تفسير سورة الفاتحة

التفسير الشامل

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب التفسير الشامل
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
وهي قوله : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والاستعاذة بمعنى الالتجاء والاستجارة، استعاذ به، أي لجأ إليه، وهو عياذه، أي ملجأه، ومعاذ الله، أعوذ بالله. ١
والشيطان من شطن، أي بعد عن الخير، وسمي الشيطان بذلك، لعتوه وتمرده وبعده عن الحق والخير، وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان. ٢
والرجيم، من الرجم وهو القتل واللعن والطرد والإبعاد من الخير، وأصله الرجم بالحجارة فهو رجيم ومرجوم. ٣
على أن الاستعاذة مأمور بها عند أول كل قراءة من القرآن الكريم، لقوله تعالى :" فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " وهذا الأمر إنما يفيد الندب لا الوجوب وهو قول الجمهور. وثمة قول بأنه للوجوب. والصواب قول الجمهور وهو الندب، أما التعوذ في الصلاة فهو مندوب في الركعة الأولى منها، وقيل بوجوبها في كل ركعة استنادا إلى عموم قوله : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " وأجمعوا على أن التعوذ ليس من القرآن ولا هو آية منه.
وفي فضل التعوذ روى أبو داود عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل قال :« يا أرض ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، ومن شر ما خلق فيك، ومن شر ما يدب عليك، ومن أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكني البلد، ووالد وما ولد  ».
وأخرج الموطأ ومسلم والترمذي عن خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من نزل منزلا ثم قال :« أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل  ».
تفسير سورة الفاتحة
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية، وهي سورة عظيمة القدر والشأن، فهي أم الكتاب وفاتحته، لما يتجلى فيها من كبير المعاني وأصول العقيدة، ولما تتسم به من جلال التعبير الذي يفيض بروعة الكلم وتشيع منه العذوبة وتمام الانسجام، لا جرم أن سورة الفاتحة نموذج الإعجاز الباهر في الكتاب الحكيم كله، وهي لفضلها وبالغ قدسيتها وعجيب إيقاعها وفخامة مضمونها ومعناها كانت طليعة الكتاب العزيز، وفي فضلها الكريم الطاهر روى الترمذي عن أبي كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« ما أنزل الله في التوراة ولا الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل  ».
أما أسماء الفاتحة فهي كثيرة منها : أولا : الصلاة، قال الله في الحديث القدسي :« قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد ( الحمد لله رب العالمين( قال الله تعالى : حمدني عبدي وإذا قال العبد :( الرحمن الرحيم( قال الله تعالى : أثنى علي عبدي، وإذا قال العبد :( إياك نعبد وإياك نستعين( قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين( قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل  » رواه مسلم عن أبي هريرة، وقوله سبحانه :« قسمت الصلاة  » يريد الفاتحة، وسماها صلاة، لأن الصلاة لا تصح إلا بها.
ثانيا : الحمد : لأن فيها ذكر الحمد.
ثالثا : فاتحة الكتاب، من غير خلاف في ذلك، وسميت بهذا الاسم، لأن قراءة القرآن تفتح بها لفظا وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا وبها تفتح القراءة في الصلوات.
رابعا : أم الكتاب، وهذا الاسم عند الجمهور وكرهه ابن سيرين والحسن البصري إذ قالا : الآيات المحكمات هن أم الكتاب، والصحيح قول الجمهور، لما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب، والسبع المثاني والقرآن العظيم  ».
خامسا : أم القرآن، ودليله الخبر المبين آنفا.
سادسا : السبع المثاني، سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة، وقبل غير ذلك.
سابعا : الشفاء، لما رواه الدرامي عن أبي سعيد مرفوعا :« فاتحة الكتاب شفاء من كل سم  »
ثامنا : الرقية، وجمعها الرقى استرقاه فرقاه، يرقيه رقية فهو راقي. ٤
تاسعا : الواقية، لأنها لا تحتمل الاختزال فلا تتصف، فلو نصفت الفاتحة في ركعتين لما جاز ذلك، لكن لو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ونصفها الآخر في ركعة أخرى جاز.
