آيات من القرآن الكريم

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ

بجميع أعمالهم، ويجازيهم عليها الجزاء الأوفى المناسب، بسبب ما كانوا يعملون. وفي هذا تهديد كاف، ووعيد قاطع شاف. جاء في حديث أحمد والبخاري: «ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدّخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرّحم».
وقال سفيان بن عيينة: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تعجّل لكم عقوبته في الحياة الدنيا، وعلى هذا قالوا: البغي يصرع أهله.
والحقّ أن إنذارات القرآن وألوان التهديد والوعيد بالعذاب لها هدف تربوي سام، فهي من أجل توجيه الإنسان نحو الخير، والصلاح، والهدى والنّور، والاستقامة على أمر الله وشكره باستعمال القوى الإنسانية في مرضاته، وهي أيضا تحذير من الشّر وتنبيه إلى مغبّته وسوء عاقبته، فالويل كل الويل لمن بغى على نفسه وظلم غيره، قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النّور: ٢٤/ ٦٣].
أروع مثل للحياة الدنيا
تتميز تشبيهات القرآن الكريم لبعض الأوضاع الجسمية أو الخطيرة بالواقعية والإيجاز، والتصوير السريع البليغ، ليسهل إدراك الأمور على وجهها الصحيح، ولتكون الأحوال المشاهدة خير دليل معبّر عن الواقع، وعبرة للمتأمّل المتّعظ. فإذا تفاعل الإنسان مع منظور المستقبل وتأثّر بما يؤول إليه، أحسّ بمسؤوليته، وبادر إلى العمل والبناء، والعطاء والإنتاج، قبل أن يفوت الأوان وتضيع الفرصة. وهذا مثل بليغ للحياة الدنيا تصوّره الآية القرآنية التالية كأن رساما ماهرا يرسم مشاهدها:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٤]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)

صفحة رقم 959

«١» «٢» «٣» [يونس: ١٠/ ٢٤].
هذه الآية العظيمة تصوير للحياة والفناء العاجل، وقد تكرر هذا التشبيه أو التمثيل في القرآن الكريم في مناسبات عديدة، مثل قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) [الحديد: ٥٧/ ٢٠].
وتوضيح هذا المثل كما يبدو فيما يأتي:
إنما مثل التّفاخر في الحياة الدنيا وزينتها بالمال والبنين، ثم أيلولتها إلى الفناء السريع، كمطر نزل من السماء، فاختلط بالتراب والنبات، فأنبت نباتات شتى، تشابكت واختلط بعضها ببعض، منها ما يأكله الناس من زروع وحبوب وثمار، ومنها ما تأكله الأنعام من علف ومراع وغير ذلك.
حتى إذا تكامل نمو النبات وازدهر، وأخذت الأرض حسنها وزينتها الفانية، وتزيّنت بأبهى أنواع الزينة، واكتسست الجبال والوديان والسهول بالأشجار الباسقة، والأزهار النّضرة، والحبوب والثمار اليانعة، مما يأكل الناس من الزروع والأشجار ونحو ذلك من المراعي والأعلاف، وازّيّنت، أي ظهرت زينتها، وأيقن أهلها الذين زرعوها أو غرسوها أنهم قادرون على جذاذها وحصادها والانتفاع بها. وبينما هم كذلك، مفتونون بحسن النّبات والثّمر والزهر، جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة،

(١) نضارتها بالنباتات.
(٢) كالنبات المحصود.
(٣) لم تمكث زروعها.

صفحة رقم 960

فيبست أوراقها وتلفت ثمارها، ونزل بها القضاء المقدّر لهلاكها ليلا أو نهارا، فجعلها الله تعالى كالأرض المحصودة، لا خضرة ولا نضرة فيها، كأن لم تنبت، وكأنها لم تكن في حال حياة قبل ذلك، وهذا معنى قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أي كأن لم تنعم ولم تنضر ولم تغر بغضارتها، وفي تفسير أبي بن كعب: وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها.
ثم ختم الله تعالى هذا المثل الرائع بقوله: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي كهذا المثل المبيّن الذي يوضح حال الدنيا وسرعة زوالها، نبيّن الحجج والأدلّة الدّالة على إثبات التوحيد والجزاء وكل ما فيه صلاح الناس في معاشهم ومعادهم، لقوم يتفكرون في آيات الله، أي يستعملون تفكيرهم وعقولهم في الاتّعاظ والاعتبار بهذا المثل في زوال الدنيا عن أهلها زوالا سريعا، مع اغترارهم بها، وتمكّنهم من خيراتها، علما بأن من طبع الدنيا الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها.
والغرض الواضح من هذه الآية التحذير من الاغترار بالدنيا، إذ هي معرّضة للتّلف والزّوال بموت أو غيره من رزايا الدنيا. وخصّ المتفكّرين بالذّكر تشريفا للمنزلة، وليقع التّسابق إلى هذه الرتبة. فجدير بكل عاقل ألا يغتر بالدنيا، فإنها غرّارة زائلة، وليبادر إلى اغتنام أيام عمره فيها، فيعمل العمل الصالح، ويصحح العقيدة، ويؤمن بالله حقّ الإيمان، وينفع نفسه وأمّته ووطنه، ويخلّد سمعة طيبة إما بكلمة طيبة، أو بخير يفعله، أو منع من شرّ يدمّر حياته وحياة غيره.
التّرغيب في الجنّة والتّرهيب من النّار
لم يترك القرآن المجيد خيرا إلا دعا إليه جميع البشر في كل زمان ومكان، ولم ير في شيء شرّا إلا حذّر منه ونفّر، وأعلن وأنذر، وجعل القرآن غاية للخير ومقصدا عامّا

صفحة رقم 961
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر - دمشق
سنة النشر
1422
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية