صحة التوكل فناء بقايا الأفعال والقوى قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما أي على ما أنتما عليه من الدعوة شكرا لتلك الإجابة، وقيل: أي استقيما على معرفتكما مقام السؤال وهو مقام الرضوان والبسط ليستجاب لكما بعد إذا دعوتما فإن من لم يعرف مقام السؤال قد يوقعه في غير مقامه فيسيء الأدب فلا يستجاب له، وقيل: إن هذا عتاب لهما عليهما السلام أي قد أجيب دعوتكما لضعفكما عن تحمل وارد امتحاني فاستقيما بعد ذلك على تحمل بلائي والصبر فيه فإنه اللائق بشأنكما، وقد قيل: المعرفة تقتضي الرضا بالقضاء والسكون في البلاء، وقيل: أي استقيما في دعائكما والاستقامة في الدعاء على ما قال ذو النون المصري أن لا يغضب الداعي لتأخير الإجابة ولا يسأل سؤال خصوص نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
صفحة رقم 169وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ من جاوز المكان إذا قطعه وتخطاه، وهو متعد إلى المفعول الأول الذي كان فاعلا في الأصل بالباء وإلى الثاني بنفسه، والمعنى جعلناهم مجاوزين البحر بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط. وقرأ الحسن «وجوزنا» بالتضعيف، وفعل بمعنى فاعل فهو من التجويز المرادف للمجاوزة بالمعنى السابق وليس بمعنى نفذ لأنه لا يحتاج إلى التعدية بالباء ويتعدى إلى المفعول الثاني بفي كما في قوله:
ولا بد من جار يجيز سبيلها | كما جوز السكي في الباب فيتق |
وقال بعض المحققين: يقال تبعته حتى أتبعته إذا كان سبقك فلحقته، فالمعنى هنا أدركهم ولحقهم فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان بَغْياً وَعَدْواً أي ظلما واعتداء، وهما مصدران منصوبان على الحال بتأويل اسم الفاعل أي باغين وعادين أو على المفعولية لأجله أي للبغي والعدوان.
وقرأ الحسن «وعدوا» بضم العين والدال وتشديد الواو، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر موسى وهارون عليهما السلام بإجابة دعوتهما أمر موسى عليه السلام بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا وكانوا كما ذكره غير واحد ستمائة ألف فخرج بهم على حين غفلة من فرعون وملئه فلما أحسن بذلك خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم فقالوا: يا موسى هذا فرعون وجنوده وراءنا وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وصار لكل سبط طريق فسلكوا ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله فسلكه بمن معه أجمعين فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ما غشيهم حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ أي لحقه، والمراد بلحوقه إياه وقوعه فيه وتلبسه بأوائله، وقيل: معنى أدركه قارب إدراكه كجاء الشتاء فتأهب لأن حقيقة اللحوق تمنعه من القول الذي قصة سبحانه بقوله جل شأنه: قالَ آمَنْتُ إلخ، ومن الناس من أبقى الإدراك على ظاهره وحمل القول على النفسي وزعم أن الآية دليل على ثبوت الكلام النفسي، ونظر فيه بأن قيام الاحتمال يبطل صحة الاستدلال، وأيّا ما كان فليس المراد الإخبار بإيمان سابق كما قيل بل إنشاء إيمان أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ أي بأنه، وقدر الجار لأن الإيمان وكذا الكفر متعد بالباء ومحل مدخوله بعد حذفه الجر أو النصب فيه خلاف شهير وجعله متعديا بنفسه فلا تقدير لأنه في أصل وضعه كذلك مخالفة للاستعمال المشهور فيه. وقرأ حمزة والكسائي «إنه» بالكسر على إضمار القول أي وقال إنه أو على الاستئناف لبيان إيمانه أو الإبدال من جملة آمنت والجملة الاسمية يجوز إبدالها من الفعلية، والاستئناف على البدلية باعتبار المحكي لا الحكاية لأن الكلام في الأول، والجملة الأولى في كلامه مستأنفة والمبدل من المستأنف مستأنف والضمير للشأن، وعبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلته إيمان بني إسرائيل به تعالى ولم يقل كما قال السحرة آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الأعراف: ١٢١، ١٢٢] للإشعار صفحة رقم 170
برجوعه عن الاستعصاء واتباعه لمن كان يستتبعهم طمعا في القبول والانتظام معهم في سلك النجاة وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي الذين أسلموا نفوسهم لله تعالى أي جعلوها خالصة سالمة له سبحانه، وأراد بهم إما بني إسرائيل خاصة وإما الجنس وهم إذ ذاك داخلون دخولا أولياء، والظاهر أن الجملة على التقديرين معطوفة على جملة آمَنْتُ وإيثار الاسمية لادعاء الدوام والاستمرار.
وقيل: إنها على جملة الأول معطوفة وعلى الثاني تحتمل الحالية أيضا من ضمير المتكلم أي آمنت مخلصا لله تعالى منتظما في سلك الراسخين في ذلك، ولقد كرر المعنى الواحد بثلاث عبارات وبالغ ما بالغ حرصا على القبول المقتضي للنجاة وليت بعض ذلك قد كان حين ينفعه الإيمان وذلك قبل اليأس، فإن إيمان اليأس غير مقبول كما عليه الأئمة الفحول آلْآنَ الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والظرف متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا أي الآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات، وقدر مؤخرا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله فيه، والكلام على تقدير القول أي فقيل له ذلك وهو معطوف على على قالَ، وهذا إلى آيَةً حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول ومقابلة ما أظهره بالرد الشنيع وتقريعه بالعصيان والإفساد إلى غير ذلك، وفي حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكي في صورة الإنشاء من الدلالة على عظم السخط وشدة الغضب ما لا يخفى. والقائل له ذلك قيل: هو الله تعالى، وقيل: هو جبريل عليه السلام، وقيل: إنه ميكائيل عليه السلام.
فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام: ما أبغضت شيئا من خلق الله تعالى ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتصم بكلمة الإخلاص فينجو فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال الآن» إلخ
وما تضمنه هذا الخبر من فعل جبريل عليه السلام جاء في غير ما خبر. ومن ذلك ما
أخرجه الطيالسي وابن حبان وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والترمذي، والحاكم وصححاه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون مخافة أن تدركه الرحمة»
واستشكل هذا التعليل.
وفي الكشاف أن ذلك من زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته عليهم السلام: وفيه جهالتان: إحداهما أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس فحال البحر لا يمنعه. والأخرى أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر، وارتضاه ابن المنير قائلا: لقد أنكر منكرا وغضب لله تعالى وملائكته عليهم السلام كما يجب لهم، والجمهور على خلافه لصحة الحديث عند الأئمة الثقات كالترمذي المقدم على المحدثين بعد مسلم. وغيره، وقد خاضوا في بيان المراد منه بحيث لا يبقى فيه إشكال.
ففي إرشاد العقل السليم أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية أي النجاة التي هي طلبة المخذول وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان كما في إيمان قوم يونس عليه السلام حتى يلزم من كراهته ما لا يتصور في شأن جبريل عليه السلام من الرضا بالكفر إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان وإن كان ذلك في حالة البأس واليأس فيحمل دسه عليه السلام على سد باب الاحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد انتهى.
ولا يخفى أن حمل الرحمة على الرحمة الدنيوية بعيد ويكاد يأبى عنه ما
أخرجه ابن جرير والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام: لو رأيتني يا محمد وأنا أغط فرعون بإحدى يدي وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله تعالى فيغفر له»
فإنه رتب فيه المغفرة على إدراك
الرحمة وهو ظاهر في أنه ليس المراد بها الرحمة الدنيوية لأن المغفرة لا تترب عليها وإنما يترتب عليها النجاة.
وقال بعض المحققين: إنما فعل جبريل عليه السلام ما فعل غضبا عليه لما صدر منه وخوفا أنه إذا كرر ذلك ربما قبل منه على سبيل خرق العادة لسعة بحر الرحمة الذي يستغرق كل شيء، وأما الرضا بالكفر فالحق أنه ليس بكفر مطلقا بل إذا استحسن وإنما الكفر رضاه بكفر نفسه كما في التأويلات لعلم الهدى انتهى، وقد تقدم آنفا ما يتعلق بهذه المسألة فتذكره فما في العهد من قدم، نعم قيل: إن الرضا بكفر نفسه إنما يكون وهو كافر فلا معنى لعده كفرا والكفر حاصل قبله، وهو على ماله وما عليه بحث آخر لا يضر فيما نحن فيه.
والطيبي بعد أن أجاب بما أجاب أردف ذلك بقوله: على أنه ليس للعقل مجال في مثل هذا النقل الصحيح إلا التسليم ونسبة القصور إلى النفس، وقد يقال: إن الخبر متى خالف صريح العقل أو تضمن نسبة ما لا يتصور شرعا في حق شخص إليه ولم يمكن تأويله على وجه يوافق حكم العقل ويندفع به نسبة النقص لا يكون صحيحا، واتهام الراوي بما يوهن أمر روايته أهون من اتهام العقل الصريح ونسبة النقص إليه دون نسبة النقص إلى من شهد الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم بعصمته وكماله فتأمل والله تعالى الموفق، وقوله سبحانه: وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ في موضع الحال من فاعل الفعل العامل في الظرف جيء به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لما عسى يعد عذرا بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى: وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ عطف على عَصَيْتَ داخل في حيز الحال والتحقيق أي وقد كنت من المفسدين الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان فهذا عبارة عن فساده الراجح إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدي وصد بني إسرائيل عن السبيل والأول عن عصيانه الخاص به، وقوله جل شأنه: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ تهكم به وتخييب له وحسم لأطماعه بالمرة، والمراد فاليوم نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ملابسا ببدنك عاريا عن الروح إلا أنه عبر عن ذلك بالتنجية مجازا، وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المخاطب لذلك مع ما فيه من التلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة، وقيل: معنى الحال عاريا عن اللباس أو تام الأعضاء كاملها.
وجعل بعض الأفاضل الكلام على التجريد، وجوز أن يكون الباء زائدة- وبدنك- بدل بعض من ضمير المخاطب كأنه قيل: ننجي بدنك، وجعل الباء للآلة ليكون على وزن قولك- أخذته بيدك- ونظرته بعينك- إيذانا بحصول هذا المطلوب البعيد التناول وجه لكنه غير وجيه كما لا يخفى، وقيل: التنجية الإلقاء على النجوة وهي المكان المرتفع، قيل: وسمي به لنجاته عن السيل، وإلى هذا ذهب يونس بن حبيب النحوي، فقد أخرج ابن الأنباري.
وأبو الشيخ عنه أنه قال: المعنى نجعلك على نجوة من الأرض كي يراك بنو إسرائيل فيعرفوا أنك قد مت، وجاء تفسير البدن بالدرع، وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي، وكانت له درع من ذهب يعرف بها، وفي رواية أنها كانت من لؤلؤ.
وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي جهضم موسى بن سالم أنه كان لفرعون شيء يلبسه يقال له البدن يتلألأ، وقرأ يعقوب «ننجيك» من باب الافعال وهو بمعنى التفعيل بمعنييه السابقين، وأخرج ابن الأنباري عن محمد بن السميفع اليماني، ويزيد البربري أنهما قرآ «ننحيك» بالحاء المهملة ونسبت إلى أبي بن كعب، وأبي السمال أي نجعلك في ناحية ونلقيك على الساحل. وقرأ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه «بأبدانك» على صيغة الجمع بجعل كل عضو بمنزلة البدن فأطلق الكل على الجزء مجازا وعلى هذا جمع الإجرام في قوله:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى | بإجرامه من قلة النيق منهوي |
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم | بني ضوطرى لولا الكميّ المقنعا |
فالمراد بالقرية أهلها مجازا شائعا والقرينة هنا أظهر من أن تخفى، وقوله تبارك وتعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء منقطع كما قال الزجاج وسيبويه والكسائي. وأكثر النحاة أي لكن قوم يونس لَمَّا آمَنُوا عند ما رأوا أمارات العذاب ولم يؤخروا إلى حلوله كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي الذل والهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بعد ما أظلهم وكاد ينزل بهم وَمَتَّعْناهُمْ بمتاع الدنيا بعد كشف العذاب عنهم إِلى حِينٍ أي زمان من الدهر مقدر لهم في علم الله تعالى. ونقل عن ابن عباس أن المراد إلى يوم القيامة فهم اليوم أحياء إلا أن الله تعالى سترهم عن الناس على حد ما يقال في الخضر عليه السلام، ورأيت في بعض الكتب ما يوافقه إلا أنه ذكر فيه أنهم يظهرون أيام المهدي ويكونون من جملة أنصاره ثم يموتون والكل مما لا صحة له. وقال آخرون: الاستثناء متصل، ويراد من القرية أهلها المشرفون على الهلاك.