عاشرا : الكافية، لأنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها. ٥
١ مختار الصحاح للرازي ص ٤٦١..
٢ مختار الصحاح ص ٢٣٦..
٣ مختار الصحاح ص ٣٣٨..
٤ مختار الصحاح ص ٢٥٤..
٥ تفسير القرطبي جـ ١ ص ٩٨ وتفسير البحر المحيط جـ ١ ص ٣٢ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٨..
البسملة
وهي قوله : بسم الله الرحمن الرحيم، وقيل في تأويلها : إن بسم الله الرحمن الرحيم قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة يقسم لعباده : إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أوفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. ١
وهل البسملة آية من القرآن ؟ ثمة أقوال في هذه المسألة :
القول الأول : ليست البسملة بآية من الفاتحة ولا غيرها، وهو قول الإمام مالك واحتج لذلك بأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد، وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا خلاف فيه، قال ابن العربي في ذلك : يكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه الناس.
القول الثاني : إنها آية من كل سورة، وهو قول عبد الله بن المبارك وقد شذ في ذلك.
القول الثالث : وهو للشافعي، إذ قال هي آية في الفاتحة وحدها، وفي قول ثان له أنها آية من كل سورة.
القول الرابع : إن البسملة آية من سورة النمل، وهذا ما لا خلاف فيه.
أما قراءتها في الصلاة فثمة خلاف في ذلك، فقد قيل بوجوب قراءتها في صلاة الفرض والنفل وهو قول الشافعية والحنابلة وغيرهم، وذهب آخرون إلى الإسرار بها مع الفاتحة وهو قول الحنفية، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير.
وقال به أحمد بن حنبل، واحتجوا من الأثر بما روي عن أنس قال :« صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر، فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم  ».
وذهبت المالكية إلى أن البسملة ليست آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها لا سرا ولا جهرا، ويجوز أن يقرأها في النوافل.
قوله :« بسم الله » الباء زائدة ومعناها الإلصاق، ٢ تكتب بسم بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط، وذلك لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله ( اقرأ بسم ربك الذي خلق ( فإنها لم تحذف لقلة الاستعمال، وبسم الله يعني بالله : أي بخلقه وتقديره نصل إلى ما نصل إليه، وقيل :« بسم الله » يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته.
واللفظ « الله » هو أكبر أسماء الله تعالى، وهو لا ثني ولا يجمع، والله اسم للموجود القديم الحق الذي جمع صفات الإلهية والربوبية.
أما الرحمن، فقيل : إن هذا الاسم غير مشتق، لأنه من الأسماء المختصة بالله سبحانه، ولو كان مشتقا لعرفته العرب، ولم ينكروه حين سمعوه قالوا ( وما الرحمن( وقيل : الرحمن مشتق من الرحمة مبني على المبالغة ومعناه : ذو الرحمة الذي ليس له فيها نظير، ولذلك لا يثنى ولا يجمع مثلما يثنى الرجيم ويجمع، والراجح اشتقاقه، لما خرجه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، وهذا نص يدل على الاشتقاق.
على أن الرحمن مختص بالله جلاله، ولا يجوز أن يسمى به أحد غير الله، ويدل على ذلك قوله :
( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن( فعادل اسم الرحمن اسم الله الذي لا يتسمى به أحد غيره. ٣
١ تفسير القرطبي جـ ١ ص ٧٥-٨٠ وتفسير البيضاوي ص ٢ و ٣..
٢ البيان لابن الأنياري جـ ١ ص ٣١..
٣ تفسير القرطبي جـ ١ ص ٨١-٩٠ وتفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي جـ ١ ص ١٤-١٧ وتفسير البيضاوي ص ٣، ٤..
قوله :( الحمد لله ( مبتدأ وخبر، الحمد هو الثناء الكامل على الجميل من نعمة أو معروف أو غير ذلك، والآلف واللام لاستغراق الجنس من كل المحامد، فالله جل جلاله يستحق الحمد أو الثناء جميعه، فقد أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه وافتتح كتابه الحكيم بحمده وذلك بقوله :( لحمد لله رب العالمين( أي أن الله سابق في الثناء على نفسه من نفسه قبل أن يحمده أحد من العالمين، ( رب العالمين ( أي مالكهم، وكل مملوك مربوب، أي مملوك لله، فالله رب كل شيء أي مالكه، فالرب يعني المالك وهو الرب اسم من أسماء الله تعالى ولا يقال في غيره إلا بالإضافة. ١ كقوله ( اذكرني عند ربك( والمراد بالعالمين، جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى ولا واجد له من لفظه مثل : رهط وقوم، وقال ابن عباس : العالمون الجن والإنس، لقوله تعالى :
( ليكون للعالمين نذيرا( ولم يكن النبيء نذيرا للبهائم.
١ مختار الصحاح ص ٢٢٨..
وقوله :( الرحمن الرحيم( صفتان لله تحملان الثناء والتعظيم لله رب العالمين.
والله عز وعلا موصوف بالرحمة البالغة بالخلق، وقد تقدم الكلام عن معنى الرحمة.
ذلك أن الله عظيم الرحمة بالعباد على الكيفية التي ليس لها في درجات الرحمة نظير، وكذلك الرحيم صفة لله أخرى، وكلتا الصفتين تنبضان بكامل الرحمة، إذ تفيض على الوجود من خالق الوجود، فما يكون من شيء في الأرض أو في السماء إلا جاء في خلقه وطبيعته من خالق الوجود، فما يكون من شيء في الأرض أو في السماء إلا جاء في خلقه وطبيعته مكتملا، موزونا، لا يخالطه عوج، ولا يمسه في وجوده من الله ظلم، وفوق ذلك كله فإن رحائم الله بالعباد لا تحصى، بل إنها تتجاوز في كثرتها وعظمتها كل حسبان، وفي طليعة المعاني الكريمة من رحمة الله سبحانه وتعالى غفار للذنوب، يتجاوز عن معاصي الخلق مهما كثرت وعظمت، والإنسان من جهته كثير الزلات والمساءات، مستديم العدوان على حدود الله، ولا يبرح المعاصي والأخطاء، لضعفه ولفرط انشداده للشهوات ونفسه الأمارة بالسوء، لكن الله عز وعلا غفار لكل ما يفارقه الإنسان في حياته من الآثام إن استغفر وأناب أو ندم وتاب ما اجتنبت الخطيئة الكبرى وهي الإشراك بالله.
قوله :( ملك يوم الدين( يوم الدين أي يوم القيامة حيث الحساب والعقاب، والدين يعني الجزاء، دانه يدينه أي جازاه، ومنه، كما تدين تدان. ١
ويوم القيامة وغيره من مضامين هذا الوجود الهائل مملوك لله الخالق، فالله عز وعلا مالك الدنيا والآخرة ومالك الحياة والحياء والعالمين، بل إنه مالك كل شيء.
وتخصيص يوم الدين بالإضافة يحتمل وجهين : أحدهما : تعظيم هذا اليوم المشهود الذي يناقش فيه العباد الحساب، ويوم القيامة عصيب وحافل بالقوارع والأحداث الفوادح، لا جرم أن داهية القيامة أمر داهم ومزلزل لا يتصور مداه ذهن أو خيال لهول ما فيه من نوازل وبلايا.
ثانيهما : تعظيم الله سبحانه، فهو الذي يملك هذا اليوم العصيب وما فيه من أمور وأحداث ومخاليق، هذا اليوم الذي تنحبس فيه الأنفاس فرقا ورعبا، وتنحشر فيه الأصوات في الصدور فلا يسمع منها إلا ما كان همسا، وتغشى العالمين إذ ذاك غواش من الصمت الواجم والتربص الحسير، وحينئذ يقف العالمون بين يدي الله ضعافا ذاخرين حيارى، فالله بذلك حقيق بالحمد والعبادة والخضوع له من الخلائق والعالمين.
١ المصباح المنير جـ ١ ص ٢٢٠..
قوله :( إياك نعبد وإياك نستعين ( إياك مفعول نعبد، وقد قدم المفعول على الفعل اهتماما، والعرب تقدم في الكلام الأهم، أي لا نعبد إلا إياك، ونعبد يعني نطيع، من العبادة أي الطاعة والتذلل، والخضوع والامتثال لأوامر الله.
قوله :( وإياك نستعين( الاستعانة تعني طلب المعونة والتوفيق في كل الأقوال والأعمال، لا جرم أن الله خير معين لمن يستعينه وخير مجير لمن يستجير به.
وهو وحده حقيق بالرجاء والتضرع إليه داعين متوسلين عسى أن يكتب الخير والعون في الدين والدنيا وأن يدفع الشر والبلايا في الدنيا والآخرة.
قوله :( اهدنا الصراط المستقيم( اهدنا يتعدى إلى مفعولين وهما : الضمير « نا  » والصراط، واهدنا من الهدى والهداية وهي الرشاد والدلالة، ١ والصراط : معناه الطريق، والمراد بالصراط المستقيم هنا : طريق الحق وهو الإسلام، وهذا دعاء إخلاص وإنابة يناجي به المربوب ربه أن يرشده ويدله إلى دينه الحق، الاسم.
١ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٤٠٥..
قوله :( صراط الذين أنعمت عليهم( صراط بدل من الصراط الأول١ والمراد بالمنعم عليهم : النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وهو قول أكثر المفسرين، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى :( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا( وأنعمت من الإنعام وهو إيصال النعمة وهي في الأصل الحالة التي يستطيبها الإنسان ويستلذها، ونعمة الله وجوهها وضروبها كثيرة لتشمل أوجه الخير واللين والراحة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا : فنعم الله على الإنسان عظيمة ومستفيضة، فمنها : قوة العقل وما يتفرع عن ذلك من فطانة وبراعة وذكاء وإدراك.
ومنها : قوة الجسم بما حواه من حواس البصر والسمع والشم والغرائز، وما يستلزمه ذلك من أوجه الاستمتاع بالطيبات الدنيا.
ومنها سلامة الفطرة من كل ظواهر المرض والشذوذ ليأتي الطبع بذلك سويا مستقيما خاليا من المعضلات النفسية والعصبية والسلوكية، وفي هذه الحالة من سلامة الفطرة واستواء النفس والبدن لسوف يجد الإنسان في حياته كامل الراحة والاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا.
وأما في الآخرة فإن النعمة فيها لهي كبرى النعم وهي الفوز الأكمل الذي يحظى به الفائزون في يوم الحساب العصيب، لا جرم أن نعمة الله بالفوز بجنته ورضاه لهي خير النعم، وهذا ما يرتجيه المؤمنون المخلصون الحريصون لينجوا من عذاب الله يومئذ ويحظون بثوابه وجزائه.
قوله :( غير المغضوب عليهم ولا الضالين( غير مجرور على البدل من الضمير في قوله :( عليهم( وقيل : مجرور على البدل من الذين، وقيل : مجرور على الوصف للذين، وهو قول الجمهور.
وقيل :( غير( منصوب على الحال، أو بتقدير أعني، أو على الاستثناء المنقطع، ٢ ( ولا الضالين( لا، زائدة للتوكيد، وقيل : بمعنى غير، ٣ والغضب معناه في اللغة الشدة، والمراد به هنا في صفة الله العقوبة للمذنبين الخاطئين، والمراد بالمغضوب عليهم : الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق والصواب وعدلوا عنهما فاستحقوا بذلك الغضب من الله.
والمراد بالضالين : الهائمون في الضلالة، الشاردون عن دين الله الحق ليسدروا في العمى والتيه.
وجملة القول في الصنفين : أنهم الذين فسدت طبائعهم وضلت أذهانهم عن طريق الله المستقيم فسدروا تائهين جامحين، وانقلبوا خاسرين منتكسين، وقيل : المراد بالمغضوب عليهم : المشركون، والمراد بالضالين، المنافقون، وقيل ( المغضوب عليهم( : اليهود، و ( الضالين( : النصارى، وهو قول الجمهور. ٤
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٩..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤١..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤١..
٤ تفسير القرطبي جـ ١ ص ١٤٥، وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٦-٣١ وتفسير البيضاوي ص ٤-٥..
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).