تفسير سورة الفاتحة

التفسير القيم

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب التفسير القيم
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ
اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن.
فاشتملت على التعريف بالمعبود - تبارك وتعالى - بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها، وهي :«الله، والرب، الرحمن »، وبنيت السورة على «الإلهية »، و«الربوبية »، و«الرحمة ».
ف﴿ إياك نعبد ﴾ : مبني على الإلهية. و﴿ إياك نستعين ﴾ : على الربوبية. و«طلب الهداية إلى الصراط المستقيم » : بصفة الرحمة.
و«الحمد » : يتضمن الأمور الثلاثة. فهو المحمود – سبحانه وتعالى - في إلهيته، وربوبيته، ورحمته. والثناء والمجد كمالان لجده.
وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم - حسنها وسيئها - وتفرُّدَ الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل. وكل هذا تحت قوله ﴿ مالك يوم الدين ﴾.
[ إثبات النبوات في الفاتحة ]
وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة :
أحدها :( كونه ﴿ رب العالمين ﴾ ) :
فلا يليق به – سبحانه - أن يترك عباده سُدًى هَمَلًا لا يُعرِّفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما، فهذا هَضْم للربوبية، ونسبة «الرب » تعالى إلى ما لا يليق به. وما قَدَره حق قدره من نسبه إليه.
الثاني :( أخذها من اسم «الله » )
وهو : المألوه المعبود. ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله.
الموضع الثالث :( من اسمه «الرحمن » )
فإن رحمته تمنع إهمال عباده، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم. فمن أعطى اسم «الرحمن » حقه عَرَف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب، أعظمَ من تضمنه إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحب. فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكنِ المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب. وأدرك منه أولو الألباب أمرا وراء ذلك.
الموضع الرابع :( من ذكر «يوم الدين » )
فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم، فيثيبهم على الخيرات ؛ ويعاقبهم على المعاصي والسيئات. وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه. والحجة إنما قامت برسله وكتبه. وبهم استحق الثواب والعقاب. وبهم قام سوق يوم الدين. وسيق الأبرار إلى النعيم. والفجار إلى الجحيم.
الموضع الخامس :( من قوله «إياك نعبد » )
فإن ما يُعبد به الرب تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه. وعبادته ( وهي شكره وحبه وخشيته ) فطري ومعقول للعقول السليمة - لكن طريق التعبد وما يُعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله وبيانهم - وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول. يستحيل تعطيل العالم عنه، كما يستحيل تعطيله عن الصانع. فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل، ولم يؤمن به. ولهذا جعل الله سبحانه الكفر برسله كفرا به.
الموضع السادس :( من قوله «اهدنا الصراط المستقيم » )
فالهداية : هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام - وهو بعد البيان والدلالة - ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل. فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق، وجعلُ الإيمان في القلب، وتحبيبه إليه، وتزيينه في القلب، وجعله مؤثرا له، راضيا به، راغبا فيه.
[ مراتب الهداية ]
وهما هدايتان مستقلتان، لا يحصل الفلاح إلا بهما. وهما متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق تفصيلا وإجمالا. وإلهامنا له، وجعلنا مريدين لاتباعه ظاهرا وباطنا. ثم خَلْقُ القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم. ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.
ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من يقول : إذا كنا مهتدين، فكيف نسأل الهداية ؟ فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم. وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده، أو أكثر منه أو دونه. وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك. وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله، فأمر يفوت الحصر. ونحن محتاجون إلى الهداية التامة. فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.
وللهداية مرتبة أخرى - وهي آخر مراتبها - : وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة وهو الصراط الموصل إليها. فمن هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودار ثوابه.
وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قَدَمه على الصراط المنصوب على مَتْن جهنم. وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط. فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطَّّرْف ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشَدِّ الركاب، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يحبو حَبْوًا، ومنهم المخدوش المسلَّم، ومنهم المكردَس في النار. فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا، حذو القُذَّة بالقذة، جزاء وفاقا ﴿ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾ [ النحل : ٩٠ ].
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم ؛ فإنها الكلاليب التي بجَنبتي ذاك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه. فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك. ﴿ وما ربك بظلام للعبيد ﴾ [ فصلت : ٤٦ ].
فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير، والسلامة من كل شر.
الموضع السابع :( من معرفة نفس المسئول - وهو الصراط المستقيم ).
ولا تكون الطريق «صراطا » حتى تتضمن خمسة أمور :
الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعيُّنه طريقًا للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة :
فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه ؛ لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين. وكلما تَعوَّجَ طال وبعد. واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود. ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سَعَته. وإضافته إلى المنعم عليهم، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال، يستلزم تَعَيُّنَه طريقًا.