وقيل: العاصون ويعتبر النفي الذي يشعر به التحضيض وهو مشعر بالأمر أيضا ولذا جعلوه في حكمه إلا أنه لا يصح اعتباره على تقدير الاتصال لما يلزمه من كون الإيمان من المستثنين غير مطلوب وهو غير مطلوب بل فاسد، وقيل: لا مانع من ذلك على ذلك التقدير لأن أهل القرى محضوضون على الإيمان النافع وليس قوم يونس محضوضين عليه لأنهم آمنوا، والذوق يأبى إلا اعتبار النفي فقط حال اعتبار الاتصال» ويكون قوله سبحانه: لَمَّا آمَنُوا استئنافا لبيان نفع إيمانهم. وقرىء «إلا قوم» بالرفع على البدل من قرية المراد بها أهلها، وأيد بذلك القول بالاتصال واعتبار النفي لأن البدل لا يكون إلا في غير الموجب، وخرج بعضهم هذه القراءة على أن إِلَّا بمعنى غير وهي صفة ظهر إعرابها فيما بعدها كما في قوله على رأي:
وكل أخ مفارقه أخوه... لعمر أبيك إلا الفرقدان
وظاهر كلامهم أن الاستثناء مطلقا من قرية، وعن الزمخشري أنه على الأول من القرية لا من الضمير في آمَنَتْ وعلل بأن المنقطع بمعنى لكن فيتوسط بين الكلامين المتغايرين فلا يعتمد ما لا يستقل ولأنه لا مدخل للوصف أعني الإيمان في المستثنى منه فالاستثناء عن أصل الكلام، وأما على الثاني فهو استثناء من الضمير من حيث المعنى جعل في اللفظ منه أو من القرية إذ لا فرق في قولك: كان القوم منطلقين إلا زيدا بين جعله من الاسم أو من الضمير في الخبر لأن الحكم إنما يتم بالخبر، وإنما الفرق في نحو ضربت القوم العالمين إلا زيدا، ثم قال: ونظير هذا في الوجهين قوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ [الحجر: ٥٨، ٥٩] ووجه ذلك ظاهر. وفي الكشف أن وجه الشبه اختلاف معنى الهلاك على الوجهين كاختلاف معنى الإرسال هنالك على الوجهين، وكأنه عنى بالهلاك المأخوذ قيدا في قوله فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها فتدبر. وفي يُونُسَ لغات تثليث النون مهموزا وغير مهموز والمتواتر منها الضم بلا همز.
وكان من قصة هؤلاء القوم على ما روي عن غير واحد أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فدعاهم إلى الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه فأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من جوف الليل فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم ليس بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، وجاء أنه غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وفرقوا بين الوالدة وولدها من الناس
والدواب فجن البعض إلى البعض وعلت الأصوات وعجوا جميعا وتضرعوا إليه تعالى وأخلصوا النية فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب وكان ذلك يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.
قال ابن مسعود: إنه بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه ويرده إلى صاحبه، وجاء في رواية عن قتادة أنهم عجوا إلى الله تعالى أربعين صباحا حتى كشف ما نزل بهم، وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وغيرهما عن ابن غيلان قال: لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: ما ترى؟ قال: قولوا: يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف عنهم العذاب، وقال الفضيل بن عياض: قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وكان يونس عليه السلام إذ ذهب عنهم قعد في الطريق يسأل الخبر كما جاء مرفوعا فمر به رجل فقال له: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وانطلق مغاضبا حسبما قصه الله تعالى في غير هذا الموضع مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وظاهر الآية يستدعي أن القوم شاهدوا العذاب لمكان كَشَفْنا وهو الذي يقتضيه أكثر الأخبار وإليه ذهب كثير من المفسرين، ونفع الإيمان لهم بعد المشاهدة من خصوصياتهم فإن إيمان الكفار بعد مشاهدة ما وعدوا به إيمان بأس غير نافع لارتفاع التكليف حينئذ وعادة الله إهلاكهم من غير إمهال كما أهلك فرعون، والقول بأنه بقي حيا إلى ما شاء الله تعالى وسكن أرض الموصل من مفتريات اليهود.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ تحقيق لدوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته سبحانه مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته، ومفعول المشيئة هنا محذوف حسب المعهود في نظائره أي لو شاء سبحانه إيمان من في الأرض من الثقلين لآمن كُلُّهُمْ بحيث لا يشذ منهم أحد جَمِيعاً أي مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لم يشأ ذلك لأن سبحانه لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما له ثبوت في نفسه فيما لا ثبوت له أصلا لا يعلم وما لا يعلم لا يشاء، وإلى هذا التعليل ذهب الكوراني عليه الرحمة وأطال الكلام في تحريره والذب عنه في غير ما رسالة، والجمهور على أنه سبحانه لا يشاؤه لكونه مخالفا للحكمة التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع. والآية حجة على المعتزلة الزاعمين أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها وقسرية لا يجوز التخلف عنها وحملوا ما في الآية على هذا الأخير، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة الجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا لكنه سبحانه لم يشأ كذلك بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيار إله ولضده وفوض الأمر إليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا دينهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه، وفيه أنه لا قرينة على التقييد مع أن قوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ يأباه فيما قيل، فإن الهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة من تأخير على ما عليه الجمهور والفاء للتفريع والمقصود تفرع الإنكار على ما قبل ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفرع الإنكار، وقيل: إن الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل: أربك لا يشاء ذلك فأنت تكرههم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى والآباء هو الآباء فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها، والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع مبالغة، وجوز في «أنت» أن يكون فاعلا بمقدر يفسره ما بعده وأن يكون مبتدأ خبره الجملة بعده ويعدونه فاعلا معنويا، وتقديمه لتقوية حكم الإنكار كما ذهب إليه الشريف قدس سره في شرح المفتاح وذكر فيه أن المقصود إنكار صدور الفعل من المخاطب لا إنكار كونه هو الفاعل مع تقرر
أصل الفعل، وقيل: إن التقديم للتخصيص ففيه إيذان بأن الإكراه أمر ممكن لكن الشأن في المكره من هو وما هو إلا سبحانه وحده لا يشارك فيه لأنه جل شأنه القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر.
