
عادة الكفار المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
الإعراب:
إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ بَغْيُكُمْ: مبتدأ، وعَلى أَنْفُسِكُمْ: خبره.
مَتاعَ الْحَياةِ منصوب إما بفعل مقدر، تقديره: تبتغون متاع الحياة الدنيا، أو على المصدر المؤكد بفعل مقدر تقديره: تمتعوا متاع الحياة الدنيا. ويقرأ بالرفع خبرا بعد خبر لبغيكم، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو متاع الحياة الدنيا. ويقرأ بالجر على غير المشهور على البدل من الكاف والميم في أَنْفُسِكُمْ وتقديره: إنما بغيكم على متاع الحياة الدنيا.
جاءَتْها جواب إِذا.
دَعَوُا اللَّهَ... بدل من: ظَنُّوا بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم ظنهم.
لَئِنْ أَنْجَيْتَنا.. على إرادة القول، أو مفعول: دعوا لأنه من جملة القول. ولام لَئِنْ: لام القسم.
البلاغة:
أَسْرَعُ مَكْراً المكر: إخفاء الكيد، وهو من الله تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر، وتسمية عقوبة الله مكرا من باب «المشاكلة».

وَجَرَيْنَ بِهِمْ فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة، لزيادة التقبيح والتشنيع على الكفار، لعدم شكرهم النعمة، وللتعجب من حالهم والإنكار عليهم.
المفردات اللغوية:
أَذَقْنَا أصل الذوق: إدراك الطعم بالفم، ويستعمل مجازا في إدراك غيره من الأشياء المعنوية كالرحمة والنعمة، والعذاب والنقمة. النَّاسَ أي كفار مكة رَحْمَةً مطرا وخصبا وصحة وسعة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ بؤس، وجدب أو قحط، ومرض مَكْرٌ فِي آياتِنا بالطعن فيها والاحتيال في دفعها بالاستهزاء والتكذيب قُلِ لهم اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً المكر: التدبير الخفي الذي يفضي بالغير إلى مالا يتوقعه، والمراد هنا: مجازاة أو جزاء على المكر، أو المراد الاستدراج إِنَّ رُسُلَنا الحفظة الكرام الكاتبين من الملائكة.
يُسَيِّرُكُمْ يسخّر لكم، أو يعطيكم أداة السير من سفينة أو دابة أو سيارة أو طائرة ونحوها، أو يحملكم على السير ويمكنكم منه، والتسيير بإيجاز: التمكين من الانتقال بالنفس أو بالواسطة الْفُلْكِ السفن أو السفينة، جمعا أو واحدا بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لينة، والطيب من كل شيء: ما يوافق الغرض والمنفعة، يقال: رزق طيب، ونفس طيبة، وشجرة طيبة جاءَتْها الضمير للفلك أو الريح الطيبة أي تلقتها رِيحٌ عاصِفٌ شديدة الهبوب، تكسر كل شيء، وذات عصف أُحِيطَ بِهِمْ أي أهلكوا مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدعاء مِنْ هذِهِ الأهوال الشَّاكِرِينَ الموحدين.
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي فاجؤوا الفساد فيها وسارعوا إلى ما كانوا عليه، والبغي: الزيادة على القصد والاعتدال حتى الوقوع في الفساد والظلم، كالشرك، وبغير الحق أي مبطلين فيه. وأما الفساد بحق كتخريب الديار وإحراق الزروع وقطع الأشجار في حالة الحرب فهو إفساد بحق إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ظلمكم أي وباله وإثمه عليكم مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا تمتعون فيها قليلا مَرْجِعُكُمْ أي بعد الموت فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فنجازيكم
المناسبة:
بعد أن ردّ الله تعالى على المشركين الطالبين إنزال آية كونية غير القرآن، بأن هذا من الغيب المستأثر به الله تعالى، ذكر جوابا آخر، وهو أن أولئك المشركين لا يقنعون بالآيات إذا رأوها بأعينهم لأن عادتهم المكر والجحود والعناد

وعدم الإنصاف، فكثيرا ما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله ثم يمكرون فيها، فهم إن أصابتهم الشدة تضرعوا، وإن جاءتهم الرحمة بطروا وكفروا.
التفسير والبيان:
موضوع هذه الآيات الرد على الكفار الذين يطلبون الآيات الكونية، فإذا تحققت لم يعتبروا ولم يتعظوا، مما يدل على سوء طبع الإنسان وتأصل خلق السوء فيه، وتنكره للأدلة العقلية والحسية، والقواعد الخلقية أيضا التي تقتضي الوفاء بالمعروف وشكر النعمة الإلهية. وهذا المذكور في الآيات مثال لسوء الطبع والانقلاب على الفطرة.
إذا أذاق الله الناس رحمة، ورزقهم فضلا، من بعد ضرّاء مستهم «١»، كالرخاء بعد الشدة، والخصب بعد الجدب، والمطر بعد القحط ونحو ذلك، إذا هم يسرعون بالمفاجأة الغريبة وهي المكر في مقام الحمد والشكر، والمراد بالمكر:
الاستهزاء والتكذيب لها، أو الطعن فيها والاحتيال في دفعها، والتنكر لها.
وهكذا إذا رزق الله المطر، قال الإنسان: مطرنا لأنا في فصل الأمطار، أو لأن الكوكب الفلاني طلع، وإذا نجا من مكروه أو شدة، قال: نجوت صدفة، وإذا نجح في مشروع ما، نسب النجاح إلى تفوقه ومهارته وذكائه، ولم يذكر توفيق الله له، كما قال قارون: إنما أوتيته أي المال على علم عندي، وإذا رفع الكرب بدعاء نبي، لم يقروا له بالفضل، كما حدث لمشركي مكة، روي أن الله تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم، وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم، ثم نسبوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء «٢»، وكل ذلك لمقابلة النعمة بالكفران.
(٢) النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما، ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما. وكانت العرب-

والقصة هي كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
«أن قريشا لما استعصوا على رسول الله صل الله عليه وسلّم، دعا عليهم بسنين كسنيّ سيدنا يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد، وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ، هذا عَذابٌ أَلِيمٌ [الدخان ٤٤/ ١٠- ١١] فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا محمد، إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قوما ربما هلكوا، فادع الله لهم، فدعا لهم، فكشف الله عنهم العذاب، ومطروا، فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول يطعنون في آيات الله، ويعادون رسوله صلى الله عليه وسلّم، ويكذّبونه».
فرد الله عليهم بقوله: قُلِ: اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي قل لهم يا محمد: إن الله أسرع جزاء لكم على أفعالكم قبل أن تدبروا مكائدهم لإطفاء نور الإسلام، أو أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب، وإنما هو في مهلة، ثم يؤخذ على غرة منه.
إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي إن الحفظة أو الكتبة من الملائكة الكرام يكتبون جميع ما تفعلونه وتدبرونه أو تخططون له، ويحصونه عليكم، ثم يعرضونه على الله عالم الغيب والشهادة، فيجازي كلا منكم على الجليل والحقير.
وفي هذا دلالة على تمام الحفظ والعناية وعدم خفاء تدبيرهم على الله تعالى، وعلى أن عقابه واقع بهم لا محالة.
ثم ضرب الله مثلا للمشركين المعاندين على مقابلتهم النعمة بالجحود، فقال:
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ.. أي إن الله تعالى هو الذي يمكنكم من السير والانتقال

بالنفس أو بالوسائط المعروفة في البر بالدواب والسيارات والقطارات وفي البحر بالسفن والمراكب، وفي الجو فوق البر والبحر بالطائرات فوق الهواء.
حتى إذا كنتم راكبين في الفلك (السفينة أو السفن) وجرت بكم في البحر بسبب ريح طيبة مواتية للاتجاه في جهة السير، وفرحتم بما تحقق لكم من راحة وقطع مسافة، ثم جاءت تلك السفن ريح عاصفة شديدة قوية، فاضطرب البحر، وتلاطمت بالأمواج العالية من مختلف الجهات، وظننتم أي اعتقدتم أنكم هالكون لا محالة بسبب إحاطة الموج، فلم تجدوا ملجأ إلا الله، فدعوتموه مخلصين له الدعاء والعبادة والتضرع، ولم تتجهوا إلى آلهتكم من الأوثان، وقلتم: لئن أنجانا الله من هذه المخاطر الجسيمة، لنكونن من جماعة الشاكرين النعمة، الموحدين الله، ثم بعد النجاة عدتم إلى الكفر، كما قال تعالى في الآية السابقة: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ، دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس ١٠/ ١٢].
وقال هنا: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ... أي فلما نجاهم من تلك الورطة، عادوا فجأة إلى سيرتهم الأولى من البغي وإلحاق الظلم بالنفس وبالآخرين، وكأن شيئا لم يكن، كقوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء ١٧/ ٦٧].
ثم خاطب الله الناس البغاة الذين لم يعتبروا ونكثوا العهد مع الله:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إنما وبال هذا البغي وجزاؤه وإثمه على أنفسكم في الدنيا والآخرة ولا تضرون به أحدا غيركم، أما في الدنيا فأنتم تتمتعون به متاعا زائلا لا قرار له، وأقله توبيخ الضمير والوجدان، أو المعاملة بالمثل، كما
جاء في الحديث الذي رواه أحمد والبخاري: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدّخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة

الرحم»
وفي حديث آخر رواه الترمذي عن عائشة: «أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقابا البغي وقطيعة الرحم» «ثنتان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين».
وأما في الآخرة فالجزاء المحقق على البغي في النار، وهذا ما أفاده قوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ... أي إن مصيركم ومآلكم إلينا يوم القيامة، يوم الفصل والجزاء، فنخبركم بجميع أعمالكم، ونوفيكم إياها، ونجازيكم عليها الجزاء الأوفى المناسب، بسبب ما كنتم تعملون، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. وفي هذا تهديد كاف ووعيد شاف.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
١- إن مقابلة النعمة الإلهية بالجحود والإنكار، والتكذيب بآيات الله، مرصود رصدا تاما عند الله، والملائكة الحفظة تدون كل شيء، ثم يحاسب الله تعالى كل إنسان على ما قدم وأخر.
٢- إن الفضل في إنقاذ الإنسان ونجاته من ألوان المخاطر والشدائد والأهوال هو لله تعالى وحده.
٣- دلت هذه الآية على ركوب البحر مطلقا، وأكدت السنة ذلك، مثل حديث أنس في قصة أم حرام، الذي يدل على جواز ركوبه في الجهاد. ودلت هذه الآية أيضا على أن سير العباد في البحر من الله تعالى وتوفيقه.
٤- الكفار شأنهم نكث العهد وعدم الوفاء بالوعد، فبالرغم مما قد يتعرضون له من مخاطر الغرق، تراهم ينسون ذلك، ويعودون إلى الفساد في الأرض بالمعاصي، والبغي: الفساد والشرك، وهو أشنع أنواع الظلم.