و«الصراط » تارة يضاف إلى الله، إذ هو الذي شرعه ونصبه، كقوله تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ]، وقوله :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله ﴾ [ الشورى : ٢٥. ٥٣ ].
وتارة يضاف إلى العباد - كما في الفاتحة - لكونهم أهل سلوكه. وهو المنسوب لهم. وهم المارون عليه.
[ العالم بالحق ولا يعمل به ويتبع هواه : مغضوب عليه ]
الموضع الثامن :( من ذكر المنعَم عليهم )
وتمييزهم عن طائفتي «الغضب » و«الضلال » فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة ؛ لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق، أو جاهلا به. والعالم بالحق إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له. فهذه أقسام المكلفين. لا يخرجون عنها البتة.
فالعالم بالحق العامل به : هو المنعم عليه. وهو الذي زكَّى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح. وهو المفلح ﴿ قد أفلح من زكاها ﴾ [ الشمس : ٩ ].
والعالم به المتبع هواه : هو المغضوب عليه. والجاهل بالحق : هو الضال.
والمغضوب عليه : ضال عن هداية العمل. والضال : مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل. فكل منهما ضال مغضوب عليه، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به. ومن هاهنا كان اليهود أحق به. وهو متغلظ في حقهم. كقوله تعالى في حقهم ﴿ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب ﴾ [ البقرة : ٩٠ ]، وقال تعالى :﴿ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ﴾ [ المائدة : ٦٠ ].
والجاهل بالحق : أحق باسم الضلال. ومن هنا وصفت النصارى به في قوله تعالى :﴿ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ﴾ [ المائدة : ٧٧ ].
فالأولى : في سياق الخطاب مع اليهود. والثانية : في سياقه مع النصارى.
وفي «الترمذي » و«صحيح ابن حِبَّان » : من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اليهود مغضوب عليهم. والنصارى ضالون ».
ففي ذكر المنعَم عليهم ( وهم من عرف الحق واتبعه )، والمغضوب عليهم ( وهم من عرفه واتبع هواه )، والضالين ( وهم من جهله ) : ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة ؛ لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود. وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة.
[ لماذا قال : المغضوب عليهم، ولم يقل : غضبت عليهم – كأنعمت عليهم ؟ ]
وأضاف النعمة إليه، وحذف فاعل الغضب لوجوه :
منها : أن «النعمة » هي الخير والفضل. و«الغضب » من باب الانتقام والعدل. والرحمة تغلب الغضب، فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين، وأسبقهما وأقواهما.
وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه ( سبحانه ) وحذف الفاعل في مقابلتهما، كقول مؤمني الجن ﴿ وأنَّا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ﴾ [ الجن : ١٠ ] ومنه قول الخَضِر في شأن الجدار واليتيمين :﴿ فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ﴾ [ الكهف : ٨٢ ] وقال في خرق السفينة ﴿ فأردت أن أعيبها ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] ثم قال بعد ذلك : وما فعلته عن أمري، وتأمل قوله تعالى :﴿ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] وقوله :﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾ [ المائدة : ٣ ] وقوله :﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾ [ النساء : ٢٣ ]، ثم قال :﴿ وأحل لكم ما رواء ذلكم ﴾ [ النساء : ٢٤ ].
[ مطلق النعمة على المؤمن والكافر، والنعمة المطلقة للمؤمن فقط ]
وفي تخصيصه لأهل «الصراط المستقيم » بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم. وأما مطلق النعمة : فعلى المؤمن والكافر. فكل الخلق في نعمة.
وهذا فصل النزاع في مسألة : هل لله على الكافر من نعمة أم لا ؟ فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان. ومطلق النعمة تكون للمؤمن والكافر، كما قال تعالى :﴿ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ].
و«النعمة » من جنس الإحسان - بل هي الإحسان - والرب تعالى إحسانه على البَر والفاجر، والمؤمن والكافر. وأما «الإحسان المطلق » : فللذين اتقوا والذين هم محسنون.
الوجه الثاني : أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم ﴿ وما بكم من نعمة فمن الله ﴾ [ النحل : ٥٣ ] فأضيف إليه ما هو منفرد به. وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقا ومَجْرى للنعمة.
وأما «الغضب على أعدائه » : فلا يختص به تعالى، بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه. فكان في لفظة «المغضوب عليهم » بموافقة أوليائه له من الدلالة على تفرده بالإنعام، وأن النعمة المطلقة منه وحده، هو المنفرد بها - ما ليس في لفظة «المنعم عليهم ».
الوجه الثالث : أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه، وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر فاعل النعمة، من إكرام المنعَم عليه والإشادة بذكره، ورفع قدره، ما ليس في حذفه.
فإذا رأيت مَنْ ق
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).