وَما كانَ لِنَفْسٍ بيان لتبعية إيمان النفوس التي علم الله تعالى إيمانها لمشيئته تعالى وجودا وعدما بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك، وقيل: هو تقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله تعالى أنها تؤمن أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بمشيئته وإرادته سبحانه، والأصل في الإذن بالشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه، وجعلوا ما ذكر من لوازمه كالتسهيل الذي ذكره بعضهم في تفسيره، وخصصت النفس بالصفة المذكورة ولم تجعل من قبيل قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: ١٤٥] قيل لأن الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حال كونها ملابسة بإذنه سبحانه فلا بد من كون الإيمان مما يؤول إليه حالها كما أن الموت حال لكل نفس لا محيص لها عنه فلا بد من التخصيص بما ذكر، فإن النفوس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن ليس لها حال تؤمن فيها حتى تستثنى تلك الحال من غيرها انتهى، وقد يقال: إن هذا الاستثناء بالنظر إلى النفس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن مفيد لعدم إيمانها على أتم وجه على حد ما قيل في قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: ٢٣] فكأنه قيل: ما كان لنفس علم الله تعالى أنها لا تؤمن أن تؤمن في حال من الأحوال كسلامة العقل وصحة البدن وغيرهما إلا في حال ملابستها إذن الله تعالى وإرادته أن تؤمن وهي تابعة لعلمه بذلك وعلمه به محال لأنه قد علم نقيضه فيلزم انقلاب العلم جهلا فتكون إرادته ذلك محالا فيكون إيمانها محالا إذ الموقوف على المحال محال. وفي الحواشي الشهابية أن ما كانَ إن كان بمعنى ما وجد احتاج إلى تقييد النفس بمن علم أنها تؤمن وإن كان بمعنى ما صح لا يحتاج إليه ولذا ذكره من ذكره وتركه من تركه وفيه خفاء فتأمل وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الكفر كما في قوله تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: ١٢٥] بقرينة ما قبله، وأصله الشيء الفاسد المستقذر وعبر عنه بذلك لكونه علما في الفساد والاستقذار، وقيل: المراد به العذاب وعبر عنه بذلك لاشتراكهما في الاستكراه والتنفر، وإن إرادة الكفر منه باعتبار أنه نقل أولا عن المستقذر إلى العذاب للاشتراك فيما ذكر ثم أطلق على الكفر لأنه سببه فيكون مجازا في المرتبة الثانية، واختار الإمام التفسير الأول تحاشيا مما في إطلاق المستقذر على عذاب الله تعالى من الاستقذار وبعض الثاني لما أن كلمة عَلَى في قوله تعالى: عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع تأبى الأول. وتعقب بأن المعنى يقدره عليهم فلا إباء، ويفسر الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ بما يكون به تأسيسا كما سمعت في تفسيره، ومنه تعلم أن الفعل منزل منزلة اللازم أو له مفعول مقدر، وقد يفرق بين التفسيرين بأنهم على الأول لم يسلبوا قوة النظر لكنهم لم يوفقوا لذلك وعلى الثاني بخلافه والأمر الآتي ظاهر في الأول، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل: فيأذن لهم الإيمان ويجعل إلخ أو فيأذن لبعضهم بذلك ويجعل إلخ. وقرىء «الرجز» بالزاي وقرأ حماد ويحيى عن أبي بكر «ونجعل» بالنون قُلِ انْظُرُوا خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم أن يأمر الكفرة الذين هو عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم بالتفكر في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من عجائب الآيات الآفاقية والأنفسية ليتضح له صلّى الله عليه وسلم أنهم من الذين لا يعقلون وكأنه متعلق بما عنده، وتعليقه بقوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ إلخ على معنى لا تكره الناس على الإيمان ولكن اؤمرهم بما يتوصل به إليه عادة من النظر لا يخلو عن النظر، وقيل: إنه تعالى لما أفاد فيما تقدم
أن الإيمان بخلقه سبحانه وأنه لا يؤمن إلا من بعد إذنه وأن الذين حقت عليهم الكلمة لا يؤمنون أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأمر بالنظر لئلا يزهد فيه بعد تلك الإفادة، وأرى الأول أولى، وجاء ضم لام قل وكسرها وهما قراءتان سبعيتان، وقوله سبحانه: ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في محل نصب بإسقاط الخافض
لأن الفعل قبله معلق بالاستفهام لأن ما استفهامية وهي مبتدأ وذا بمعنى الذي والظرف صلته وهو خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون ماذا كله اسم استفهام مبتدأ والظرف خبره أي أي شيء بديع في السموات والأرض من عجائب صنعته تعالى الدالة على وحدته وكمال قدرته جل شأنه.
وجوز أن يكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي وهو في محل نصب بالفعل قبله، وضعفه السمين بأنه لا يخلو حينئذ من أن يكون النظر قلبيا كما هو الظاهر فيعدى بفي وأن يكون بصريا فيعدى بإلى. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي ما تكفيهم وما تنفعهم. وقرىء بالتذكير، والمراد بالآيات ما أشير إليه بقوله سبحانه:
ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ففيه إقامة الظاهر مقام المضمر وَالنُّذُرُ جمع نذير بمعنى أي الرسل المنذرون أو بمعنى إنذار إي الإنذارات، وجمع لإرادة الأنواع، وجوز أن يكون النُّذُرُ نفسه مصدرا بمعنى الإنذار، والمراد بهؤلاء القوم المطبوع على قلوبهم أي لا يؤمنون في علم الله تعالى وحكمه وما نافية والجملة اعتراضية، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير قُلِ وفي القلب من جعلها حالا من ضمير انْظُرُوا شيء فانظروا، ويتعين كونها اعتراضية إذا جعلت ما استفهامية إنكارية، وهي حينئذ في موضع النصب على المصدرية للفعل بعدها أو على أنه مفعول به له، والمفعول على هذا وكذا على احتمال النفي محذوف إن لم ينزل الفعل منزلة اللازم أي ما تغني شيئا فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ أي هؤلاء المأمورون بالنظر من مشركي مكة وأشرافهم إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا أي مثل وقائعهم ونزول بأس الله تعالى بهم إذ لا يستحقون غير ذلك، وجاء استعمال الأيام في الوقائع كقولهم: أيام العرب، وهو مجاز مشهور من التعبير بالزمان عما وقع فيه كما يقال: المغرب للصلاة الواقعة فيه، والمراد بالموصول المشركون من الأمم الماضية مِنْ قَبْلِهِمْ متعلق- بخلوا- جيء به للتأكيد والإيماء بأنهم سيخلون كما خلوا قُلْ تهديدا لهم فَانْتَظِرُوا ذلك إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ إياه فمتعلق الانتظار واحد بالذات وهو الظاهر وجوز أن يكون مختلفا بالذات متحدا بالجنس أي فانتظروا إهلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا بالتشديد، وعن الكسائي، ويعقوب بالتخفيف، وهو عطف على مقدر يدل عليه قوله سبحانه: مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى التهديد ومبالغة في تشديد الوعيد كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي المرسل إليهم وَالَّذِينَ آمَنُوا بهم، وعبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية لتهويل أمرها باستحضار صورها، وتأخير حكاية التنجية عن حكاية الإهلاك على عكس ما جاء في غير موضع ليتصل به قوله سبحانه: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي ننجيهم إنجاء كذلك الإنجاء الذي كان لمن قبلهم على أن الإشارة إلى الإنجاء، والجار المجرور متعلق بمقدر وقع صفة لمصدر محذوف. وجوز أن يكون الكاف في محل نصب بمعنى مثل سادة مسد المفعول المطلق. ويحتمل عند بعض أن يكون في موقع الحال من الإنجاء الذي تضمنه نُنَجِّي بتأويل نفعل الإنجاء حال كونه مثل ذلك الإنجاء وأن يكون في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، وحَقًّا نصب بفعله المقدر أي حق ذلك حقا، والجملة اعتراض بين العامل والمعمول على تقدير أن يكون كَذلِكَ معمولا للفعل المذكور بعد، وفائدتها الاهتمام بالإنجاء وبيان أنه كائن لا محالة وهو المراد بالحق، ويجوز أن يراد به الواجب، ومعنى كون الإنجاء واجبا أنه كالأمر الواجب عليه تعالى وإلا فلا وجوب حقيقة عليه سبحانه، وقد صرح بأن الجملة
اعتراضية غير واحد من المعربين ويستفاد منه أنه لا بأس (١) الجملة الاعتراضية إذا بقي شيء من متعلقاتها، وجوز أن يكون بدلا من الكاف التي هي بمعنى مثل أو من المحذوف الذي نابت عنه.
وقيل: إن كَذلِكَ منصوب- بننجي- الأول وحَقًّا منصوب بالثاني وهو خلاف الظاهر، والمراد بالمؤمنين إما الجنس المتناول للرسل عليهم السلام وأتباعهم فقط، وإما الأتباع فقط وإنما لم يذكر إنجاء الرسل إيذانا بعدم الحاجة إليه، وأيّا ما كان ففيه تنبيه على أن مدار الإنجاء هو الإيمان، وجيء بهذه الجملة تذييلا لما قبلها مقررا لمضمونه قُلْ لجميع من شك في دينك وكفر بك يا أَيُّهَا النَّاسُ أوثر الخطاب باسم الجنس مصدرا بحرف التنبيه تعميما للتبليغ وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الذي أعبد الله تعالى به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو ولا صفته حتى قلتم إنه صبأ.
فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في وقت من الأوقات وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب، وجعل هذه الجملة باعتبار مضمونها جوابا بتأويل الأخبار وإلا فلا ترتب لها على الشرط بحسب الظاهر، فالمعنى إن كنتم في شك من ذلك فأخبركم أنه تخصيص العبادة به تعالى ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلا، وقد كثر جعل الأخبار بمفهوم الجملة جزاء نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس، وعلى هذا الطراز قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣] فإن استقرار النعمة ليس سببا لحصولها من الله تعالى بل الأمر بالعكس، وإنما سبب للإخبار بحصولها منه تعالى كما قرره ابن الحاجب.
وقد يكون المعنى إن كنتم في شك من صحة ديني وسداد فأخبركم أن خلاصته العبادة لإله هذا شأنه دون ما تعبدونه مما هو بمعزل عن ذلك الشأن فاعرضوا ذلك على عقولكم وأجيلوا فيه أفكاركم وانظروا بعين الإنصاف لتعلموا صحته وحقيته، وذكر بعضهم أنه لا يحتاج على هذا إلى جعل المسبب الإخبار والإعلام بل يعتبر الجزاء الأمر بعرض ما ذكر على عقولهم والتفكر فيه، والأظهر اعتبار كون الأخبار جزاء كما في المعنى الأول، والتعبير عما هم عليه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب هو الشك في الصحة وأما القطع بعدمها فما لا سبيل إليه، وقيل: لا نسلم أنهم كانوا قاطعين بل كانوا في شك واضطراب عند رؤية المعجزات، وجيء- بأن- للإشارة إلا أنه مما لا ينبغي أن يكون لوجود ما يزيله.
وجوز أن يكون المعنى إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه أأثبت عليه أم أتركه وأوافقكم فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمري واقطعوا عني أطماعكم واعملوا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون: ١، ٢] ولا يخفى أن ما قبل أوفق بالمقام، وتقديم ترك عبادة غير الله تعالى على عبادته سبحانه لتقدم التخلية على التحلية كما في كلمة التوحيد والإيذان بالمخالفة من أول الأمر، وتخصيص التوفي من بين سائر صفات الأفعال بالذكر متعلقا بهم للتخويف فإنه لا شيء أشد عليهم من الموت، وقيل: المراد أعبد الله الذي خلقكم ثم يتوفاكم ثم يعيدكم وفيه إيماء إلى الحشر الذي ينكرونه وهو من أمهات أصول الدين ثم حذف الطرفان وأبقى الوسط ليدل عليهما فإنهما قد كثر اقترانهما به في القرآن وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي أوجب الله تعالى على ذلك فوجوب الإيمان بالله تعالى شرعي كسائر
الواجبات، وذكر المولى صدر الشريعة أن للشرعي معنيين ما يتوقف علي الشرع كوجوب الصلاة والصوم، وما ورد به الشرع ولا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان بالله سبحانه ووجوب تصديقه صلّى الله عليه وسلم فإنه لا يتوقف على الشرع فهو ليس بشرعي بالمعنى الأول، وذلك لأن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته وكلامه وعلى التصديق بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام بدلالة معجزاته فلو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور، ولقائل أن يمنع توقف الشرع على وجوب الإيمان ونحوه سواء أريد بالشرع خطاب الله تعالى أو شريعة النبي صلّى الله عليه وسلم وتوقف التصديق بثبوت شرع النبي صلّى الله عليه وسلم على الإيمان بالله تعالى وصفاته وعلى التصديق بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلم ودلالة معجزاته لا يقتضي توقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا على العلم بوجوبهما غايته أنه يتوقف على نفس الإيمان والتصديق وهو غير مفيد لتوقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا مناف لتوقف وجوب الإيمان ونحوه على الشرع كما هو المذهب عندهم من أن لا وجوب إلا بالسمع، وقول الزمخشري هنا: إنه عليه الصلاة والسلام أمر بالعقل والوحي لا يخلو عن نزغة اعتزالية كما هو دأبه في كثير من المواضع، ومن قال من المفسرين منا: إنه وجب على ذلك بالعقل والسمع أراد بالعقل التابع لما سمع بالشرع فلا تبعية، والكلام على حذف الجار أي أمرت بأن أكون، وحذفه من أن وأن مطرد وإن وقع النظر عن ذلك فالحذف بعد أمر مسموع عن العرب كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به | فقد تركتك ذا مال وذا نشب |
وإقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى والإعراض عمن سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا إذ لو التفت بطلت المقابلة، والظاهر أن الوجه على هذا ظاهره ويجوز أن يراد به الذات، والمراد اصرف ذاتك وكليتك للدين واجتهد بأداء الفرائض والانتهاء صفحة رقم 185
عن القبائح، فاللام صلة أَقِمْ وقيل: الوجه على ظاهره وإقامته توجيهه للقبلة أي استقبل القبلة ولا تلتفت إلى اليمين أو الشمال، فاللام للتعليل وليس بذاك، ومثله القول بأن ذلك كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الباطلة، وهو حال إما من الوجه أو من الدين، وعلى الأول تكون حالا مؤكدة لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل، وعلى الثاني قيل تكون حالا منتقلة وفيه نظر، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في أَقِمْ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف على أَقِمْ داخل تحت الأمر وفيه تأكيد له أي لا تكونن منهم اعتقادا ولا عملا وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ استقلالا ولا اشتراكا ما لا يَنْفَعُكَ بنفسه إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب وَلا يَضُرُّكَ إذا تركته بسلب المحبوب دفعا أو رفعا أو بإيقاع المكروه، والجملة قيل معطوفة على جملة النهي قبلها، واختار بعض المحققين عطفها على قوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ فهي غير داخلة تحت الأمر لأن ما بعدها من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض ولا وجه لإدراج الكل تحت الأمر. وأنت تعلم أنه لو قدر فعل الإيحاء في وَأَنْ أَقِمْ كما فعل أبو حيان وصاحب الفرائد لا مانع من العطف كما هو الظاهر على جملة النهي المعطوفة على الجملة الأولى وإدراج جميع المتسقات تحت الإيحاء، وقد يرجح ذلك التقدير بأنه لا يحتاج معه إلى ارتكاب خلاف الظاهر من العطف على البعيد، وقيل: لا حاجة إلى تقدير الإيحاء والعطف كما قيل والأمر السابق بمعنى الوحي كأنه قيل: وأوحى إلي أن أكون إلخ والاندراج حينئذ مما لا بأس به وهو كما ترى ولا أظنك تقبله فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ أي معدودا في عدادهم، والفعل كناية عن الدعاء كأنه قيل: فإن دعوت ما لا ينفع ولا يضر، وكني عن ذلك على ما قيل تنويها لشأنه عليه الصلاة والسلام وتنبيها على رفعة مكانه صلّى الله عليه وسلم من أن ينسب إليه عبادة غير الله تعالى ولو في ضمن الجملة الشرطية.
والكلام في فائدة نحو النهي المذكور قد مر آنفا، وجواب الشرط على ما في النهي جملة فَإِنَّكَ وخبرها أعني مِنَ الظَّالِمِينَ وتوسطت إِذاً بين الاسم والخبر مع أن رتبتها بعد الخبر رعاية للفاصلة. وفي الكشاف أن إِذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان فجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] وهذه عبارة النحويين، وفسرت كما قال الشهاب: بأن المراد أنها تلد على أن ما بعدها مسبب عن شرط محقق أو مقدر وجواب عن كلام محقق أو مقدر. وقد ذكر الجلال السيوطي عليه الرحمة في جمع الجوامع- بعد أن بين أن- إذا- الظرفية قد يحذف جزء الجملة التي أضيفت هي إليها أو كلها فيعوض عنه التنوين وتكسر للساكنين لا للإعراب خلافا للأخفش وقد تفتح- إن شيخه الكافيجي ألحق بها إذن، ثم قال في شرحه همع الهوامع: وقد أشرت بقولي: وألحق شيخنا بها في ذلك إذن إلى مسألة غريبة قل من تعرض لها وذلك أني سمعت شيخنا عليه الرحمة يقول في قوله تعالى: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [المؤمنون: ٣٤] ليست إذن هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي يضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ وكنت أستحسن هذا جدا وأظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك حتى رأيت بعض المتأخرين جنح إلى ما جنح إليه الشيخ، وقد أوسعت الكلام في ذلك في حاشية المغني انتهى.
وأنت تعلم أن الآية التي ذكرها كالآية التي نحن فيها وما ذكره مما يميل إليه القلب ولا أرى فيه بأسا ولعله أولى مما قاله صاحب الكشاف ومتبعوه فليحمل ما في الآية عليه، وكان كثيرا ما يخطر لي ذلك إلا أني لم أكد أقدم على إثباته حتى رأيته لغيري ممن لا ينكر فضله فأثبته حامدا لله تعالى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ تقرير لما أورد في حيز الصلة من سلب النفع من المعبودات الباطلة وتصوير لاختصاصه به سبحانه أي وإن يصبك بسوء ما فَلا كاشِفَ لَهُ
عنك كائنا من كان وما كان إِلَّا هُوَ وحده فثبت عدم كشف الأصنام بالطريق البرهاني، وهو بيان لعدم النفع برفع المكروه المستلزم لعدم النفع بجلب المحبوب استلزاما ظاهرا، فإن رفع المكروه أدنى مراتب النفع فإذا انتفى انتفى النفع بالكلية وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ تحقيق لسلب الضرر الوارد في حيز الصلة أي إن يرد أن يصيبك بخير فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ الذي من جملته ما أرادك به من الخير، فهو دليل على جواب الشرط لا نفس الجواب، وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل والكرم من غير استحقاق عليه سبحانه أي لا أحد يقدر على رده كائنا من كان فيدخل فيه الأصنام دخولا أوليا، وهو بيان لعدم ضرها بدفع المحبوب قبل وقوعه المستلزم لعدم ضرها برفعه أو بإيقاع المكروه استلزاما جليا ولعل ذكره الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين لأن ما يريده سبحانه يصيب وما يصيب لا يكون إلا بإرادته تعالى للإيذان بأن الخير مقصود لله تعالى بالذات والضر إنما يقع جزاء على الأعمال وليس مقصودا بالذات، ويحتمل أنه أريد معنى الفعلين في كل من الخير والضر لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب إلا أنه قصد الإيجاز في الكلام فذكر في أحدهما المس وفي الآخر الإرادة ليدل بما ذكر في كل جانب على ما ترك في الجانب الآخر، ففي الآية نوع من البديع يسمى احتباكا وقد تقدم في غير آية، ولم يستثن سبحانه في جانب الخير إظهارا لكمال العناية به وينبىء عن ذلك قوله تعالى: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ حيث صرح جل شأنه بالإصابة بالفضل المنتظم لما أراد من الخير، وقيل: إنما لم يستثن جل وعلا في ذلك لأنه قد فرض فيه أن تعلق الخير به واقع بإرادته تعالى وصحة الاستثناء تكون بإرادة ضده في ذلك الوقت وهو محال، وهذا بخلاف مس الضر فإن إرادة كشفه لا تستلزم المحال وهو تعلق الإرادتين بالضدين في وقت واحد، وفي العدول عن يرد بك الخير إلى ما في النظم الجليل إيماء كما قيل إلى أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله، وما أشرنا إليه من رجوع ضمير بِهِ إلى الفضل هو الظاهر المناسب، وجوز رجوعه لما ذكر وليس بذاك، وحمل الفضل على العموم أولا وآخرا حسبما علمت هو الذي ذهب إليه بعض المحققين رادا على من جعله عبارة عن ذلك الخير بعينه على أن يكون الإتيان به أولا ظاهرا من باب وضع المظهر موضع المضمر إظهارا لما ذكره من الفائدة بأن قوله سبحانه: مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يأبى ذلك لأنه ينادي بالعموم، ويجوز عندي أن يكون الكلام من باب- عندي درهم ونصف، وقوله سبحانه: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تذييل لقوله تعالى: يُصِيبُ بِهِ إلخ مقرر لمضمونه والكل تذييل للشرطية الأخيرة مقرر لمضمونها. وذكر الإمام في هذه الآيات أن قوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان لأن ذلك مذكور في قوله سبحانه أول الآية: فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فلا بد من حمل هذا الكلام على ما فيه فائدة زائدة وهي أن من عرف مولاه لو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا وهو الذي يسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي، ويجعل قوله سبحانه: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ إشارة إلى مقام هو آخر درجات العارفين لأن ما سوى الحق ممكن لذاته موجود بإيجاده والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق وحينئذ فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا هو وكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك فلا رجوع إلا إليه عز شأنه في الدارين.
ومعنى فَإِنْ فَعَلْتَ إلخ فإن اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله تعالى فأنت من الظالمين أي الواضعين للشيء في غير موضعه إذا ما سوى الله تعالى معزول عن التصرف فإضافة التصرف إليه وضع للشيء في غير موضعه وهو الظلم، وطلب الانتفاع بالأشياء التي خلقها الله تعالى للانتفاع بها من الطعام والشراب ونحوهما لا ينافي الرجوع بالكلية إلى الله تعالى بشرط أن يكون بصر العقل عند التوجه إلى شيء من ذلك مشاهدا لقدرة الله تعالى
وجوده وإحسانه في إيجاد تلك الموجودات وإيداع تلك المنافع فيها مع الجزم بأنها في أنفسها وذواتها معدومة وهالكة ولا وجود لها ولا بقاء ولا تأثير إلا بإيجاد الله تعالى وإبقائه وإفاضة ما فيها من الخواص عليها بجوده وإحسانه، وقوله تبارك وتعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ إلخ تقرير لأن جميع الممكنات مستندة إليه سبحانه وتعالى وأنه لا معول إلا عليه عز شأنه، وهو كلام حسن بيد أن زعمه أن قوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان إلخ لا يخفى ما فيه. وقد ذكر نحو هذا الكلام في الآيات ساداتنا الصوفية، ففي أسرار القرآن أنه سبحانه خوف نبيه صلّى الله عليه وسلم من الالتفات إلى غيره في إقباله عليه سبحانه بقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي من الطالبين غيري والمؤثرين على جمال مشاهدتي ما لا يليق من الحدثان، وقد ذكروا أن إقامة الملة الحنيفية بتصحيح المعرفة وهو لا يكون إلا بترك النظر إلى ما سوى الحق جل جلاله، ثم إنه تعالى زاد تأكيدا للإقبال عليه والإعراض عما سواه بقوله جل شأنه: وَلا تَدْعُ إلخ حيث أشار فيه إلى أن من طلب النفع أو الضر من غيره تعالى فهو ظالم أي واضع للربوبية في غير موضعها. ومن هنا قال شقيق البلخي: الظالم من طلب نفعه ممن لا يملك نفع نفسه واستدفع الضر ممن لا يملك الدفاع عن نفسه ومن عجز ذلك إقامة نفسه كيف يقيم غيره، وقرر ذلك بقوله تعالى: وإن يمسسك إلخ.
ومن ذلك قال ابن عطاء: إنه تعالى قطع على عباده الرهبة والرغبة إلا منه وإليه بإعلامه أنه الضار النافع وقد يكون الضر إشارة إلى الحجاب والخير إشارة إلى كشف الجمال أي إن يمسسك الله بضر الحجاب فلا كاشف لضرك إلا هو بظهور أنوار وصاله وإن يردك بكشف جماله فلا راد لفضل وصاله من سبب وعلة فإن المختص في الأزل بالوصال لا يحتجب بشيء من الأشياء لأنه في الفضل السابق مصون من جريان القهر هذا ولعله مغن عن الكلام من باب الإشارة في الآيات حسبما هو العادة في الكتاب قُلْ يا أيها الرسول مخاطبا لأولئك الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحي إليك أو للمكلفين مطلقا كما قال الطبرسي يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن العظيم الظاهر الدلالة المشتمل على محاسن الأحكام التي من جملتها ما مر آنفا من أصول الدين واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبق لكم عذر، وقيل: المراد من الحق النبي صلّى الله عليه وسلم وفيه من المبالغة ما لا يخفى. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن الْحَقُّ هو ما دل عليه قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ إلخ وهو كما ترى فَمَنِ اهْتَدى بالإيمان والمتابعة فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي منفعة اهتدائه لها وَمَنْ ضَلَّ بالكفر والإعراض فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي فوبال ضلاله عليها، وقيل: والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه الصلاة والسلام من جلب نفع ودفع ضر، ويلوح إليه إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته صلّى الله عليه وسلم وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير، وفي الآية إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام لا يجبرهم على الإيمان ولا يكرههم عليه وإنما عليه البلاغ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف وَاتَّبِعْ في جميع شؤونك من الاعتقاد والعمل والتبليغ ما يُوحى إِلَيْكَ على نهج التجدد والاستمرار، والتعبير عن بلوغ الحق المفسر بالقرآن إليهم بالمجيء وإليه صلّى الله عليه وسلم بالوحي تنبيه على ما بين المرتبتين من التنافي، وإذا أريد من الحق ما قيل فالأمر ظاهر جدا وَاصْبِرْ على ما يعتريك من مشاق التبليغ وأذى من ضل حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بالنصرة عليه أو بالأمر بالقتال وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر، وغيره جل شأنه من الحاكمين إنما يطلع على الظواهر فيقع الخطأ في حكمه، ولا يخفى ما في هذه الآيات من الموعظة الحسنة وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلم ووعد المؤمنين والوعيد للكافرين والحمد لله تعالى رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي يؤنس ذكره قلوب الموحدين وعلى آله وصحبه أجمعين.
سورة هود
كما أخرج ذلك ابن النحاس في تاريخه، وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولم يستثنيا منها شيئا وإلى ذلك ذهب الجمهور، واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات فَلَعَلَّكَ تارِكٌ [هود: ١٢]. أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [هود: ١٧].
أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: ١١٤] وروي استثناء الثالثة عن قتادة، قال الجلال السيوطي: ودليله ما صح من عدة طرق أنها نزلت بالمدينة في حق أبي اليسر، وهي كما قال الداني في كتاب العدد مائة وإحدى وعشرون آية في المدني الأخير واثنتان في المدني الأول وثلاث في الكوفي، ووجه اتصالها بسورة يونس عليه السلام أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه السلام مختصرة جدا محملة فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور ولا سورة الأعراف على طولها ولا سورة إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نوح: ١] التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة وبسطا له ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك فإن قوله تعالى هنا: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: ١] نظير قوله سبحانه هناك: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يونس: ١] بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط أيضا حيث ختمت بنفي الشرك واتباع الوحي وافتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك، وورد في فضلها ما ورد،
فقد أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن كعب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اقرؤوا هودا يوم الجمعة».
وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: «قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله قد شبت قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت».
وأخرج ابن عساكر من طريق يزيد الرقاشي عن أنس عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: «يا رسول الله أسرع إليك الشيب قال: أجل شيبتني سورة هود وأخواتها الواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل».
وقد جاء في بعض الروايات أيضا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له عليه الصلاة والسلام: أسرع إليك الشيب يا رسول الله فأجابه بنحو ما ذكر إلا أنه ذكر من الأخوات الواقعة، وعم، وإذا الشمس كورت،
وفي رواية أخرى عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله لقد شبت فقال: شيبتني هود والواقعة
إلى آخر ما في خبر عمر، وفي بعضها الاقتصار على
«شيبتني هود وأخواتها»،
وفي بعض آخر بزيادة
«وما فعل بالأمم من قبلي» وقد أخرج ذلك ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما مرفوعا.
وأخرج ابن مردويه وغيره عن عمران بن حصين «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له أصحابه: أسرع إليك الشيب فقال: