آيات من القرآن الكريم

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ

والإقرار والعمل، والشك حاصل فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ هَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى؟ وَالشَّكُّ فِي أَحَدِ أَجْزَاءِ الْمَاهِيَّةِ لَا يُوجِبُ الشَّكَّ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّه بَقَاءُ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ.
الثَّالِثُ: الْغَرَضُ منه هضم النفس وكسرها. واللَّه أعلم.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ] فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّا حِينَ شرعنا في تفسير قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُسَ: ٢٠] ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمُعْجِزٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِعَالِ وَالِاخْتِلَاقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْجَوَابَاتِ الْكَثِيرَةَ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَامْتَدَّتْ تِلْكَ الْبَيَانَاتُ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ وَفَصَّلْنَاهُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ إِتْيَانَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا الْقُرْآنِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ وَحْيٌ نَازِلٌ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُعْجِزٌ نَازِلٌ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّهُ مُبَرَّأٌ عَنِ الِافْتِرَاءِ وَالِافْتِعَالِ فَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يُفْتَرى فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ افْتِرَاءً مِنْ دُونِ اللَّه، كَمَا تَقُولُ: مَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ إِلَّا كَذِبًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إن كلمة (أن) جاءت هاهنا بِمَعْنَى اللَّامِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ لِيُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّه، كَقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التَّوْبَةِ: ١٢٢] مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ... وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٩] أَيْ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْقُرْآنِ أَنْ يُفْتَرَى، أَيْ لَيْسَ وَصْفُهُ وَصْفُ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يُفْتَرَى بِهِ عَلَى اللَّه، لِأَنَّ الْمُفْتَرَى هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْبَشَرُ، وَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَالِافْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ فَرَيْتُ الْأَدِيمَ إِذَا قَدَّرْتُهُ لِلْقَطْعِ، ثُمَّ استعمل في الكذب كما استعمل قولهم: اختلف فُلَانٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْكَذِبِ، فَصَارَ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى بِأُمُورٍ:
النوع الأول: قَوْلُهُ: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا مَا سَافَرَ إِلَى بَلْدَةٍ لِأَجْلِ التَّعَلُّمِ، وَمَا كَانَتْ مَكَّةُ بَلْدَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمَا كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَقَاصِيصِ الْأَوَّلِينَ، وَالْقَوْمُ كَانُوا فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لَهُ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَقَاصِيصُ مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لَقَدَحُوا فِيهِ وَلَبَالَغُوا فِي الطَّعْنِ فِيهِ، وَلَقَالُوا لَهُ إِنَّكَ جِئْتَ بِهَذِهِ الْأَقَاصِيصِ لَا كَمَا يَنْبَغِي، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الطعن

صفحة رقم 252

فِيهِ، وَعَلَى تَقْبِيحِ صُورَتِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَتَى بِتِلْكَ الْأَقَاصِيصِ مُطَابِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مَعَ أَنَّهُ مَا طَالَعَهُمَا وَلَا تُلْمِذَ لِأَحَدٍ فِيهِمَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِوَحْيٍ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُتُبَ اللَّه الْمُنَزَّلَةَ دَلَّتْ عَلَى مَقْدَمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَا اسْتَقْصَيْنَا فِي تَقْرِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٠] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ/ كَانَ مَجِيءُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَصْدِيقًا لِمَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَجِيئِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ عَنِ الْغُيُوبِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَوَقَعَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومِ: ١، ٢] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْحِ: ٢٧] وَكَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّورِ: ٥٥] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، إِنَّمَا حَصَلَ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ: إِخْبَارٌ عَنِ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِخْبَارٌ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَمَجْمُوعُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هذه الآية قوله تعالى: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مُعْجِزٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
إِنَّهُ مُعْجِزٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْعُلُومَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دِينِيَّةً أَوْ لَيْسَتْ دِينِيَّةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ أَرْفَعُ حَالًا وَأَعْظَمُ شَأْنًا وَأَكْمَلُ دَرَجَةً مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَأَمَّا الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عِلْمَ الْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عِلْمَ الْأَعْمَالِ. أَمَّا عِلْمُ الْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أَمَّا مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى، فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِ جَلَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِ إِكْرَامِهِ، وَمَعْرِفَةِ أَفْعَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ، وَمَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَلَائِلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَتَفَارِيعِهَا وَتَفَاصِيلِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْكُتُبِ، بَلْ لَا يَقْرُبُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْأَعْمَالِ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ عِلْمِ التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالظَّوَاهِرِ وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا اسْتَنْبَطُوا مَبَاحِثَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا بِتَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ أَوْ رِيَاضَةِ الْقُلُوبِ. وَقَدْ حَصَلَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْعِلْمِ مَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٩٩] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النمل: ٩٠] فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَفَاصِيلِ جَمِيعِ الْعُلُومِ الشَّرِيفَةِ، عَقْلِيِّهَا وَنَقْلِيِّهَا، اشْتِمَالًا يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:
وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْكِتَابَ الطَّوِيلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ/ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أنواع التناقض، وحيث خلي هَذَا الْكِتَابُ عَنْهُ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّه بوحيه وَتَنْزِيلِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: ٨٢].

صفحة رقم 253

[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَصِفَتِهِ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُفْتَرًى عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَأَقَامَ عَلَيْهِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، عَادَ مَرَّةً أُخْرَى بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُجَّةً أُخْرَى عَلَى إِبْطَالِ هَذَا الْقَوْلِ، فَقَالَ: قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ بَالَغْنَا فِي تَقْرِيرِهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: ٢٣] وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٍ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ فِي سُورَةِ البقرة: مِنْ مِثْلِهِ وقال هاهنا: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا، لَمْ يُتَلْمَذْ لِأَحَدٍ وَلَمْ يُطَالِعْ كِتَابًا فَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يَعْنِي فَلْيَأْتِ إِنْسَانٌ يُسَاوِي مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَدَمِ التَّلْمَذِ وَعَدَمِ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ بِالْعُلُومِ بِسُورَةٍ تُسَاوِي هَذِهِ السُّورَةَ، وَحَيْثُ ظَهَرَ الْعَجْزُ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ فِي نَفْسِهَا مُعْجِزَةٌ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ظُهُورَ مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ إِنْسَانٍ مِثْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَدَمِ التَّلْمَذِ وَالتَّعَلُّمِ مُعْجِزٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ فِي نَفْسِهَا مُعْجِزٌ، فَإِنَّ الْخَلْقَ وَإِنْ تَلْمَذُوا وَتَعَلَّمُوا وَطَالَعُوا وَتَفَكَّرُوا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْإِتْيَانُ بِمُعَارَضَةِ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّوَرِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَرْتِيبٌ عَجِيبٌ فِي بَابِ التَّحَدِّي وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ هَلْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ السُّوَرِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، أَوْ يَخْتَصُّ بِالسُّوَرِ الْكِبَارِ.
الْجَوَابُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، فَالْمُرَادُ مِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، قَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَدَّى الْعَرَبَ بِالْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّحَدِّي: أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا عَجَزُوا عَنْهُ ظَهَرَ كَوْنُهُ حُجَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّه عَلَى صِدْقِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ لَوْ كَانَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ صَحِيحَ الْوُجُودِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَكَانَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقَدِيمِ مُحَالًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ التَّحَدِّي.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْكَلِمَاتِ الْمُرَكَّبَةَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، وَالتَّحَدِّي إِنَّمَا وَقَعَ بِهَا لَا بِالصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ: تَعْلِيمُ أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهَا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا تَعَاوَنَتْ وَتَعَاضَدَتْ صَارَتْ تِلْكَ الْعُقُولُ الْكَثِيرَةُ كَالْعَقْلِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا تَوَجَّهُوا نَحْوَ شَيْءٍ وَاحِدٍ، قَدَرَ مَجْمُوعُهُمْ عَلَى مَا يَعْجَزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هَبْ أَنَّ عَقْلَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ مِنْكُمْ لَا يَفِي بِاسْتِخْرَاجِ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ فَاجْتَمِعُوا وَلْيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، فَإِذَا عَرَفْتُمْ عَجْزَكُمْ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ وَحَالَةَ الِانْفِرَادِ عَنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ تَعَذُّرَ هَذِهِ

صفحة رقم 254

الْمُعَارَضَةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ قُدْرَةَ الْبَشَرِ غَيْرُ وَافِيَةٍ بِهَا، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ اللَّه لَا فِعْلُ الْبَشَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ بِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ أَنَّ مَرَاتِبَ تَحَدِّي رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ سِتَّةٌ، فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِكُلِّ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الْإِسْرَاءِ: ٨٨] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ قَالَ تَعَالَى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هُودٍ: ١٣] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَالَ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣] وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فَقَالَ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطُّورِ: ٣٤] وَخَامِسُهَا: أَنَّ فِي تِلْكَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ، كَانَ يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمُعَارَضَةِ رَجُلٌ يُسَاوِي رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَدَمِ التَّلْمَذِ وَالتَّعَلُّمِ، ثُمَّ فِي سُورَةِ يُونُسَ طَلَبَ مِنْهُمْ مُعَارَضَةَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ سَوَاءً تَعَلَّمَ الْعُلُومَ أَوْ لَمْ يَتَعَلَّمْهَا. وَسَادِسُهَا: أَنَّ فِي الْمَرَاتِبِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَحَدَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تَحَدَّى جَمِيعَهُمْ، وَجَوَّزَ أَنْ يَسْتَعِينَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فِي الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، كَمَا قَالَ: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وهاهنا آخِرُ الْمَرَاتِبِ، فَهَذَا مَجْمُوعُ الدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهُ كَذَّبُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كُلَّمَا سَمِعُوا شَيْئًا مِنَ الْقَصَصِ قَالُوا: لَيْسَ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْحِكَايَةِ بَلْ أُمُورٌ أُخْرَى مُغَايِرَةٌ لَهَا: فَأَوَّلُهَا: بَيَانُ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَنَقْلِ أَهْلِهِ مِنَ الْعِزِّ إِلَى الذُّلِّ وَمِنَ الذُّلِّ إِلَى الْعِزِّ/ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْعِبْرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِفُ بِهَا أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَبْقَى، فَنِهَايَةُ كُلِّ مُتَحَرِّكٍ سُكُونٌ، وَغَايَةُ كُلِّ مُتَكَوِّنٍ أَنْ لَا يَكُونَ، فَيَرْفَعَ قَلْبَهُ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَتَقْوَى رَغْبَتُهُ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسُفَ: ١١١] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ قَصَصَ الْأَوَّلِينَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَغْيِيرٍ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَلَمْ يُتَلْمَذْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَصَصَ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ:
١٩٢- ١٩٤].
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ كُلَّمَا سَمِعُوا حُرُوفَ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْهَا شَيْئًا سَاءَ ظَنُّهُمْ بِالْقُرْآنِ. وَقَدْ أَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آلِ عِمْرَانَ: ٧].
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْقُرْآنَ يَظْهَرُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلطَّعْنِ الرَّدِيءِ فَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ: ٣٢] وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْجَوَابَ في سورة الفرقان.
والوجه الرَّابِعُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْ إِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا قَدْ أَلِفُوا الْمَحْسُوسَاتِ فَاسْتَبْعَدُوا حُصُولَ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَتَقَرَّرْ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَظَنُّوا أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ، واللَّه تَعَالَى بَيَّنَ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ الْكَثِيرَةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يَقُولُونَ إِلَهُ الْعَالَمِينَ غَنِيٌّ عَنَّا وَعَنْ طَاعَتِنَا، وَإِنَّهُ تَعَالَى أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بقوله:

صفحة رقم 255
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية