاج أنه إنما سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وقيل: أي العظمة والتكبر على الناس باستتباعهم. وقرأ حماد بن يحيى عن أبي بكر، وزيد عن يعقوب «يكون» بالياء التحتانية لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل.
فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر، وقيل: أريد الجنس، والجار متعلق- بتكون- أو الكبرياء أو بالاستقرار في- لكما- لوقوعه خبرا أو بمحذوف وقع حالا من الْكِبْرِياءُ أو من الضمير في لَكُمَا لتحمله إياه وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين فيما جئتما به أصلا، وفيه تأكيد لما يفهم من الإنكار السابق، والمراد بضمير المخاطبين موسى وهارون عليهما السلام، وإنما لم يفردوا موسى عليه السلام بالخطاب هنا كما أفردوه به فيما تقدم لأنه المشافة لهم بالتوبيخ والإنكار تعظيما لأمر ما هو أحد سببي الإعراض معنى ومبالغة في إغاظة موسى عليه السلام وإقناطه عن الإيمان بما جاء به، وفي إرشاد العقل السليم أن تثنية الضمير في هذين الموضعين بعد إفراده فيما تقدم من المقامين باعتبار شمول الكبرياء لهما عليهما السلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر، وأما اللفت والمجيء له فحيث

صفحة رقم 155

كانا من خصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه السلام خاصة انتهى فتدبر وَقالَ فِرْعَوْنُ أسند الفعل إليه وحده لأن الأمر من وظائفه دون الملأ وهذا بخلاف الأفعال السابقة من الاستكبار ونحوه فإنها مما تسند إليه وإلى ملئه، لكن الظاهر أنه غير داخل في القائلين أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا لأنه عليه اللعنة لم يكن يظهر عبادة أحد كما كان يفعله ملؤه وسائر قومه، أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادئ الإلزام بالفعل بعد اليأس عن الإلزام بالقول ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بفنون السحر حاذق ماهر فيه. وقرأ حمزة والكسائي «سحار» فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانا بسرعة امتثالهم للأمر كما هو شأن الفاء الفصيحة، وقد نص على نظير ذلك في قوله سبحانه: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [البقرة: ٦٠] أي فأتوا به فلما جاؤوا قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ أي ما ثبتم واستقر رأيكم على إلقائه كائنا ما كان من أصناف السحر، وأصل الإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في العرف اسما لكل طرح، وكان هذا القول منه عليه السلام بعد ما قالوا له ما حكي عنهم في السور الأخر من قولهم: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [الأعراف: ١١٥] ونحو ذلك ولم يكن في ابتداء مجيئهم، وما موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف أي ملقون إياه، ولا يخفى ما في الإبهام من التحقير والإشعار بعدم المبالاة، والمراد أمرهم بتقديم ما صمموا على فعله ليظهر إبطاله وليس المراد الأمر بالسحر والرضا به فَلَمَّا أَلْقَوْا ما ألقوا من العصي والحبال واسترهبوا الناس وجاؤوا بسحر عظيم قالَ لهم مُوسى غير مكترث بهم بما صنعوا ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما موصولة وقعت مبتدأ والسِّحْرُ خبر وأل فيه للجنس والتعريف لإفادة القصر إفرادا أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وملؤه من آيات الله تعالى سحرا وهو للجنس، ونقل عن الفراء أن أل للعهد لتقدم السحر في قوله تعالى: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ ورد بأن شرط كونها للعهد اتحاد المتقدم والمتأخر ذاتا كما في أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: ١٥، ١٦] ولا اتحاد فيما نحن فيه فإن السحر المتقدم ما جاء به موسى عليه السلام وهذا ما جاء به السحرة. ومن الناس من منع اشتراط الاتحاد الذاتي مدعيا أن الاتحاد في الجنس كاف فقد قالوا في قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ [مريم:
٣٣] إن أل للعهد مع أن السلام الواقع على عيسى عليه السلام غير السلام الواقع على يحيى عليه السلام ذاتا، والظاهر اشتراط ذلك وعدم كفاية الاتحاد في الجنس وإلا لصح في رأيت رجلا وأكرمت الرجل إذا كان الأول زيدا والثاني عمرا مثلا أن يقال: إن أل للعهد لأن الاتحاد في الجنس ظاهر ولم نجد من يقوله بل لا أظن أحدا تحدثه نفسه بذلك وما في الآية من هذا القبيل بل المغايرة بين المتقدم والمتأخر أظهر. إذ الأول سحر ادعائي والثاني حقيقي، والسَّلامُ فيما نقلوا متحد وتعدد من وقع عليه لا يجعله متعددا في العرف والتدقيق الفلسفي لا يلتفت إليه في مثل ذلك.
وقد ذكر بعض المحققين أن القول بكون التعريف للعهد مع دعوى استفادة القصر منه مما يتنافيان لأن القصر إنما يكون إذا كان التعريف للجنس. نعم إذا لم يرد بالنكرة المذكورة أولا معين ثم عرفت لا ينافي التعريف الجنسية لأن النكرة تساوي تعريف الجنس فحينئذ لا ينافي تعريف العهد القصر وإن كان كلامهم يخالفه ظاهرا فليحرر انتهى.
وأقول: دعوى الفراء العهد هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، ولعله أراد الجنس وإن عبر بالعهد بناء على ما ذكره الجلال السيوطي في همع الهوامع نقلا عن ابن عصفور أنه قال: لا يبعد عندي أن يسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين لأن الأجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها والعهد تقدم لمعرفة. وادعى أبو الحجاج يوسف بن معزوز أن أل لا تكون إلا عهدية وتأوله بنحو ما ذكر إلا أن ظاهر التعليل لا يساعد ذلك. وقرأ عبد الله «سحر» بالتنكير، وأبيّ «ما أتيتم به سحر» والكلام على ذلك مفيد للقصر أيضا، لكن بواسطة التعريض لوقوعه في مقابلة قولهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ

صفحة رقم 156

مُبِينٌ
وجوز في ما في جميع هذا القراءات أن تكون استفهامية و «السحر» خبر مبتدأ محذوف. وقرأ أبو عمرو، وأبو جعفر «آلسحر» بقطع الألف ومدها على الاستفهام- فما- استفهامية مرفوعة على الابتداء وجِئْتُمْ بِهِ خبرها و «السحر» خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، أي شيء جسيم جئتم به أهو السحر أو السحر هو، وقد يجعل السحر بدلا من ما كما تقول ما عندك أدينار أم درهم، وقد تجعل «ما» نصبا بفعل محذوف يقدر بعدها أي أي شيء أتيتم به وجِئْتُمْ بِهِ مفسر له وفي «السحر» الوجهان الأولان.
وجوز أن تكون موصولة مبتدأ والجملة الاسمية أي أهو السحر أو السحر هو خبره، وفيه الإخبار بالجملة الإنشائية، ولا يجوز أن تكون على هذا التقدير منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلا أو سيظهر بطلانه وفساده للناس، والسين للتأكيد إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي جنسهم على الإطلاق فيدخل فيه السحرة دخولا أولياء، ويجوز أن يراد بالمفسدين المخاطبون فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلة الحكم، والجملة تذييل لتعليل ما قبلها وتأكيده، والمراد بعدم إصلاح ذلك عدم إثباته أو عدم تقويته بالتأييد الإلهي لا عدم جعل الفاسد صالحا لظهور أن ذلك مما لا يكون أي إنه سبحانه لا يثبت عمل المفسدين ولا يديمه بل يزيله ويمحقه أو لا يقويه ولا يؤيده بل يظهر بطلانه ويجعله معلوما.
واستدل بالآية على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له. وأنت تعلم أن في إطلاق القول بأن السحر لا حقيقة له بحثا، والحق أن منه ما له حقيقة ومنه ما هو تخيل باطل ويسمى شعبذة وشعوذة وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي يثبته ويقويه وهو عطف على قوله سبحانه: سَيُبْطِلُهُ وإظهار الاسم الجليل في المقامين لإلقاء الروعة وتربية المهابة بِكَلِماتِهِ أي بأوامره وقضاياه، وعن الحسن أي بوعده النصر لمن جاء به وهو سبحانه لا يخلف ذلك، وعن الجبائي أي بما ينزله مبينا لمعاني الآيات التي أتى بها نبيه عليه السلام. وقرىء «بكلمته» وفسرت بالأمر واحد الأوامر حسبما فسرت الكلمات بالأوامر وأريد منها الجنس فيتطابق القراءتان، وقيل: يحتمل أن يراد بها قول كن وأن يراد بها الأمر واحد الأمور ويراد بالكلمات الأمور والشؤون وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك، والمراد بهم كل من اتصف بالإجرام من السحرة وغيرهم فَما آمَنَ لِمُوسى عطف على مقدر فصل في موضع آخر أي فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [الشعراء: ٤٥] إلخ، وإنما لم يذكر تعويلا على ذلك وإيثارا للإيجاز وإيذانا بأن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ مما لا يحتمل الخلف أصلا، ولعل عطفه على ذلك بالفاء باعتبار الإيجاب الحادث الذي هو أحد مفهومي الحصر، فإنهم قالوا: معنى ما قام إلا زيد قام زيد ولم يقم غيره، وبعضهم لم يعتبر ذلك وقال: إن عطفه بالفاء على ذلك مع كونه عدما مستمرا من قبيل ما في قوله تعالى: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وما في قولك: وعظته فلم يتعظ- وصحت به فلم ينزجر، والسر في ذلك أن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث أي فما آمن له عليه السلام في مبدأ أمره إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أي إلا أولاد بعض بني إسرائيل حيث دعا عليه السلام الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم، فالمراد من الذرية الشبان لا الأطفال.
ومِنْ للتبعيض، وجوز أن تكون للابتداء والتبعيض مستفاد من التنوين، والضمير لموسى عليه السلام كما هو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن جرير عنه أن الضمير لفرعون وبه قال جمع، فالمؤمنون من غير بني إسرائيل ومنهم زوجته آسية وما شطته ومؤمن آل فرعون والخازن وامرأته، وفي إطلاق الذرية على

صفحة رقم 157

هؤلاء نوع خفاء. ورجح بعضهم إرجاع الضمير لموسى عليه السلام بأنه المحدث عنه وبأن المناسب على القول الآخر الإضمار فيما بعد، ورجح ابن عطية إرجاع الضمير لفرعون بأن المعروف في القصص أن بني إسرائيل كانوا في قهر فرعون وكانوا قد بشروا بأن خلاصهم على يد مولود يكون نبيا صفته كذا كذا فلما ظهر موسى عليه السلام اتبعوه ولم يعرف أن أحدا منهم خالفه فالظاهر القول الثاني، وما ذكر من أن المحدث عنه موسى عليه السلام لا يخلو عن شيء، فإن القائل أن يقابل ذلك بأن الكلام في قوم فرعون لأنهم القائلون إنه ساحر ولأن وعظ أهل مكة وتخويفهم المسوق له الآيات قاض بأن المقصود هنا شرح أحوالهم. وأنت تعلم أن للبحث في هذا مجالا والمعروف بعد تسليم كونه معروفا لا يضر القول الأول لأن المراد حينئذ فما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فإنهم أخفوه ولم يظهروه عَلى خَوْفٍ حال من ذرية وعَلى بمعنى مع كما قيل في قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: ١٧٧] والتنوين للتعظيم أي كائنين مع خوف عظيم مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الضمير لفرعون، والجمع عند غير واحد على ما هو المعتاد في ضمائر العظماء. ورد بأن الواو في كلام العرب الجمع في ضمير المتكلم كنحن وضمير المخاطب كما في قوله تعالى: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: ٩٩] وقوله:
ألا فارحموني يا إله محمد ولم ينقل في ضمير الغائب كما نقل عن الرضي، وأجيب بأن الثعالبي، والفارسي نقلاه في الغائب أيضا والمثبت مقدم على النافي، وبأنه لا يناسب تعظيم فرعون فإن كان على زعمه وزعم قومه فإنما يحسن في كلام ذكر أنه محكي عنهم وليس فليس، ويجاب بأن المراد من التعظيم تنزيله منزلة المتعدد، وكونه لا يناسب في حيز المنع، لم لا يجوز أن يكون مناسبا لما فيه من الإشارة إلى مزيد عظم الخوف المتضمن زيادة مدح المؤمنين؟ وقيل: إن ذلك وارد على عادتهم في محاوراتهم في مجرد جمع ضمير العظماء وإن لم يقصد التعظيم أصلا فتأمله وجوز أن يكون الجمع لأن المراد من فِرْعَوْنَ آله كما يقال: ربيعة، ومضر، واعترض عليه بأن هذا إنما عرف في القبيلة وأبيها إذ يطلق اسم الأب عليهم وفرعون ليس من هذا القبيل، على أنه قد قيل: إن إطلاق أبي نحو القبيلة عليها لا يجوز ما لم يسمع ويتحقق جعله علما لها، ألا تراهم لا يقولون: فلان من هاشم ولا من عبد المطلب بل من بني هاشم وبني عبد المطلب فكيف يراد من فرعون آله ولم يتحقق فيه جعله علما لهم، ودعوى التحقق هنا أول المسألة فالقول بأن الجمع لأن المراد به آله كربيعة ليس بشيء إلا أن يراد أن فرعون ونحوه من الملوك إذا ذكر خطر بالبال خطر اتباعه معه فعاد الضمير على ما في الذهن، وتمثيله بما ذكر لأنه نظيره في الجملة، ثم إنه لا يخفى أنه إذا أريد من فرعون آله ينبغي أن يراد من آلِ فِرْعَوْنَ فرعون وآله على التغليب، وقيل: إن الكلام على حذف مضاف أي آل فرعون فالضمير راجع إلى ذلك المحذوف، وفيه أن الحذف يعتمد القرينة ولا قرينة هنا، وضمير الجمع يحتمل رجوعه لغير ذلك المحذوف كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى فلا يصلح لأن يكون قرينة، وأما أن المحذوف لا يعود إليه ضمير كما قال أبو البقاء فليس بذاك لأنه إن أريد أنه لا يعود إليه مطلقا فغير صحيح وإن أريد إذا حذف لقرينة فممنوع لأنه حينئذ في قوة المذكور، وقد كثر عود الضمير إليه كذلك في كلام العرب، وقريب من هذا القيل زعم أن هناك معطوفا محذوفا إليه يعود الضمير أي على خوف من فرعون وقومه وملئهم، ويرد عليه أيضا ما قيل: إن هذا الحذف ضعيف غير مطرد.
وقيل: الضمير للذرية أو للقوم أي على خوف من فرعون ومن أشراف بني إسرائيل حيث كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم أو على أنفسهم، أو من أشراف القبط ورؤسائهم حيث كانوا يمنعونهم انتصارا لفرعون، ولعل المنساق إلى الذهن رجوعه إلى الذرية والجمع باعتبار المعنى، ويؤول المعنى إلى أنهم آمنوا على خوف من فرعون ومن أشراف

صفحة رقم 158

قومهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يبتليهم ويعذبهم، وأصل الفتن كما قال الراغب إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته واستعمل في إدخال الإنسان النار كما في قوله سبحانه: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: ١٣] ويسمى ما يحصل منه العذاب فتنة ويستعمل في الاختبار وبمعنى البلاء والشدة وهو المراد هنا، و «أن» وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من فرعون بدل اشتمال أي على خوف من فرعون فتنته، ويجوز أن يكون مفعول خَوْفٍ لأنه مصدر منكر كثر إعماله، وقيل: إنه مفعول له والأصل لأن يفتنهم فحذف الجار وهو مما يطرد فيه الحذف، ولا يضر في مثل هذا عدم اتحاد فاعل المصدر والمعلل به على أن مذهب بعض الأئمة عدم اشتراط ذلك في جواز النصب وإليه مال الرضي وأيده بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف، وإسناد الفعل إلى فرعون خاصة لأنه مدار أمر التعذيب، وفي الكلام استخدام في رأي حيث أريد من فرعون أولا آله وثانيا هو وحده وأنت تعلم ما فيه.
وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي لغالب قاهر في أرض مصر، واستعمال العلو بالغلبة والقهر مجاز معروف وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أي المتجاوزي الحد في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء أو في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء عليهم السلام، والجملتان اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق وفيهما من التأكيد ما لا يخفى وَقالَ مُوسى لما رأى تخوف المؤمنين يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي صدقتم به وبآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا أي اعتمدوا لا على أحد سواه فإنه سبحانه كافيكم كل شر وضر. إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل من تعليق شيئين بشرطين لأنه علق وجوب التوكل المفهوم من الأمر وتقديم المتعلق بالإيمان فإنه المقتضي له وعلق نفس التوكل ووجود بالإسلام والإخلاص لأنه لا يتحقق مع التخليط، ونظير ذلك- إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت عليه- فإن وجوب الإجابة معلق بالدعوة ونفس الدعوة معلقة بالقدرة، وحاصله إن كنتم آمنتم بالله فيجب عليكم التوكل عليه سبحانه فافعلوه واتصفوا به إن كنتم مستسلمين له تعالى.
وهذا النوع على ما في الكشف يفيد مبالغة في ترتب الجزاء على الشرط على نحو- إن دخلت الدار فأنت طالق إن كنت زوجتي- وجعله بعضهم من باب التعليق بشرطين المقتضي لتقدم الشرط الثاني على الأول في الوجود حتى لو قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل قبل الكلام لأن الشرط الثاني شرط للأول فيلزم تقدمه عليه، وقرره بأن هاهنا ثلاثة أشياء: الإيمان، والتوكل، والإسلام، والمراد بالإيمان التصديق وبالتوكل إسناد الأمور إليه عز وجل، وبالإسلام تسليم النفس إليه سبحانه وقطع الأسباب فعلق التوكل بالتصديق بعد تعليقه بالإسلام لأن الجزاء معلق بالشرط الأول وتفسير للجزاء الثاني كأنه قيل: إن كنتم مصدقين بالله تعالى وآياته فخصوه سبحانه بإسناد جميع الأمور إليه وذلك لا يتحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين لله تبارك وتعالى مستسلمين بأنفسكم له سبحانه ليس للشيطان فيكم نصيب وإلا فاتركوا أمر التوكل.
ويعلم منه أن ليس لكل أحد من المؤمنين الخوض في التوكل بل للآحاد منهم وإن مقام التوكل دون مقام التسليم والأكثر على الأول ولعله أدق نظرا فَقالُوا مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم وبلع ريق في ذلك عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لا على غيره سبحانه ويؤخذ من هذا القصر والتعبير بالماضي دون نتوكل أنهم كانوا مؤمنين مخلصين، قيل: ولذا أجيب دعاؤهم رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي موضع فتنة وعذاب لهم بأن تسلطهم علينا فيعذبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يفتنوا بنا ويقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ دعاء بالإنجاء من سوء جوارهم وسوء صنيعهم بعد الإنجاء من ظلمهم، ولذا عبر عنهم بالكفر بعد ما

صفحة رقم 159

وصفوا بالظلم ففيه وضع المظهر موضع المضمر، وجوز أن يراد من القوم الظالمين الملأ الذين تخوفوا منهم ومن القوم الكافرين ما يعمهم وغيرهم، وفي تقديم التوكل على الدعاء وإن كان بيانا لامتثال أمر موسى عليه السلام لهم به تلويح بأن الداعي حقه أن يبني دعاءه على التوكل على الله تعالى فإنه أرجى للإجابة ولا يتوهمن أن التوكل مناف للدعاء لأنه أحد الأسباب للمقصود والتوكل قطع الأسباب لأن المراد بذاك قطع النظر عن الأسباب العادية وقصره على مسببها عز وجل واعتقاد أن الأمر مربوط بمشيئته سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد صرحوا أن الشخص إذا تعاطى الأسباب معتقدا ذلك يعد متوكلا أيضا، ومثل التوكل في عدم المنافاة للدعاء على ما تشعر به الآية الاستسلام. نعم في قول بعضهم: إن الاستسلام من صفات إبراهيم عليه السلام وكان من آثاره ترك الدعاء حين ألقي في النار واكتفاؤه عليه السلام بالعلم المشار إليه بقوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي ما يشعر بالمنافاة ومن عرف المقامات أمعن النظر هان عليه أمر الجمع وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا أَنْ مفسرة لأن في الوحي معنى القول، ويحتمل أن تكون مصدرية والتبوء اتخاذ المباءة أي المنزل كالتوطن اتخاذ الوطن، والجمهور على تحقيق الهمزة ومنهم من قرأ «تبويا» لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً فجعلها ياء وهي مبدلة من الهمزة تخفيفا، والفعل على ما قيل مما يتعدى لواحد فيقال: تبوأ زيد كذا لكن إذا أدخلت اللام على الفاعل فقيل: تبوأ لزيد كذا تعدى لما كان فاعلا باللام فيتعدى لاثنين، وخرجت الآية على ذلك- فلقومكما- أحد المفعولين، وقيل: هو متعد لواحد ولِقَوْمِكُما متعلق بمحذوف وقع حالا من البيوت، واللام على الوجهين غير زائدة. وقال أبو علي: هو متعد بنفسه لاثنين واللام زائدة كما في رَدِفَ لَكُمْ [النمل: ٧٢] وفعل وتفعل قد يكونان بمعنى مثل علقتها وتعلقتها، والتقدير بوئا قومكما بيوتا يسكنون فيها أو يرجعون إليها للعبادة. ومصر غير منصرف لأنه مؤنث معرفة ولو صرفته لخفته كما صرفت هندا لكان جائزا، والجار متعلق- بتبوأ- وجوز أن يكون حالا من بُيُوتاً أو من- قومكما- أو من ضمير الفاعل في تَبَوَّءا وفيه ضعف وَاجْعَلُوا أنتما وقومكما ففيه تغليب المخاطب على غيره بُيُوتَكُمْ تلك فالإضافة للعهد قِبْلَةً أي مصلى، وقيل: مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها، وعلى التفسيرين تكون القبلة مجازا فيما فسرت به بعلاقة اللزوم أو الكلية والجزئية، والاختلاف في المراد هنا ناظر للاختلاف في أن تلك البيوت المتخذة هل للسكنى أو للصلاة فإن كان الأول فالقبلة مجاز عن المصلى وإن كان الثاني فهو مجاز عن المساجد.
واعترض القول بحمل القبلة على المساجد المتوجهة إلى الكعبة بأن المنصوص عليه في الحديث الصحيح أن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس ولم يشتهر أن موسى عليه السلام كان يستقبل الكعبة في صلاته فالقول به غريب، وأغرب منه ما قاله العلائي: من أن الأنبياء عليهم السلام كانت قبلتهم كلهم الكعبة، قيل: وجعل البيوت مصلى ينافيه ما
في الحديث «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
من أن الأمم السالفة كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم، وأجيب عن هذا بأن محله إذا لم يضطروا فإذا اضطروا جازت لهم الصلاة في بيوتهم كما رخص لنا صلاة الخوف، فإن فرعون لعنه الله تعالى خرب مساجدهم ومنعهم من الصلاة فأوحى إليهم أن صلوا في بيوتكم كما روي عن ابن عباس وابن جبير، وقد يقال: إنه لا منافاة أصلا بناء على أن المراد تعيين البيوت للصلاة وعدم صحة الصلاة في غيرها فيكون حكمها إذ ذاك حكم الكنائس اليوم وما هو من الخصائص صحة الصلاة في أي مكان من الأرض وعدم تعين موضع منها لذلك فلا حاجة إلى ما يقال: من أن اعتبار جعل الأرض كلها مسجدا خصوصية بالنظر إلى ما استقرت عليه شريعة موسى عليه السلام من تعين الصلاة في الكنائس وعدم جوازها في أي مكان أراده المصلي من الأرض، وما تقدم من استقبال اليهود الصخرة فالمشهور أنه كان في بيت المقدس وأما قبل بعد نزول التوراة فكانوا

صفحة رقم 160

يستقبلون التابوت وكان يوضع في قبة موسى عليه السلام، على أنه قد قيل: إن الاستقبال في بيت المقدس كان للتابوت أيضا وكانوا يضعونه على الصخرة فيكون استقباله استقبالها، وأما استقبالهم في مصر فيحتمل أنه كان للكعبة كما روي عن الحسن وما في الحديث محمول على آخر أحوالهم، ويحتمل أنه كان للصخرة حسبما هو اليوم ويحتمل غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وقيل: معنى قِبْلَةً متقابلة ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها، قيل: أمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذونهم ويفتنونهم في دينهم، وهو مبني على أن المراد بالبيوت المساكن فلا يصح كما لا يخفى، ولعل التوجيه على ذلك هو أنهم أمروا بالصلاة ليستعينوا ببركتها على مقصودهم فقد قال سبحانه:
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: ٤٥، ١٥٣] وهي في المساجد أفضل فتكون أرجى للنفع وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بحصول مقصودهم، وقيل: بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى، وإنما ثني الضمير أولا لأن التبوء للقوم واتخاذ المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور، ثم جمع ثانيا لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد مع أن في إدخال موسى وهارون عليهما السلام مع القوم في الأمرين المذكورين ترغيبا لهم في الامتثال، ثم وجد ثالثا لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة وهي من الأعظم أسر وأوقع في النفس، ووضع المؤمنين موضع ضمير القوم لمدحهم بالإيمان وللإشعار بأنه المدار في التبشير قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها وتستعمل مصدرا وَأَمْوالًا أنواعا كثيرة من المال كما يشعر به الجمع والتنوين، وذكر ذلك بعد الزينة من ذكر العام بعد الخاص للشمول، وقد يحمل على ما عداه بقرينة المقابلة، وفسر بعضهم الزينة بالجمال وصحة البدن وطول القامة ونحوه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أي لكي يضلوا عنها وهو تعليل للإيتاء السابق، والكلام إخبار من موسى عليه السلام بأن الله تعالى إنما أمدهم بالزينة والأموال استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة كما أخبر سبحانه عن أمثالهم بقوله سبحانه: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران:
١٧٨] وإلى كون اللام للتعليل ذهب الفراء. والظاهر أنه حقيقة فيكون ذلك الضلال مراد الله تعالى، ولا يلزم ما قاله المعتزلة من أنه إذا كان مرادا يلزم أن يكونوا مطيعين به بناء على أن الإرادة أمر أو مستلزم له لما أنه قد تبين بطلان هذا المبنى في الكلام، وقدر بعضهم حذرا من ذلك لئلا يضلوا كما قدر في شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا [الأعراف: ١٧] شهدنا أن لا تقولوا ولا حاجة إليه، وقيل: إن التعليل مجازي لأنهم لما ضلوا بسبب ذلك جعل إيتاؤه كأنه للضلال فيكون في اللام استعارة تبعية، وقال الأخفش: اللام للعاقبة فيكون ذلك إخبارا منه عليه السلام لممارسته لهم وتفرسه بهم أو لعلمهم بالوحي على ما قيل بأن عاقبة ذلك الإيتاء الضلال.
والفرق بين التعليل المجازي وهذا إن قلنا بأنه معنى مجازي أيضا أن في التعليل ذكر ما هو سبب لكن لم يكن إيتاؤه لكونه سببا وفي لام العاقبة لم يذكر سبب أصلا وهي كاستعارة أحد الضدين للآخر، وقال ابن الأنباري: إنها للدعاء ولا مغمز على موسى عليه السلام في الدعاء عليهم بالضلال إما لأنه عليه السلام علم بالممارسة أو نحوها أنه كائن لا محالة فدعا به وحاصله أنه دعاء بما لا يكون إلا ذلك فهو تصريح بما جرى قضاء الله تعالى به، ونحوه لعن الله تعالى الشيطان وإما لأنه ليس بدعاء حقيقة، وليس النظر إلى تنجيز المسئول وعدمه بل النظر إلى وصفهم بالعتو وإبلاء عذره عليه السلام في الدعوة فهو كناية إيمائية على هذا، وما قيل: هذا شهادة بسوء حالهم بطريق الكناية في الكناية لأن الضلالة رديف الإضلال وهو منع اللطف فكنى بالضلال عن الإضلال والإضلال رديف كونهم كالمطبوع عليهم فكان هذا كشفا وبيانا لحالهم بطريق الكناية فهو على ما فيه شيء عنه غني لأن الطبع مصرح به بعد بل النظر هاهنا إلى

صفحة رقم 161

الزبدة والخلاصة من هذه المطالب كلها، ويشعر كلام الزمخشري باختيار كونها للدعاء، وفي الانتصاف أنه اعتزال أدق من دبيب النمل يكاد الاطلاع عليه يكون كشفا، والظاهر أنها للتعليل، وقال صاحب الفرائد: لولا التعليل لم يتجه قوله: إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ولم ينتظم وأورده عليه أيضا أنه ينافي غرض البعثة وهو الدعوة إلى الإيمان والهدى، ولا يخفى أن دفع هذا يعلم مما قدمنا آنفا. وأما وجه انتظام الكلام فهو كما قال غير واحد: إن موسى عليه السلام ذكر قوله: إِنَّكَ آتَيْتَ إلخ تمهيدا للتخلص إلى الدعاء عليهم أي إنك أوليتهم هذه النعمة ليعبدوك ويشكروك فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا وإذا كانت الحال هذه فليضلوا عن سبيلك ولو دعا ابتداء لم يحسن إذ ربما لم يعذر فقدم الشكاية منهم والنعي بسوء صنيعهم ليتسلق منه إلى الدعاء مع مراعاة تلازم الكلام من إيراد الأدعية منسوقة نسقا واحدا وعدم الاحتياج إلى الاعتذار عن تكرير النداء كما احتاج القول بالتعليل إلى الاعتذار عنه بأنه للتأكيد وللإشارة إلى أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة للدعاء عليهم بعد. وادعى الطيبي أنه لا مجال للقول بالاعتراض لأنه إنما يحسن موقعه إذا التذت النفس بسماعه، ولذا عيب قول النابعة:
لعل زيادا لا أبا لك غافل وفي كلامه ميل إلى القول بأن اللام للدعاء وهو لدى المنصف خلاف الظاهر، وما ذكروه له لا يفيده ظهورا. وقرىء «ليضّلوا» بضم الياء وفتحها رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي أهلكها كما قال مجاهد، فالطمس بمعنى الإهلاك، وفعله من باب ضرب ودخل، ويشهد له قراءة «اطمس» بضم الميم، ويتعدى ولا يتعدى، وجاء بمعنى محو الأثر والتغيير وبهذا فسره أكثر المفسرين قالوا: المعنى ربنا غيرها عن جهة نفعها إلى جهة لا ينتفع بها.
وأنت تعلم أن تغييرها عن جهة نفعها إهلاك لها أيضا فلا ينافي ما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الضحاك أنه بعد هذا الدعاء صارت دراهمهم ودنانيرهم ونحاسهم وحديدهم حجارة منقوشة. وعن محمد القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن هذه الآية فأخبرته أن الله تعالى طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة فقال عمر: مكانك حتى آتيك فدعا بكيس مختوم ففكه فإذا فيه البيضة مشقوقة وهي حجارة وكذا الدراهم والدنانير وأشباه ذلك. وفي رواية عنه أنه صار سكرهم حجارة وأن الرجل بينما هو مع أهله إذ صارا حجرين وبينما المرأة قائمة تخبز إذ صارت كذلك، وهذا مما لا يكاد يصح أصلا وليس في الآية ما يشير إليه بوجه، وعندي أن أخبار تغيير أموالهم إلى الحجارة لا تخلو عن وهن فلا يعول عليها، ولعل الأولى أن يراد من طمسها إتلافها منهم على أتم وجه، والمراد بالأموال ما يشمل الزينة من الملابس والمراكب وغيرها وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي اجعلها قاسية واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هو قضية شأنهم فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدعاء أعني اشْدُدْ دون اطْمِسْ فهو منصوب، ويحتمل أن يكون دعاء بلفظ النهي نحو إلهي لا تعذبني فهو مجزوم، وجوز أن يكون عطفا على لِيُضِلُّوا وما بينهما دعاء معترض فهو حينئذ منصوب أو مجزوم حسبما علمت من الخلاف في اللام حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك، والمراد به جنس العذاب الأليم. وأخرج غير واحد عن ابن عباس تفسيره بالغرق.
واستدل بعضهم بالآية على أن الدعاء على شخص بالكفر لا يعد كفرا إذا لم يكن على وجه الاستيجاز والاستحسان للكفر بل كان على وجه التمني لينتقم الله تعالى من ذلك الشخص أشد انتقام، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام خواهر زادة، فقولهم: الرضا بكفر الغير كفر ليس على إطلاقه عنده بل هو مقيد بما إذا كان على وجه الاستحسان، لكن قال صاحب الذخيرة: قد عثرنا على رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الرضا بكفر الغير

صفحة رقم 162

كفر من غير تفصيل، والمنقول عن علم الهدى أبي منصور الماتريدي التفصيل ففي المسألة اختلاف، قيل: والمعول عليه أن الرضا بالكفر من حيث إنه كفر كفر وإن الرضا به لا من هذه الحيثية بل من حيثية كونه سببا للعذاب الأليم أو كونه أثرا من آثار قضاء الله تعالى وقدره مثلا ليس بكفر وبهذا يندفع التنافي بين قولهم: الرضا بالكفر كفر، وقولهم:
الرضا بالقضاء واجب بناء على حمل القضاء فيه على المقضي، وعلى هذا لا يتأتى ما قيل: إن رضا العبد بكفر نفسه كفر بلا شبهة على إطلاقه بل يجري فيه التفصيل السابق في الرضا بكفر الغير أيضا، ومن هذا التحقيق يعلم ما في قولهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال له: اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان من النظر، ويؤيده ما
في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله بايعه فكف صلّى الله عليه وسلم يده عن بيعته ونظر إليه ثلاث مرات كل ذلك يأبى أن يبايعه فبايعه بعد الثلاث ثم أقبل صلّى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ قالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك فقال عليه الصلاة والسلام: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين، وقد أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو داود. والنسائي. وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص
وهو معروف في السير فإنه ظاهر في أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا فليتأمل.
قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما هو خطاب لموسى وهارون عليهما السلام، وظاهره أن هارون عليه السلام دعا بمثل ما دعا موسى عليه السلام حقيقة لكن اكتفي بنقل دعاء موسى عليه السلام لكونه الرسول بالاستقلال عن نقل دعائه وأشرك بالبشارة إظهارا لشرفه عليه السلام، ويحتمل أنه لم يدع حقيقة لكن أضيفت الدعوة إليه أيضا بناء على أن دعوة موسى في حكم دعوته لمكان كونه تابعا ووزيرا له، والذي تضافرت به الآثار أنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء أخيه والتأمين دعاء، فإن معنى آمين استجب وليس اسما من أسمائه تعالى كما يروونه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قيل: ولكونه دعاء استحب الحنفية الإسرار به، وفيه نظر لأن الظاهر أن مدار استحباب الإسرار والجهر ليس كونه دعاء فإن الشافعية استحبوا الجهر به مع أن المشهور عنهم أنهم قائلون أيضا بكونه دعاء، وظاهر كلام بعض المحققين أن إضافة الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقع الثلاثة تشعر بأنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء موسى عليه السلام ولا يخفى ما في ذلك الإشعار من الخفاء. وقرىء «دعواتكما» بالجمع ووجهه ظاهر فَاسْتَقِيما فامضيا لأمري واثبتا على ما أنتم عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ما طلبتماه كائن في وقته لا محالة. أخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله وأخرج الترمذي عن مجاهد أن الدعوة أجيبت بعد أربعين سنة ولم يذكر الزعم وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلة في عدم الوثوق بوعد الله سبحانه، والنهي لا يقتضي صحة وقوع المنهي عنه فقد كثر نهي الشخص عما يستحيل وقوعه منه، ولعل الغرض منه هنا مجرد تأكيد أمر الوعد وإفادة أن في تأخير إنجازه حكما إلهية. وعن ابن عامر أنه قرأ وَلا تَتَّبِعانِّ بالنون الخفيفة المكسورة لالتقاء الساكنين، ووجه ذلك ابن الحاجب بأن لا نافية والنون علامة الرفع، والجملة إما في موضع الحال من الضمير المرفوع في- استقيما- كأنه قيل: استقيما غير متبعين، والجملة المضارعية المنفية- بلا- الواقعة حالا يجوز اقترانها بالواو وعدمه خلافا لمن زعم وجوب عدم الاقتران بالواو إلا أن يقدر مبتدأ، وإما معطوفة على الجملة الطلبية التي قبلها وهي وإن كانت خبرية لفظا إلا أنها طلبية معنى لأن المراد منها النهي كما في قوله تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الصف: ١١] ولا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة: ٨٣] والنهي المخرج بصورة الخبر

صفحة رقم 163

أبلغ من النهي المخرج بصورته، ويجوز أن تعتبر الجملة مستأنفة للإخبار بأنهما لا يتبعان سبيل الجاهلين، ومن الناس من جعل لا في قراءة العامة نافية أيضا وهو ضعيف لأن النفي لا يؤكد على الصحيح، وقيل: لا ناهية والنون نون التوكيد الخفيفة كسرت لالتقاء الساكنين وهو تخريح لين فإن الكسائي وسيبويه لا يجيزانه لأنهما يمنعان وقوع الخفيفة بعد الألف سواء كانت ألف التثنية أو الألف الفاصلة بين نون الإناث ونون التوكيد نحو هل تضربنان يا نسوة، وأيضا النون الخفيفة إذا لقيها ساكن لزم حذفها عند الجمهور ولا يجوز تحريكها، لكن يونس والفراء أجازا ذلك وفيه عنهما روايتان إبقاؤها ساكنة لأن الألف لخفتها بمنزلة الفتحة وكسرها على أصل التقاء الساكنين وعلى هذا يتم ذاك التخريج.
وقيل: إن هذه النون هي نون التوكيد الثقيلة إلا أنها خففت وهو كما ترى، وعنه أيضا «ولا تتبعان» بتخفيف التاء الثانية وسكونها وبالنون المشددة من تبع الثلاثي، وأيضا «ولا تتبعان» وهي كالأولى إلا أن النون ساكنة على إحدى الروايتين عمن تقدم في تسكين النون الخفيفة بعد الألف على الأصل واغتفار التقاء الساكنين إذا كان الأول ألفا كما في محياي. ثم اعلم أنه اشتهر في تعليل كسر النون في قراءة العامة بأنه لالتقاء الساكنين وظاهره أنه بذلك زال التقاء الساكنين وليس كذلك إذ الساكنان هما الألف والنون الأولى ولا شيء منهما بمتحرك وإنما المتحرك النون الثانية، ومن هنا قال بعض محققي النحاة: إن أصل التحريم ليتأتى الإدغام وكونه بالكسر تشبيها بنون التثنية، والتقاء الساكنين أعني الألف والنون الأولى غير مضر لما قالوا من جوازه إذا كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله كما في- دابة- لارتفاع اللسان بهما معا حينئذ وقد حقق ذلك في موضعه فليراجع هذا والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أشار سبحانه إلى أنهم يستمعون لكن حكمهم حكم الأصم في عدم الانتفاع وذلك لعدم استعدادهم حقيقة أو حكما بأن كان ولكن حجب نوره رسوخ الهيئات المظلمة، وكذا يقال فيما بعد، ثم إنه تعالى رفع ما يتوهم من أن كونهم في تلك الحالة ظلم منه سبحانه لهم بقوله جل شأنه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسهم وعقولهم مثلا وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث طلب استعدادهم الغير المجعول ذلك وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ لذهولهم بتكاثف ظلمات المعاصي على قلوبهم يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ بحكم سابقة الصحبة وداعية الهوى اللازمة للجنسية الأصلية، وهذا التعارف قد يبقى إذا اتحدوا في الوجهة واتفقوا في المقصد وقد لا يبقى وذلك إذا اختلفت الأهواء وتباينت الآراء فحينئذ تتفاوت الهيئات المستفادة من لواحق النشأة فيقع التناكر وعوارض العادة قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لما ينتفعون به وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ من جنسهم ليتمكنوا من الاستفاضة منه فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنجاء من اهتدى به وإثابته وإهلاك من أعرض عنه وتعذيبه لظهور أسباب ذلك بوجوده وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ فيعاملوا بخلاف ما يستحقون وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنكار للقيامة لاحتجابهم بما هم فيه من الكثافة قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ سلب لاستقلاله في التأثير وبيان لأنه لا يملك إلا ما أذن الله تعالى فيه، وهذا نوع من توحيد الأفعال وفيه إرشاد لهم بأنه لا يملك استعجال ما وعدهم به يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد والزجر عن الذنوب المتسببة للعقاب والتحريض على الطاعة الموجبة بفضل الله تعالى للثواب وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ أي دواء للقلوب من أمراضها التي هي أشد من أمراض الأبدان كالشك والنفاق والحسد والحقد وأمثال ذلك بتعليم الحقائق والحكم الموجبة لليقين والتصفية والتهيؤ لتجليات الصفات الحقة وَهُدىً لأرواحكم إلى الشهود الذاتي وَرَحْمَةٌ بإفاضة الكمالات اللائقة بكل مقام من المقامات الثلاثة بعد حصول الاستعداد في مقام

صفحة رقم 164

النفس بالموعظة ومقام القلب بالتصفية ومقام الروح بالهداية للمؤمنين بالتصديق أولا ثم باليقين ثانيا ثم بالعيان ثالثا.
وذكر بعضهم الموعظة للمريدين والشفاء للمحبين والهدى للعارفين والرحمة للمستأنسين والكل مؤمنون إلا أن مراتب الإيمان متفاوتة والخطاب في الآية لهم وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر، ويقال: إنه سبحانه بدأ بالموعظة لمريض حبه لأنها معجون لإسهال شهواته فإذا تطهر عن ذلك يسقيه شراب ألطافه فيكون ذلك شفاء له مما به فإذا شفي يغذيه بهدايته إلى نفسه فإذا كمل بصحبته يطهره بمياه رحمته من وسخ المرض ودرن الامتحان قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ بتوفيقه للقبول في المقامات وَبِرَحْمَتِهِ بالمواهب الخلقية والعملية والكشفية فيها فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا لا بالأمور الفانية القليلة المقدار الدنية القدر هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الخسائس والمحقرات، وفسر بعضهم الفضل بانكشاف صباح الأزل لعيون أرواح المريدين وزيادة وضوحه في لحظة حتى تطلع شموس الصفات. وأقمار الذات فيطيرون في أنوار ذلك بأجنحة الجذبات إلى حيث شاء الله تعالى والرحمة بتتابع مواجيد الغيوب للقلوب بنعت التفريد بلا انقطاع، ومن هنا قال ضرغام أجمة التصوف أبو بكر الشبلي قدس سره: وقتي سرمد وبحري بلا شاطىء وقيل: فضله الوصال ورحمته الوقاية عن الانفصال، وقيل: فضله إلقاء نيران المحبة في قلوب المريدين ورحمته جذبه أرواح المشتاقين، وقيل: فضله سبحانه على العارفين كشف الذات وعلى المحبين كشف الصفات وعلى المريدين كشف أنوار الآيات ورحمته جل شأنه على العارفين العناية وعلى المحبين الكفاية وعلى المريدين الرعاية. وقال الجنيد: فضل الله تعالى في الابتداء ورحمته في الانتهاء وهو مناسب لما قلنا، وقال الكتاني: فضل الله تعالى النعم الظاهرة ورحمته النعم الباطنة وقيل غير ذلك، قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ أي أخبروني ما أنزل الله سبحانه من رزق معنوي كالمعارف الحقانية وكالآداب الشرعية فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً كالقسم الأول حيث أنكرتموه على أهله ورميتموه بالزندقة وَحَلالًا كالقسم الثاني حيث قبلتموه قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في الحكم بالتحليل والتحريم أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ
في ذلك، ثم إنه سبحانه أوعد المفترين بقوله عز ومن قائل: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ إلخ، ففي الآية إشارة إلى سوء حال المنكرين على من تحلى بالمعارف الإلهية، ولعل منشأ ذلك زعمهم انحصار العلم فيما عندهم ولم يعلموا أن وراء علومهم علوما لا تحصى يمنّ الله تعالى بها على من يشاء، وفي قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] إشارة إلى ذلك فما أولاهم بأن يقال لهم: ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٨٥] ومن العجيب أنهم إذا سمعوا شيئا من أهل الله تعالى مخالفا لما عليه مجتهدوهم ردوه وقالوا: زيغ وضلال واعتمدوا في ذلك على مجرد تلك المخالفة ظنا منهم أن الحق منحصر فيما جاء به أحد أولئك المجتهدين مع أن الاختلاف لم يزل قائما بينهم على ساق.
على أنه قد يقال لهم: ما يدريكم أن هذا القائل الذي سمعتم منه ما سمعتم وأنكرتموه أنه مجتهد أيضا كسائر مجتهديكم؟ فإن قالوا: إن للمجتهد شروطا معلومة وهي غير موجودة فيه قلنا: هذه الشروط التي وضعت للمجتهد في دين الله تعالى هل هي منقولة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صريحا أو صنعتموها أنتم من تلقاء أنفسكم أو صنعها المجتهد؟ فإن كانت منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا بها واتلوها وصححوا نقلها إن كنتم صادقين وهيهات ذاك، وإن كان الواضع لها أنتم- وأنتم أجهل من ابن يوم- فهي رد عليكم ولا حبا ولا كرامة على أن في اعتبارها أخذا بكلام من ليس مجتهدا وأنتم لا تجوزونه، وإن كان الواضع لها المجتهد فإثبات كونه مجتهدا متوقف على اعتبار تلك الشروط واعتبار تلك الشروط متوقف على إثبات كونه مجتهدا وهل هذا إلا دور وهو محال لو تعقلونه، وأيضا لم لا يجوز أن تكون تلك الشروط شروطا للمجتهد النقلي وهناك مجتهد آخر شرطه تصفية النفس وتزكيتها وتخلقها بالخلق الرباني

صفحة رقم 165

وتهيؤها واستعدادها لقبول العلم من الله تعالى وأي مانع من أن يخلق الله تعالى العلم فيمن صفت نفسه وتهيأت بالفقر واللجأ إلى الله تعالى وصدق عزمه في الأخذ ولم يتكل على حوله وقوته كما يخلقه فيمن استوفى شروط الاجتهاد عندكم فاجتهد وصرف فكره ونظره؟ والقول بأنه سبحانه إنما يخلق العلم في هذا دون ذاك حجر على الله تعالى وخروج عن الإنصاف كما لا يخفى، فلا ينبغي للمصنف العارف بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده إلا أن يسلم لمن ظهرت فيه اثار التصفية والتهيؤ وسطعت عليه أنوار التخلق بالخلق الرباني ما أتى به ولو لم يأت به مجتهد ما لم يخالف ما علم مجيئه من الدين بالضرورة، ويأبى الله تعالى أن يأتي ذلك بمثل ما ذكر.
لكن ذكر مولانا الإمام الرباني ومجدد الألف الثاني قدس سره في بعض مكتوباته الفارسية أنه لا يجوز تقليد أهل الكشف في كشفهم لأن الكشف لا يكون حجة على الغير وملزما له، وقد يقال: ليس في هذا أكثر من منع تقليد أهل الكشف، ومحل النزاع الإنكار عليهم ورميهم والعياذ بالله تعالى بالزندقة وليس في الكلام أدنى رائحة منه كما لا يخفى إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بصنفي العلمين وإفاضتهما بعد تهيئة الاستعداد لقبولهما وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ذلك ولا يعرفون قدره فيمنعون عن الزيادة وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ إخبار منه تعالى بعظيم اطلاعه سبحانه على الخواطر وما يجري في الضمائر فلا يخفى عليه جل شأنه خاطر ولا ضمير أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ثم أخبر جل وعلا عن سلطان إحاطته على كل ذرة من العرش إلى ما تحت الثرى بقوله تبارك اسمه: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي إن علمه سبحانه محيط بما في العالم السفلي والعلوي فكل ذرة من ذراته داخلة في حيطة علمه كيف لا وكلها قائمة به جل شأنه ينظر إلى كل في كل آن نظر الحفظ والرعاية ولولا ذلك لهلكت الذرات واضمحلت سائر الموجودات أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إذ لم يبق منهم بقية يخاف بسببها من حرمان وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لامتناع فوات شيء من الكمالات واللذات منهم الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي وَكانُوا يَتَّقُونَ بقاياهم وظهور تلوناتهم هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بوجود الاستقامة والأخلاق المبشرة بجنة النفوس فِي الْآخِرَةِ
بظهور أنوار الصفات والحقائق عليهم المبشرة بجنة القلوب والظاهر أن الموصول بيان للأولياء، فالولي هو المؤمن المتقي على الكمال ولهم في تعريفه عبارات شتى تقدم بعضها.
وفي الفتوحات: هو الذي تولاه الله تعالى بنصرته في مقام مجاهدته الأعداء الأربعة الهوى والنفس والشيطان والدنيا، وفيها تقسيم الأولياء إلى عدة أقسام منها الأقطاب والأوتاد والأبدال والنقباء والنخباء وقد ورد ذلك مرفوعا وموقوفا من حديث عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأنس، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وعوف بن مالك، ومعاذ بن جبل، وواثلة بن الأسقع، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأم سلمة، ومن مرسل الحسن، وعطاء، وبكر بن خنيس، ومن الآثار عن التابعين ومن بعدهم ما لا يحصى. وقد ذكر ذلك الجلال السيوطي في رسالة مستقلة له وشيد أركانه، وأنكره- كما قدمنا- بعضهم والحق مع المثبتين، وأنا والحمد لله تعالى منهم وإن كنت لم أشيد قبل أركان ذلك، والأئمة والحواريون والرجبيون والختم والملامية والفقراء وسقيط الرفرف ابن ساقط العرش والأمناء والمحدثون إلى غير ذلك، وعد الشيخ الأكبر قدس سره منهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والبيان الذي في الآية صادق عليهم عليهم السلام على أتم وجه، ونسب إليه رضي الله تعالى عنه القول بتفضيل الولي على النبي والرسول وخاض فيه كثير من المنكرين حتى كفروه وحاشاه بسبب ذلك، وقد صرح في غير موضع من فتوحاته وكذا من سائر تأليفه بما ينافي هذا القول حسبما فهمه المنكرون،

صفحة رقم 166

وقد ذكر في كتاب القربة أنه ينبغي لمن سمع لفظة من عارف متحقق مبهمة كأن يقول الولاية هي النبوة الكبرى أو الولي العارف مرتبته فوق مرتبة الرسول أن يتحقق المراد منها ولا يبادر بالطعن، ثم ذكر في بيان ما ذكر ما نصه: اعلم أنه لا اعتبار للشخص من حيث ما هو إنسان فلا فضل ولا شرف في الجنس بالحكم الذاتي وإنما يقع التفاضل بالمراتب، فالأنبياء صلوات الله تعالى عليهم ما فضلوا الخلق إلا بها، فالنبي صلّى الله عليه وسلم له مرتبة الولاية والمعرفة والرسالة ومرتبة الولاية والمعرفة دائمة الوجود ومرتبة الرسالة منقطعة فإنها تنقطع بالتبليغ والفضل للدائم الباقي، والولي العارف مقيم عنده سبحانه والرسول خارج وحالة الإقامة أعلى من حالة الخروج، فهو صلّى الله عليه وسلم من حيثية كونه وليا وعارفا أعلى وأشرف من حيثية كونه رسولا وهو صلّى الله عليه وسلم الشخص بعينه واختلفت مراتبه لا أن الولي منا أرفع من الرسول نعوذ بالله تعالى من الخذلان، فعلى هذا الحد يقول تلك الكلمة أصحاب الكشف والوجود إذ لا اعتبار عندنا إلا للمقامات ولا نتكلم إلا فيها لا في الأشخاص، فإن الكلام في الأشخاص قد يكون بعض الأوقات غيبة، والكلام على المقامات والأحوال من صفات الرجال، ولنا في كل حظ شرب معلوم ورزق مقسوم انتهى، وهو صريح في أنه قدس سره لا يقول هو ولا غيره من الطائفة بأن الولي أفضل من النبي حسبما ينسب إليه، وقد نقل الشعراني عنه أنه قال: فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق، فينبغي تأويل جميع ما يوهم القول بذلك كأخباره في كتابة التجليات وغيره باجتماعه ببعض الأنبياء عليهم السلام وإفادته لهم من العلم ما ليس عندهم. وكقول الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره وقد تقدم: يا معاشر الأنبياء أوتيتم الألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه إلى غير ذلك، فإن اعتقاد أفضلية ولي من الأولياء على نبي من الأنبياء كفر عظيم وضلال بعيد، ولو ساغ تفضيل ولي على نبي لفضل الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه على أحد من الأنبياء لأنه أرفع الأولياء قدرا كما ذهب إليه أهل السنة ونص عليه الشيخ قدس سره في كتاب القربة أيضا مع أنه لم يفضل كذلك بل فضل على من عداهم كما نطق به «ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق» فمتى لم يفضل الصديق وهو الذي وقر في صدره ما وقر ونال من الكمال ما لا يحصر فكيف يفضل غيره؟.
وفضل كثير من الشيعة عليا كرم الله تعالى وجهه وكذا أولاده الأئمة الطاهرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين على كثير من الأنبياء والمرسلين من أولي العزم وغيرهم ولا مستند لهم في ذلك إلا أخبار كاذبة وأفكار غير صائبة.
وبالجملة متى رأينا الشخص مؤمنا متقيا حكمنا عليه بالولاية نظرا لظاهر الحال ووجب علينا معاملته بما هو أهله من التوقير والاحترام غير غالين فيه بتفضيله على رسول أو نبي أو نحو ذلك مما عليه العوام اليوم في معاملة من يعتقدونه وليا التي هي أشبه شيء بمعاملة المشركين من يعتقدونه إلها نسأل الله تعالى العفو والعافية، ولا يشترط فيه صدور كرامة على يده كما يشترط في الرسول صدور معجزة، ويكفيه الاستقامة كرامة كما يدل عليه ما اشتهر عن أبي يزيد قدس سره، بل الولي الكامل لا التفات له إليها ولا يود صدورها على يده إلا إذا تضمنت مصلحة للمسلمين خاصة أو عامة. وفي الجواهر والدر للشعراني سمعت شيخنا يقول: إذا زل الولي ولم يرجع لوقته عوقب بالحجاب، وهو أن يحبب إليه إظهار خرق العوائد المسماة في لسان العامة كرامات فيظهر بها ويقول: لو كنت مؤاخذا بهذه الذلة لقبض عني التصريف وغاب عنه أن ذلك استدراج بل ولو سلم من الزلة فالواجب خوفه من المكر والاستدراج، وقال بعضهم: الكرامة حيض الرجال ومن اغتر بالكرامات بالكرى مات. وأضر الكرامات للولي ما أوجب الشهرة فإن الشهرة آفة، وقد نقل عن الخواص أنها تنقص مرتبة الكمال، وأيد ذلك بالأثر المشهور خص بالبلاء من عرفه الناس. نعم ذكر في أسرار القرآن أن الولاية لا تتم إلا بأربع مقامات الأول مقام المحبة. والثاني مقام الشوق. والثالث مقام العشق.

صفحة رقم 167

والرابع مقام المعرفة، ولا تكون المحبة إلا بكشف الجمال ولا يكون الشوق إلا باستنشاق نسيم الوصال ولا يكون العشق إلا بدنو الأنوار ولا تكون المعرفة إلا بالصحبة، وتتحقق الصحبة بكشف الألوهية مع ظهور أنوار الصفات، ولحصول ذلك آثار وعلامات مذكورة فيه فليراجعه من أرادها والكلام في هذا المقام كثير وكتب القوم ملأى منه وما ذكرناه كفاية لغرضنا. وأحسن ما يعتمد عليه في معرفة الولي اتباع الشريعة الغراء وسلوك المحجة البيضاء فمن خرج عنها قيد شبر بعد عن الولاية بمراحل فلا ينبغي أن يطلق عليه اسم الولي ولو أتى بألف ألف خارق، فالولي الشرعي اليوم أعز من الكبريت الأحمر ولا حول ولا قوة إلا بالله:

أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي لما سبق لهم في الأزل من حسن العناية، أو لا تبديل لحقائقه سبحانه الواردة عليهم وأسمائه تعالى المنكشفة لهم وأحكام تجلياته جل وعلا النازلة بهم، أو لا تبديل لفطرهم التي فطرهم عليها، ويقال لكل محدث- كلمة- لأنه أثر الكلمة وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي لا تتأثر به إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً لا يملك أحد سواه منها شيئا فسيكفيكهم الله تعالى ويقهرهم وهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يفعل بهم.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي إن كل من في ذلك تحت ملكه سبحانه وتصرفه وقهره لا يقدرون على شيء من غير إذنه فهو كالتأكيد لما أفادته الآية السابقة أو أن من فيها من الملائكة والثقلين الذين هم أشرف الممكنات عبيد له سبحانه لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل أحق بأن لا يصلح لذلك فهو كالدليل على قوله سبحانه: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا ما يتوهمونه ويتخيلونه شريكا ولا شركة له في الحقيقة هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ إشارة إلى سكون العشاق والمشتاقين في الليل إذا مد أطنابه ونشر جلبابه وميلهم إلى مناجاة محبوبهم وانجذابهم إلى مشاهدة مطلوبهم وتلذذهم بما يرد عليهم من الواردات الإلهية واستغراقهم بأنواع التجليات الربانية، ومن هنا قال بعضهم: لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا، وهذه حالة عشاق الحضرة وهم العشاق الحقيقيون نفعنا الله تعالى بهم، وأنشد بعض المجازيين:
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني بالليل والهم جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليل هزتني إليك المضاجع
وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي ألبسه سربال أنوار القدرة لتقضوا فيها حاجاتكم الضرورية، وقيل: الإشارة بذلك إلى ليل الجسم ونهار الروح أي جعل لكم ليل الجسم لتسكنوا فيه ونهار الروح لتبصروا به حقائق الأشياء وما تهتدون به إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كلام الله تعالى فيقيمون بواطنه وحدوده ويطلعون به على صفاته وأسمائه سبحانه وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي معلولا يجانسه سُبْحانَهُ أي أنزهه جل وعلا من ذلك هُوَ الْغَنِيُّ الذي وجوده بذاته وبه وجود كل شيء وذلك ينافي الغنى وأكد غناه جل شأنه بقوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ إلخ، وقوله سبحانه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إلخ أمر له صلّى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم نبأ نوح عليه السلام في صحة توكله على الله تعالى ونظره إلى قومه وشركائهم بعين الغنى وعدم المبالاة بهم وبمكائدهم ليعتبروا به حاله عليه الصلاة والسلام فإن الأنبياء عليهم السلام في ملة التوحيد والقيام بالله تعالى وعدم الالتفات إلى الخلق سواء، أو أمر له صلّى الله عليه وسلم بأن يتلو نبأ نوح مع قومه ليتعظ قومه وينزجروا عما هم عليه مما يفضي إلى إهلاكهم وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي إيمانا حقيقيا فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي منقادين، أي إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا بشرط أن لا يكون لكم فعل ولا تروا لأنفسكم ولا لغيركم قوة ولا تأثيرا بل تكونوا منقادين كالميت بين يدي مغسله، فإن شرط

صفحة رقم 168
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية