٦ - وتضحَكُ مني شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّة | كَأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً يَمانياً |
٧ - لقد بَسْمَلَتْ ليلى غداةَ لقِيتُها | ألا حَبَّذا ذاكَ الحديثُ المُبَسْمِلُ |
٨ - فليتَ لي بِهِمُ قوماً إذا ركبوا | شَنُّوا الإِغارةَ فرساناً ورُكْبانا |
٩ - شَرِبْنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعَتْ | متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ |
١٠ - فإنْ تَسْأَلوني بالنساءِ فإنني | خبيرٌ بأَدْواءِ النساء طبيبُ |
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه | فليس له في وُدِّهِنَّ نَصيبُ |
وقد تُزاد مطَّردةً وغيرَ مطَّردة، فالمطَّردةُ في فاعل «كفى» نحو: ﴿وكفى بالله﴾ [النساء: ٦] / أي: كفى اللهُ، بدليل سقوطِها في قول الشاعر:
١١ -................................ | كفى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهياً |
١٢ - فكفى بنا فَضْلاً على مَنْ غيرُنا | حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا |
﴿بِأَييِّكُمُ المفتون﴾ [القلم: ٦] وقيل: المفتون مصدر كالمَعْقول والمَيْسور، فعلى هذا ليست زائدةً، وفي خبر «لا» أختِ ليس، كقوله:
١٣ - فكُنْ لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ | بمُغْنٍ فتيلاً عن سَوادِ بنِ قاربِ |
١٤ - وإنْ مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أكنْ | بِأعجلِهم، إذْ أَجْشَعُ القومِ أَعْجَلُ |
١٥ - فما رَجَعَتْ بخَائِبَةٍ رِكابٌ | حكيمُ بنُ المُسَيَّب مُنْتَهاها |
١٦ - دعاني أخي والخيلُ بيني وبينه | فلمَّا دعاني لم يَجِدْني بقُعْدَدِ |
١٧ - فإنْ تَنْأَ عنها حِقْبَةً لا تُلاقِها | فإنك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ |
والاسمُ لغةً: ما أبانَ عن مُسَمَّى، واصطلاحاً: ما دلَّ على معنىً في نفسه فقط غيرَ متعرِّضٍ بِبُنْيَتِهِ لزمان ولا دالٍّ جزءٌ من أجزائه على جزءٍ من أجزاء معناه، وبهذا القيدِ الأخيرِ خَرَجت الجملةُ الاسميةُ، والتسميةُ: جَعْلُ ذلك اللفظِ دالاًّ على ذلك المعنى.
واختلف الناسُ: هل الاسمُ عينُ المُسَمَّى أو غيرُه؟ وهي مسألةٌ طويلةٌ، تكلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً واستشكلوا على كونه هو المُسَمَّى إضافَتَه إليه، فإنه يلزم منه إضافةُ الشيء إلى نفسِه، وأجاب أبو البقاء عن ذلك بثلاثة أجوبة، أجودُها: أنَّ الاسم هنا بمعنى التسمية، والتسميةُ غيرُ الاسم، لأنَّ التسمية هي اللفظُ بالاسم، والاسمَ هو اللازمُ للمُسَمَّى فتغايرا. الثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: باسم مُسَمَّى اللهِ. الثالث: أن لفظَ «اسم» زائدٌ كقولِه:
١٨ - إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلامِ عليكما | ومَنْ يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَرْ |
١٩ - لاَ يَرْفَعُ الطرفَ إلاَّ ما تَخَوَّنَهُ | داعٍ يُناديه باسمِ الماءِ مَبْغَومُ |
واختلفوا في معنى الزيادة فقال الأخفش: ليخرجَ من حُكْمِ القسم إلى قَصْدِ التبرُّك «. وقال قطرب:» زيد للإِجلال والتعظيم «، وهذان الجوابان ضعيفان لأنَّ الزيادةَ والحذفَ لا يُصار إليهما إلاَّ إذا اضطُرَّ إليهما.
ومن هذا القَبيلِ - أعني ما يُوهِمُ إضافةَ الشيءِ إلى نفسِه - إضافةُ الاسمِ إلى اللقبِ والموصوفِ إلى صفتهِ، نحو: سعيدُ كُرزٍ وزيدُ قُفَّةٍ ومسجدُ الجامعِ وبَقْلَةُ الحمقاءِ، ولكن النحويين أوَّلوا النوع الأول بأنْ جعلوا الاسمَ بمعنى المُسَمَّى واللقبَ بمعنى اللفظِ، فتقديرُه: جاءني مسمَّى هذا اللفظِ، وفي الثاني جَعَلوه على حَذْفِ مضافٍ، فتقديرُ بقلةِ الحمقاءِ: بقلةُ الحبِّةِ الحمقاءِ، ومسجدُ الجامعِ: مسجدُ المكانِ الجامعِ.
استدلَّ البصريون على مذهبهم بتكسيرِهم له على «أَسْماء» وتصغيرهم له على سُمَيّ، لأن التكسير والتصغير يَرُدَّان الأشياء إلى أصولها، وتقولُ العَربُ: فلانٌ سَمِيُّك، وسَمَّيْتُ فلاناً بكذا، وأَسْمَيْتُه بكذا، فهذا يَدُلُّ على اشتقاقه من السموّ، ولو كان من الوَسْم لقيل في التكسير: أَوْسام، وفي التصغير: وُسَيْم، ولقالوا: وَسِيمُك فلانٌ ووَسَمْتُ وأَوْسَمْتُ فلاناً بكذا، فدلَّ عدمُ قولِهم ذلك أنه ليس كذلك. وأيضاً فَجَعْلُه من السموّ مُدْخِلٌ له في البابِ الأكثرِ، وجَعْلُه من الوَسْم مُدْخِلٌ له في الباب الأقلِّ؛ وذلك أن حَذْفَ اللام كثيرٌ وحذفَ الفاءِ قليلٌ، وأيضاً فإنَّا عَهِدْناهم غالباً يُعَوِّضون في غير محلِّ الحَذْفَ فَجَعْلُ همزةِ الوصل عوضاً من اللام موافقٌ لهذا الأصل بخلافِ ادِّعاءِ كَوْنِها عوضاً من الفاء. فإن قيل: قولُهم «أسماء» في التكسير و «سُمَيّ» في التصغير لا دلالةَ فيه لجوازِ أن يكون الأصلُ: أَوْسَاماً ووُسَيْماً، ثم قُلِبَتِ الكلمةُ بأَنْ أُخِّرَتْ فاؤُها بعد لامها فصار لفظُ أَوْسام: أَسْماواً، ثم أُعِلَّ إعلالَ كساء، وصار وُسَيْم سُمَيْوَاً، ثم أُعِلَّ إعلالَ جُرَيّ تصغير جَرْو. فالجوابُ أنَّ ادِّعاء ذلك لا يفيدُ، لأنَّ القَلْبَ على خلافِ القياس فلا يُصارُ إليه ما لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ. وهل لهذا الخلافِ فائدةٌ أم لا؟ والجوابُ أن له فائدةً، وهي أَنَّ مَنْ قال باشتقاقِه من العلوِّ يقول: إنه لم يَزَلْ موصوفاً قبل وجودِ الخلق وبعدَهم
وفي الاسم خمسُ لغاتٍ: «اسم» بضم الهمزة وكسرها، و «سُِم» بكسر السين وضمها. وقال أحمد بن يحيى: «سُمٌ بضم السين أَخَذَه من سَمَوْتُ أسْمُو، ومَنْ قاله بالكسر أخذه من سَمَيْتُ أَسْمي، وعلى اللغتين قوله:
٢٠ - وعامُنا أَعْجبنا مُقَدَّمُهْ | يُدْعى أبا السَّمْحِ وقِرضابٌ سُِمُهْ |
٢٢ - واللهُ أَسْماك سُمَىً مُبارَكاً | آثرك اللهُ به إيثارَكَا |
وهمزتُه همزةُ وصلٍ أي تُثْبَت ابتداءً وتُحْذَفُ دَرْجَاً، وقد تُثْبَتُ ضرورةً كقوله:
٢٣ - وما أنا بالمَخْسوسِ في جِذْمِ مالكٍ | ولا مَنْ تسمَّى ثم يلتزِم الإِسْما |
واختلف النحويون في ذلك، فذهب أهلُ البصرةِ إلى أنَّ المُتَعَلَّقَ به اسمٌ، وذهب أهلُ الكوفة إلى أنه فِعْلٌ، ثم اختَلَفَ كلٌ من الفريقين: فذهب بعضُ البصريين إلى أنَّ ذلك المحذوفَ مبتدأٌ حُذِفَ هو وخبرهُ وبقي معمولُه، تقديره: ابتدائي باسم الله كائنٌ أو مستقرٌ، أو قراءتي باسم الله كائنةٌ أو مستقرة. وفيه نظرٌ من حيث إنه يلزمُ حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معمولِه وهو ممنوعٌ، وقد نص مكي على مَنْع هذا الوجهِ. وذهبَ بعضُهم إلى أنه خبرٌ حُذِف هو ومبتدؤه أيضاً وبقي معمولُه قائماً مَقامَه، والتقدير: ابتدائي كائنٌ باسمِ الله، أو قراءتي كائنةٌ باسم الله نحو: زيدٌ بمكةَ، فهو على الأول منصوبُ المحلِّ وعلى الثاني مرفوعُه لقيامِهِ مقامَ الخبر. وذهب بعضُ الكوفيين إلى أنَّ ذلك الفعلَ المحذوفَ مقدَّرٌ قبله، قال: لأنَّ الأصلَ التقديمُ، والتقدير: أقرأُ باسم الله أو أبتدئُ باسم الله. ومنهم مَنْ قدَّر بعده: والتقدير: باسم الله أقرأ أو أبتدئ أو أتلو، وإلى هذا نحا الزمخشري قال: «ليفيدَ
وفي هذا نظرٌ لأن الظاهرَ على هذا القول أن يكون «اقرأ» الثاني توكيداً للأول فيكون قد فَصَلَ بمعمول المؤكِّد بينه وبين ما أكَّده مع الفصلِ بكلامٍ طويل.
واختلفوا أيضاً: هل ذلك الفعلُ أمرٌ أو خبرٌ؟ فذهب الفراء أنه أَمْرٌ تقديرُه: اقرأ أنت باسم الله، وذهب الزجاج أنه خبرٌ تقديره: اقرأ أنا أو أبتَدِئُ ونحوهُ.
و «الله» في «بسم الله» مضافٌ إليه، وهل العاملُ في المضاف إليه المضافُ أو حرفُ الجرِّ المقدََّرِ أو معنى الإِضافة؟ ثلاثةُ أقوال خَيْرُها أوسطُها. وهو عَلَمٌ على المعبودِ بحق، لاَ يُطلق على غيره، ولَم يَجْسُرْ أحدٌ من المخلوقين أن يَتَسَّمى به، وكذلك الإِله قبل النقل والإِدغامِ لا يُطْلق إلا على المعبودِ بحقٍّ. قال الزمخشري: «كأنه صار عَلَماً بالغلَبة»، وأمّا «إله»
ثم القائلونَ باشتقاقِه اختلفوا اختلافاً كثيراً، فمنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من لاهَ يليه أي ارتفع، ومنه قيل للشمس: إلاَهة بكسر الهمزة وفتحها لارتفاعها، وقيل: لاتخاذِهِم إياها معبوداً، وعلى هذا قيل: «لَهْيَ أبوك» يريدونَ: للهِ أبوك، فَقَلَب العينَ إلى موضع اللام. وخَفَّفه فَحَذَفَ الألفَ واللامَ وحَذَفَ حرفَ الجرِ. وأَبْعد بعضُهم فَجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر:
٢٤ - ألا ياسَنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمى | لَهِنَّكَ من برقٍ عليَّ كريمُ |
ومنهمَ مَنْ قال: «هو مشتقٌّ من لاه يَلُوه لِياهاً. أي احتجَبَ، فالألف على هذين القولين أصليةٌ، فحينئذ أصلُ الكلمة لاَهَ، ثم دخل عليه حرفُ التعريف فصار اللاه، ثم أُدْغِمت لام التعريف في اللام بعدها لاجتماعِ شروطِ الإِدغام، وفُخِّمت لامُه. ووزنُه على القولين المتقدِّمين إمَّا: فَعَل أو فَعِل بفتح العين أو كسرِها، وعلى كل تقدير: فتحرَّك حرفُ العلة وانفتحَ ما قبلَه فقُلِب ألفاً، وكان الأصلَ: لَيَهاً أو لَيِهاً أو لَوَهاً أو لَوِهاً.
ومنهم مَنْ جَعَلَه مشتقاً من أَلَه، وأَلَه لفظٌ مشترك بين معانٍ وهي: العبادةُ والسكون والتحيُّر والفزع، فمعنى «إله» أنَّ خَلْقَه يعبدونه ويسكنون إليه ويتحيَّرون فيه ويفزعون إليه. ومنه قولُ رؤبة:
٢٥ - لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ | سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهي |
٢٦ - معاذَ الإِله أن تكونَ كظبيةٍ | ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةٍ رَبْرَبِ |
٢٧ - إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ | نَ على الأُناس الآمِنينا |
ومنهم مَنْ قال: هو مشتقٌ من وَلِهَ لكونِ كلِّ مخلوقٍ والِهاً نحوَه، وعلى ذلك قال بعض الحكماء: «الله محبوب للأشياءِ كلها، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾ [الإسراء: ٤٤]، فأصله: وِلاه ثم أُبدلت الواو همزةً كما أُبدلت في إشاح وإعاء، والأصلُ: وِشاح ووِعاء، فصار الفظُ به: إلاهاً، ثم فُعِل به ما تقدَّم مِنْ حَذْفِ همزتِه والإِدغام، ويُعْزَى هذا القول للخليل، فعلى هذين القولين وزنُ إلاه: فِعال، وهو بمعنى مَفْعول أي: مَعْبود أو متحيِّرٌ فيه كالكِتاب بمعنى مكتوب.
وللخليل أن ينفصِلَ عن هذين الاعتراضين بأنَّ البدلَ لزِم في هذا الاسمِ لأنه اختصَّ بأحكامٍ لم يَشْرَكَهْ فيها غيرُه، كما ستقف عليه، ثم جاء الجمع على التزامِ البدل.
وأمَّا الألفُ واللامُ فيترتَّب الكلامُ فيها على كونِه مشتقاً أو غيرَ مشتقٍّ، فإنْ قيل بالأول كانَتْ في الأصل مُعَرِّفةً، وإنْ قيل بالثاني كانت زائدةً. وقد شَذَّ حذفُ الألفِ واللامِ من الجلالة في قولهم» لاهِ أبوك «، والأصل: للهِ أبوك كما تقدم، قالوا: وحُذِفَت الألفُ التي قبل الهاء خَطَّاً لئلا يُشْبَّهَ بخط» اللات «اسم الصنم، لأن بعضهم يقلبُ هذه التاء في الوقف هاءً فيكتُبها هاءً تَبَعَاً للوقف فمِنْ ثمَّ جاء الاشتباه.
وقيل: لئلا يُشَبَّه بخط «اللاه» اسمَ فاعل من لها يلهو، وهذا إنما يَتِمُّ على لغة مَنْ يحذف ياءَ المنقوص المعرَّف وقفاً لأن الخطَّ يتبعه، وأمَّا مَنْ يُثْبِتُها وقفاً فيثبتها خطَّاً فلا لَبْس حينئذ. وقيل: حَذْفُ الألف لغةٌ قليلة جاء الخط عليها، والتُزمَ ذلك لكثرة استعماله، قال الشاعر:
٢٨ - أقبلَ سَيْلٌ كان من أمر اللهْ | يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّة المُغِلَّهْ |
ونقل السهيلي وابن العربي فيه قولاً غريباً وهو أنَّ الألف واللام فيه أصليةٌ غيرُ زائدةٍ، واعتذرا عن وَصْلِ الهمزةِ بكثرة الاستعمال، كما يقول الخليل في همزةِ التعريف، وقد رُدَّ قولهُما بأنه كان ينبغي أن يُنَوَّن لفظُ الجَلالةِ لأنَّ وزنَه حينئذ فَعَّال نحو: لآَّل وسَآَّل، وليس فيه ما يمنعه من التنوينِ فدلَّ على أنَّ أل فيه زائدةٌ على ماهيةِ الكلمةِ.
ومن غريبِ ما نُقِل فيه أيضاً أنه ليس بعربي بل هو مُعَرَّب، وهو سُريانيُّ الوَضْعِ وأصله: «لاها» فَعَرَّبَتْه العربُ فقالوا: الله، واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر:
٢٩ - كحَلْفَةٍ من أبي رياحِ | يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ |
[ومِنْ غريب ما نُقل فيه أيضاً أنَّ الأصل فيه الهاءُ التي هي كنايةٌ عن الغائب] قالوا: وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في نظر عقولِهم فأشاروا إليه بالضمير، ثم زِيدَتْ فيه لامُ المِلْك، إذ قد عَلِموا أنه خالقُ الأشياء ومالِكُها فصار اللفظ: «لَهُ» ثم زِيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً، وهذا لا يُشبه كلامَ أهل اللغة ولا النَحْويين، وإنما يشبه كلامَ بعض المتصوفة.
ومن غريب ما نُقل فيه أيضاً أنه صفةٌ وليس باسم، واعتلَّ هذا الذاهب إلى ذلك أنَّ الاسم يُعَرِّفَ المُسَمَّى والله تعالى لا يُدْرَكُ حِسَّاً ولا بديهةً فلا يُعَرِّفُه اسمه، إنما تُعَرِّفه صفاتُه، ولأن العَلَم قائمٌ مقامَ الإِشارة، واللهُ تعالى ممتنعٌ ذلك في حقه. وقد رَدَّ الزمخشري هذا القولَ بما معناه أنك تصفه ولا تَصِفُ به، فتقول: إله عظيم واحد، كما تقول: شيءٌ عظيم ورجلٌ كريم، ولا تقول: شيء إله، كما لا تقول: شيء رجل، ولو كان صفةً لوقع صفةً لغيره لا موصوفاً، وأيضاً فإنَّ صفاتِه الحسنى لا بُدَّ لها من موصوف تَجْري عليه، فلو جَعَلْتَها كلَّها صفاتٍ، بقيت غيرَ جاريةٍ على اسمٍ موصوفٍ بها، وليس فيما عدا الجلالة خلافٌ في كونِه صفةً فَتَعَيَّن أن تكونَ الجلالةُ اسماً لا صفةً.
والقولُ في هذا الاسم الكريمِ يحتمل الإِطالةَ أكثرَ ممَّا ذكرْتُ لك، إنما اختصرْتُ ذلك خوفَ السآمة للناظر في هَذا الكتاب.
وذهب الأعلمُ الشنتمريُّ إلى أن «الرحمن» بدلٌ من اسمِ الله لا نعتٌ له، وذلك مبنيٌّ على مذهبه من أنَّ الرحمن عنده عَلَمٌ بالغلَبة. واستدَلَّ على ذلك بأنه قد جاء غيرَ تابعٍ لموصوفٍ، كقوله تعالى: ﴿الرحمن عَلَّمَ القرآن﴾ [الرحمن: ١-٢] ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥]. وقد رَدَّ عليه السُّهيلي بأنه لو كان بدلاً لكان مبيَّناً لِما قبله، وما قبله - وهو الجلالة - لا يفتقرُ إلى تبيين لأنها أعرفُ الأعلامِ، ألا تراهم قالوا: ﴿وَمَا الرحمن﴾ [الفرقان: ٦٠] ولم يقولوا: وما اللهُ. انتهى. أمَّا قوله: «جاء غيرَ تابع» فذلك لا يمنعُ كونَه صفةً، لأنه إذا عُلم الموصوفُ جاز حَذْفُه وبقاءُ صفتِه، كقولِه تعالى: ﴿وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ [فاطر: ٢٨] أي نوع مختلف، وكقول الشاعر:
٣٠ - كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوْهِنَها | فلم يَضِرْها وأَوْهَى قرنَه الوَعِلُ |
وقيل: الرحمة رِقَّةٌ تقتضي الإِحسانَ إلى المرحومِ، وقد تُستعملُ تارةً في الرقة المجردة وتارةً في الإِحسان المجرَّد، وإذا وُصِف به الباري تعالى فليس يُراد به إلا الإِحسانُ المجردُ دونَ الرقةِ، وعلى هذا رُوي: «الرحمةُ من الله إنعامٌ وإفضالٌ، ومن الآدميين رقةٌ وتعطُّف».
[وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «وهما اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر أي: أكثرُ رحمة». قال الخطَّابي: وهو مُشْكِلٌ؛ لأن الرقة] لا مَدْخَلَ لها في صفاتهِ. وقال الحسين بن الفضل: «هذا وَهْمٌ من الراوي، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أَرْفَقُ من الآخر والرفق من صفاته» وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِفقَ، ويُعطي عليه ما لا يُعْطي
واختلف أهلُ العلمِ في «الرحمن الرحيم» بالنسبة إلى كونِهما بمعنىً واحدٍ أو مختلفين.
فذهب بعضُهم إلى أنهما بمعنى واحد كَنْدمان ونَدِيم، ثم اختلف هؤلاء على قولين، فمنهم مَنْ قال: جُمِع بينهما تأكيداً، ومنهم مَنْ قال: لمَّا تَسَمَّى مُسَيْلمة - لعنه الله- بالرحمن قال الله لنفسه: الرحمنُ الرحيم، فالجمعُ بين هاتين الصفتين لله تعالى فقط. وهذا ضعيفٌ جداً، فإنَّ تسميَته بذلك غيرُ مُعْتَدٍّ بها البتَة، وأيضاً فإن بسم الله الرحمن الرحيم قبلَ ظهورِ أمرِ مُسَيْلَمَةَ.
ومنهم مَنْ قال: لكلِّ واحد فائدةٌ غيرُ فائدةِ الآخر، وجَعَل ذلك بالنسبة إلى تغايُرِ متعلِّقِهما إذ يقال: «رَحْمن الدنيا ورحيمُ الآخرة»، يُروى ذلك عن النبي صلَى الله عليه وسلم، وذلك لأنَّ رحمته في الدنيا تَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ، وفي الآخرة تَخُصُّ المؤمنين فقط، ويُروَى: رحيمُ الدنيا ورحمنُ الآخرة، وفي المغايَرة بينهما بهذا القَدْر وحدَه نظرٌ لا يَخْفى.
وذهب بعضُهم إلى أنهما مختلفان، ثم اختلف هؤلاء أيضاً: فمنهم مَنْ قال: الرحمن أبلغُ، ولذلك لا يُطلق على غيرِ الباري تعالى، واختاره الزمخشري، وجعلَه من باب غَضْبان وسَكْران للممتلىءِ غَضَباً وسُكْراً، ولذلك يقال: رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة فقط، قال الزمخشري: «فكان القياسُ الترقِّيَ من الأدنى، إلى الأعلى، كما يُقال: شُجاع باسل
ومنهم مََنْ عَكَس فجعلَ الرحيمَ أبلغَ، ويؤيده روايةُ مَنْ قال:» رحيم الدنيا وحمان الآخرة «لأنه في الدنيا يَرْحم المؤمن والكافرَ، وفي الآخرة لا يَرْحم إلا المؤمن. لكن الصحيح أنَّ الرحمنَ أبلغُ، وأمَّا هذه الروايةُ فليس فيها دليلٌ، بل هي دالَّةٌ على أنَّ الرحمنَ أبلغُ، وذلك لأن القيامَة فيها الرحمةُ أكثرُ بأضعافٍ، وأثرُها فيها أظهرُ، على ما يُروى أنه خَبَّأ لعباده تسعاً وتسعينَ رحمةً ليوم القيامة. والظاهر أن جهةَ المبالَغَةِ فيهما مختلفةٌ، فمبالغةُ» فَعْلان «من حيث الامتلاءُ والغَلَبَةُ ومبالغةُ» فعيل «من حيث التكرارُ والوقوع بمَحَالِّ الرحمة. وقال أبو عبيدة:» وبناء فَعْلان ليس كبناءِ فَعِيل، فإنَّ بناء فَعْلان لا يقع إلا على مبالغةِ الفِعْل، نحو: رجل غَضْبانُ للمتلئ غضباً، وفعيل يكون بمعنى الفاعلِ والمفعول، قال:
٣١ - فأمَّا إذا عَضَّتْ بك الحربُ عَضَّةً | فإنك مَعْطوفٌ عليك رحيمُ |
والألفُ واللام في «الرحمن» للغلَبة كهي في «الصَّعِق»، ولا يُطلق
﴿بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾ [التوبة: ١٢٨]، وأمَّا قول الشاعر في مُسَيْلَمََةَ الكذاب -لعنه الله تعالى-:
٣٢ -................................... | وأنت غَيْثُ الوَرى لا زلت رَحْمانا |
ومن غريب ما نُقِل فيه أنه مُعَرَّب، ليس بعربيِّ الأصل، وأنه بالخاء المعجمة قاله ثعلب [والمبرد وأنشد] :
٣٣ - لن تُدْرِكوا المَجْدَ أو تَشْرُوا عَباءَكُمُ | بِالخَزِّ أو تَجْعلوا اليَنْبُوتَ ضَمْرانا |
أو تَتْرُكونَ إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكُمْ | ومَسْحكم صُلبَهم رَخْمانَ قُرْبانا |
٣٤ - أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ مني ثلاثةً | يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبا |
وقال الراغب: «الحمدُ لله الثناء [عليه] بالفضيلة، وهو أخصُّ من المدحِ وأعمُّ من الشكر، يقال فيما يكونُ من الإِنسان باختياره وبما يكونُ منه وفيه بالتسخير، فقد يُمْدَحُ الإِنسان بطولِ قامتهِ وصَباحةِ وجههِ كما يُمْدَحُ ببذلِ مالِه وشجاعتهِ وعلمهِ، والحمدُ يكون في الثاني دونَ الأول، والشكرُ لا يُقال إلا في مقابلةِ نعمة، فكلُّ شكرٍ حَمْدٌ وليس كل حمدٍ شكراً، وكلُّ حَمْدٍ مَدْحٌ وليس كلُّ مَدْحٍ حمداً، ويقال: فلان محمود إذا حُمِد، ومُحْمَدٌ [وُجد محموداً] ومُحَمَّد كَثُرت خصالُه المحمودة، وأحْمَدُ أي: إنه يفوق غيرَه في الحمد».
والألفَ واللامُ في «الحَمْد» قيل: للاستغراقِ وقيل: لتعريفِ الجنسِ، واختاره الزمخشري، قال الشاعر:
٣٥ -.......................... | إلى الماجِدِ القَرْمِ الجَوادِ المُحَمَّدِ |
٣٦ - وأَبْلَجَ محمودِ الثناء خَصَصْتُه | بأفضلِ أقوالي وأفضلِ أَحْمُدي |
ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَه اسماً وهو المختار، وإنْ شئتَ قدَّرْتَه فِعْلاً، أي: الحمدُ مستقرٌّ لله أو استقرَّ لله. والدليلُ على اختيار القول الأولِ أنَّ ذلك يتعيَّن في بعض الصور فلا أدلُّ من ترجيحه في غيرها، وذلك أنك إذا قلت: «خرجت فإذا في الدار زيدٌ»، و «أمَّا في الدار فزيدٌ»، يتعيَّن في هاتين الصورتين تقديرُ الاسم، لأن إذا الفجائية وأمَّا التفصيلية لا يليهما إلا المبتدأ. وقد عورض هذا اللفظُ بأنه يتعيَّن تقديرُ الفعلِ في
ولا بُد من ذِكْر قاعدةٍ ههنا لعموم فائدتها، وهي أنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ إذا وَقَعا صلة أو صفة أو حالاً أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ، وذلك المحذوفُ لا يجوز ظهورهُ إذا كان كوناً مطلقاً، فأمَّا قول الشاعر:
٣٧ - لكَ العِزُّ إنْ مَوْلاكَ عَزَّ وإنْ يَهُنْ | فأنت لدى بُحْبوحَةِ الهُونِ كائِنُ |
وقرئ شاذاً بنصب الدال من «الحمد»، وفيه وجهان: أظهرهُما أنه
وقراءةُ الرفع أَمْكَنُ وأَبْلَغُ من قراءة النصب، لأنَّ الرفعَ في بابِ المصادر التي أصلُها النيابةُ عن أفعالها يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، ولذلك قال العلماء: إن جوابَ خليل الرحمن عليه السلام في قوله تعالى حكايةً عنه:
﴿قَالَ سَلاَمٌ﴾ [هود: ٦٩] أحسنُ مِنْ قول الملائكة «قالوا سلاماً»، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ﴾ [النساء: ٨٦].
و «لله» على قراءة النصب يتعلَّق بمحذوفٍ لا بالمصدرِ لأنها للبيان تقديره: أَعْنِي لله، كقولهم: سُقْياً له وَرَعْياً لك، تقديرهُ: أعني له ولك، ويدلُّ
وقُرئ أيضاً بكسرِ الدال، ووجهُه أنها حركةُ إتباعٍ لكسرةِ لامِ الجر بعدها، وهي لغة تميم وبعض غطفان، يُتْبِعُون الأول للثاني للتجانس، ومنه: «اضربِ الساقَيْنُ أُمُّك هابِلُ»، بضم نون التثنية لأجل ضمِّ الهمزة. ومثله:
٣٨ - وَيْلِمِّها في هواءِ الجَوِّ طالبةً | ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبٌ |
٣٩ - وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها | فَجْعٌ وَوَلْعٌ [وإخلافٌ وتَبِدِيلُ] |
وقُرئ أيضاً: «لُلَّهِ» بضمِّ لامِ الجرِّ، قالوا: وهي إتباعٌ لحركة الدالِ، وفضَّلها الزمخشري على قراءة كسر الدال معتلاً لذلك بأنَّ إتباع حركة البناء لحركة الإِعراب أحسنُ من العكس وهي لغةُ بعضِ قيس، يُتْبعون الثاني للأول نحو: مُنْحَدُرٌ ومُقُبلِين، بضمِّ الدالِ والقافِ لأجلِ الميم، وعليه قُرئ: ﴿مُرْدِفين﴾ [الأنفال: ٩] بضمِّ الراءِ إتباعاً للميمِ، فهذه أربعُ قراءاتٍ في «الحمدُ لله» وقد تقدَّم توجيهُ كلٍّ منها.
ومعنى لام الجر هنا الاستحقاقُ، أي الحمدُ مستحقٌ لله، ولها معانٍ أُخَرُ، نذكرها الآن، وهي الملك والاستحقاق [نحو:] المالُ لزيد، الجُلُّ للفرس، والتمليك نحو: وَهَبْتُ لك وشبهِه، نحو: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾ [النحل: ٧٢]، والنسب نحو: لزيد عَمُّ «والتعليلُ نحو: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس﴾ [
٤٠ - للهِ يَبْقى على الأيام ذو حِيَدٍ | بمُشْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والآسُ |
﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس﴾ [الإسراء: ٧٨] أي: بعد دلوكها، والانتهاء، كقوله تعالى: ﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ﴾ [فاطر: ١٣]، والاستعلاء نحو قوله تعالى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ﴾ [الإسراء: ١٠٩] أي على الأذقان، وقد تُزاد باطِّراد في معمول الفعل مقدَّماً عليه كقوله تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] أو كان العاملُ فَرْعاً، نحوُ قولِه تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧] وبغيرِ اطًِّراد نحو قوله:
٤١ - ولمَّا أَنْ توافَقْنا قليلاً | أنَخْنا للكلاكِل فارتَمَيْنا |
قوله ﴿رَبِّ العالمين﴾ : الربُّ لغةً: السيِّدُ والمالك والثابِت والمعبود، ومنه:
٤٢ - أَرَبٌّ يبول الثُّعْلُبان برأسه | لقد هانَ مَنْ بالَتْ عليه الثعالبُ |
٤٣ - قَدْ ناله ربُّ الكلاب بكفِّه | بيضٌ رِهافٌ ريشُهُنَّ مُقَزَّعُ |
واختلف فيه: هل هو في الأصل وصفٌ أو مصدرٌ؟ فمنهم مَنْ قال: هو وصفٌ ثم اختلف هؤلاء في وزنه، فقيل: هو على وزن فَعَل كقولك: نَمَّ يَنُمُّ فهو نَمٌّ، وقيل: وزنه فاعِل، وأصله رابٌّ، ثم حُذفت الألف لكثرةِ الاستعمال، كقولهم: رجل بارٌّ وبَرٌّ. ولِقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّم أنَّ بَرَّاً مأخوذٌ من بارّ بل هما صيغتان مستقلتان فلا ينبغي أن يُدَّعى أن ربَّاً أصله رابٌّ.
٤٤ - وهو الربُّ والشهيدُ على يَوْ | مِ الحِيَارَيْنِ والبلاءُ بلاءُ |
وقراءةُ الجمهور مجروراً على النعت لله أو البدل منه، وقُرئ منصوباً، وفيه ثلاثةُ أوجه: إمَّا [منصوبٌ] بما دَلَّ عليه الحمدُ، تقديره: أَحْمَدُ ربِّ العالمين، أو على القطعِ من التبعِيَّة أو على النداء وهذا أضعفُها؛ لأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف. وقُرئ مرفوعاً على القَطْعِ من التبعيَّة فيكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي هو ربُّ.
وإذا قصد عُرِض ذِكْرُ القَطْعِ في التبعية فلنستطرِدْ ذكرَه لعمومِ الفائدةِ في ذلك: اعلم أن الموصوف إذا كان معلوماً بدون صفتهِ وكانَ الوصفُ مدحاً، أو ذَمَّاً أو ترحُّماً جاز في الوصفِ [التابع] الإِتباعُ والقطعُ، والقطعُّ إمَّا على النصب بإضمار فعل لائقٍ، وإمَّا على الرفع على خبر مبتدأ محذوف،
وإذا تكَرَّرت النعوتُ والحالةُ هذه كنتَ مخيَّراً بين ثلاثةِ أوجهٍ: إمّا إتْباعِ الجميع أو قطعِ الجميعِ أو قطعِ البعض وإتباعِ البعضِ، إلا أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ وقَطَعْتَ البعضَ وجب أن تبدأَ بالإِتباع، ثم تأتي بالقَطْعِ من غير عكسٍ، نحو: مَرَرْتُ بزيد الفاضلِ الكريمُ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوف بالجملة المقطوعة.
والعالمين: خفضٌ بالإِضافةِ، علامةُ خفضِه الياءُ لجريانه مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، وهو اسمُ جمع لأن واحدَه من غير لفظِه، ولا يجوز أن يكونَ جمعاً لعالَم، لأنَّ الصحيحَ في «عالَم» أنه يُطلَقُ على كلِّ موجودٍ سوى الباري تعالى، لاشتقاقِه من العَلامة بمعنى أنه دالٌّ على صانعه، وعالَمون بصيغة الجمع لا يُطلق إلا على العقلاء دونَ غيرهم، فاستحالَ أن يكونَ عالَمون جمع عالَم؛ لأن الجمع لا يكون أخصَّ من المفرد، وهذا نظيرُ ما فعله سيبويه في أنَّ «أعراباً» ليس جمعاً لِ «عَرَب» لأن عَرَباً يُطلق على البَدَويّ والقَرويّ، وأعراباً لا يُطلق إلاَّ على البدوي دون القروي. فإنْ قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون «عالَمون» جمعاً ل «عالَم» مُراداً به العاقلُ دونَ غيره فيزولَ المحذورُ المذكورُ؟ أُجيبَ عن هذا بأنه لو جاز ذلك لجاز أن يقال: شَيْئون جمع شَيء مراداً به العاقلُ دونَ غيره، فدلَّ عدمُ جوازِه على عَدم ادِّعاء ذلك. وفي الجواب نظرٌ، إذ لقائلٍ أن يقول: شَيْئون مَنَعَ مِنه مانعٌ آخرٌ وهو كونُه ليس صفةً ولا علماً، فلا يلزم مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ «عالَمين» مراداً به العاقلُ، ويؤيِّد هذا ما نقل الراغب عن ابن عباس أن «عالَمين» إنما جُمع هذا الجمعَ لأنَّ المرادَ به
٤٥ - مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها | يَرَى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءها |
وقُرئ «مالِك» بالألف، قال الأخفش: «يقال: مَلِكٌ بَيِّنُ المُلْكِ
وقد رجَّح كلٌّ فريقٍ إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يُسْقِط القراءةَ الأخرى، وهذا غير مَرْضِيٍّ، لأنَّ كلتيهما متواترةٌ، ويَدُلُّ على ذلك ما رُوي عن ثعلب أنه قال: [ «إذا اختلف الإِعرابُ في القرآن] عن السبعة لم أفضِّلْ إعراباً على إعراب في القرآن، فإذا خَرَجْتُ إلى الكلام كلامِ الناس فضَّلْتُ الأقوى» نقله أبو عمر الزاهد في «اليواقيت». وقال الشيخ شهابُ الدين
وَلْنذكرْ بعضَ الوجوه المرجِّحة تنبيهاً على معنى اللفظ لا على الوجهِ الذي قَصَدوه. فمِمَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ» مالك «أنها أمْدَحُ لعمومِ إضافتِه، إذ يقال:» مالِكُ الجِّن والإِنس والطير «، وأنشدوا على ذلك:
٤٦ - سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الوجوهُ لوجهِه | مَلِكِ الملوكِ ومالِكِ العَفْوِ |
وممَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ «مَلِك» ما حكاه الفارسي عن ابن السراج عن بعضِهم أنه وصَفَ نفسَه بأنه مالكُ كلِّ شيء بقوله: ﴿رَبِّ العالمين﴾ فلا فائدةَ في قراءةِ مَنْ قَرَأَ: «مالك» لأنها تكرارٌ، قال أبو عليّ: «ولا حُجَّة فيه لأنَّ في التنزيل مِثلَه كثيراً، يُذْكَرُ العامُّ ثم الخاصُّ، نحو: {هُوَ الله الخالق
وقُرئَ مَلْك بسكون اللام، ومنه:
٤٧ - وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ | عَصَيْنا المَلْكَ فيها أنْ نَدِينا |
٤٨ - فاقنَعْ بما قَسَم المَليكُ فإنَّما | قَسَم الخلائِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُها |
إذا عُرف هذا فكونُ» مَلِك «نعتاً لله تعالى ظاهر، فإنه معرفةٌ بالإِضافة، وأمَّا» مالك «فإنْ أريد به معنى المُضِيِّ فجَعْلُه نعتاً واضحٌ أيضاً، لأنَّ إضافته
وإضافةُ مالك ومَلِك إلى» يوم الدين «من باب الاتِّساع، إذ متعلَّقُهما غيرُ اليوم، والتقدير: مالكِ الأمرِ كله يومَ الدين.
ونظيرُ إضافة «مالك» إلى الظرف هنا نظيرُ إضافة «طَبَّاخ» إلى «ساعات» من قول الشاعر:
٤٩ - رُبَّ ابنَ عَمِّ لسُلَيْمى مُشْمَعِلّْ | طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ |
ونسبةُ المِلْكِ والمُلْك إلى الزمانِ في حقِّ الله تعالى غيرُ مُشْكِلَةٍ، ويؤيِّدُه
٥٠ - أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسِلْسِلَةٍ | والليلُ في قَعْرِ منحوتٍ من السَّاجِ |
واليومُ لغةً: القطعةُ من الزمان أيِّ زمنٍ كانَ من ليلٍ أو نهار، قال تعالى: ﴿والتفت الساق بالساق إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق﴾ [القيامة: ٢٩-٣٠]، وذلك كنايةٌ عن احتضارِ الموتى، وهو لا يختصُّ بليل ولا نهار، وأمَّا/ في العُرْف فهو من طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشمس. وقال الراغب: «اليومُ نعبِّر به عن وقت طلوعِ الشمس إلى غروبها»، قلت: وهذا إنما ذكروه في النهارِ لا في اليوم، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرت لك.
٥١ - ولم يَبْقَ سوى العُدْوا | نِ دِنَّاهم كما دَانُوا |
٥٢ - واعلَمْ يقيناً أنَّ مُلْكَكَ زائلٌ | واعلَمْ بأنَّ كما تَدِينُ تُدانُ |
٥٣ - إذا مل رَمَوْنا رَمَيْناهُم | ودِنَّاهُمُ مثلَ ما يَقْرِضُونا |
٥٤ - حَصادُك يوماً ما زَرَعْتَ وإنما | يُدانُ الفتى يوماً كما هو دائِنُ |
٥٥ - كَدِينِك من أمِّ الحُوَيْرثِ قبلَها | وجارتِها أمِّ الرَّباب بِمَأْسَلِ |
٥ - ٦-
تقول إذا دَرَأْتُ لها وَضِيني | أهذا دِينُه أبداً ودِينِي |
والداءُ: ومنه قول الشاعر:
٥٧ - يا دينَ قلبِك مِن سَلْمى وقد دِينا | .............................. |
٥٨ - لَئِنْ حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسَدٍ | في دينِ عمروٍ وحالَتْ بينَنَا فَدَكُ |
والقائلونَ بأنه ضميرٌ اختلفوا فيه على أربعةِ أقوال، أحدُها: أنه كلَّه ضميرٌ. والثاني: أن: «إيَّا» وحدَه ضميرٌ وما بعده اسمٌ مضافٌ إليه يُبَيِّنُ ما يُراد به من تكلمٍ وغَيْبَةٍ وخطاب، وثالثُها: أن «إيَّا» وحدَه ضميرٌ وما بعدَه حروفُ تُبَيِّنُ ما يُراد به. ورابعها: أنَّ «إيَّا» عمادٌ وما بعده هو الضمير، وشَذَّت إضافتُه إلى الظاهرِ في قولهم: «إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيَّا الشَوابِّ» بإضافة «إيا» إلى الشَوابِّ، وهذا يؤيِّد قولَ مَنْ جَعَلَ الكافَ والهاءَ والياءَ في محل جرٍّ إذا قلت: إياك إياه إياي.
وقد أَبْعَدَ بعضُ النحويين فَجَعَل له اشتقاقاً، ثم قال: هل هو مشتقٌ من «أَوّ» كقول الشاعر:
٥٩ - فَأَوِّ لذِكْراها إذا ما ذَكَرْتُها | ................................ |
٦٠ - لم يُبْقِ هذا الدهرُ من آيائِهِ | ................... |
وفيه لغاتٌ: أشهرُها كسرُ الهمزةِ وتشديدُ الياءِ، ومنها فتحُ الهمزةِ وإبدالُها هاءً مع تشديدِ الياء وتخفيفها. قال الشاعر:
٦١ - فَهِيَّاك والأمرَ الذي إنْ توسَّعَتْ | مَواردُه ضاقَتْ عليك مصادِرُهْ |
٦٢ - سَقَتْه إياةُ الشمسِ إلاَّ لِثاتِه | أُسِفَّ فلم تَكْدِمْ عليه بإثْمِدِ |
ونعبُدُ: فعلٌ مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم، وقيل: لوقوعِه
والعِبادة غاية التذلل، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفضالِ وهو الباري تعالى، فهي أبلغُ من العبودية، لأنَّ العبوديةَ إظهارُ التذلل، ويقال: طريق مُعَبَّد، أي مذلَّل بالوطء، قال طرفة:
٦٣ - تباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتْبَعَتْ | وَظِيفاً وظيفاً فوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ |
وقيل: العبادةُ التجرُّدُ، ويُقال: عَبَدْت الله بالتخفيف فقط، وعَبَّدْتُ الرجلَ بالتشديد فقط: أي ذَلَّلته أو اتخذتُه عبداً.
وفي قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب، إذ لو جَرَى الكلامُ على أصلِه لقيل: الحمد الله، ثم قيل: إياه نعبدُ، والالتفاتُ: نوع من البلاغة. ومن الالتفات - إلا أنه عَكْسُ هذا - قولُه تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢]، ولم يقل: بكم. وقد التفت امرؤ القيس ثلاثةَ التفاتات في قوله:
وباتَ وباتَتْ له ليلَةٌ... كليلة ذي العائِرِ الأرْمَدِ
وذلك من نبأٍ جاءني... وخُبِّرْتُه عن أَبِي الأسودِ
وقد خَطَّأ بعضُهم الزمخشري في جَعْلِه هذا ثلاثة التفاتات، وقال: بل هما التفاتان، أحدهما خروجٌ من الخطابِ المفتتحِ به في قوله: «ليلُك» إلى الغيبة في قوله: «وباتَتْ له ليلةٌ»، والثاني: الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلم في قوله: «من نبأٍ جاءني وخُبِّرْتُه». والجواب أن قوله أولاً: «تطاول ليلُك» فيه التفاتٌ، لأنه كان أصلُ الكلامِ أن يقولَ: تطاول ليلي، لأنه هو المقصودُ، فالتفت من مَقام التكلمِ إلى مقامِ الخطابِ، ثم من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، ثم من الغَيْبة إلى التكلمِ الذي هُوَ الأصلُ.
وقُرئ شاذاً: «إِيَّاكَ يُعْبَدُ» على بنائِه للمفعول الغائبِ، ووجهُها على إشكالها: أنَّ فيها استعارةً والتفاتاً، أمّا الاستعارةُ فإنه استُعير فيها ضميرُ النصب لضمير الرفع، والأصل: أنت تُعْبَدُ، وهو شائعٌ كقولهم: عساك وعساه وعساني في أحد الأقوال، وقول الآخر:
٦٥ - يابنَ الزُّبير طالما عَصَيْكا... وطالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيكا
فالكاف في «عَصَيْكا» نائِبةٌ عن التاء، والأصل: عَصَيْتَ. وأمَّا الالتفاتُ فكان من حقِّ هذا القارئ أن يقرأ: إياك تُعْبَدُ بالخطابِ، ولكنه التفتَ من الخطاب في «إيَّاك» إلى الغيبة في «يُعْبَدُ»، إلا أنَّ هذا التفاتٌ غريب، لكونه في
٦٦ - أأنتَ الهلاليُّ الذي كنتَ مرةً | سَمِعْنا به والأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ |
و «إيَّاك» واجبُ التقديمِ على عاملهِ، لأنَّ القاعدةَ أن المفعولَ به إذا كان ضميراً -لو تأخَّر عن عاملهِ وَجَبَ اتصالُه - وَجَب تقديمُه، وتحرَّزوا بقولهم: «لو تأخَّر عنه وَجَبَ اتصالَهُ» من نحو: «الدرهمَ إياه أعطيتُك» لأنك لو أَخَّرْتَ الضميرَ هنا فقلت: «الدرهمَ أعطيتُك إياه» لم يلزمِ الاتصالُ لِما سيأتي، بل يجوز: أعطيتُكه.
والكلام في «إياك نَسْتعين» كالكلام في «إياك نعبدُ» والواو عاطفة، وهي من المُشَرِّكة في الإِعراب والمعنى، ولا تقتضي ترتيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيين. ولها أحكامٌ تختصُّ بها تأتي إن شاء الله تعالى.
وأصل نَسْتعين: نَسْتَعْوِنُ مثل نَسْتَخْرِجُ في الصحيحِ، لأنه من العَوْنِ، فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو، فنُقِلَت إلى الساكن قبلها، فَسَكَنت الواوُ بعد النقلِ وانكسر ما قبلها فَقُلِبَتْ ياءً. وهذه قاعدةٌ مطردَة، نحو: ميزان ومِيقات وهما من الوَزْن والوَقْت.
والسينُ فيه معناها الطلبُ، أي: نطلب منك العَوْنَ على العبادة، وهو أحدُ المعاني التي ل استفعل، وله معانٍ أُخَرُ: الاتخاذُ نحو: استعْبَدَه أي:
وقرئ «نِسْتعين» بكسر حرفِ المضارعةِ، وهي لغةٌ مطردةٌ في حروف المضارعة، وذلك بشرطِ ألاَّ يكونَ حرفُ المضارعة ياء، لثقلِ ذلك. على أن بعضهم قال: يِيجَل مضارع وَجِلَ، وكأنه قصدَ إلى تخفيفِ الواو إلى الياء فَكَسر ما قبلها لتنقلبَ، وقد قرئ: ﴿فإنهم يِيْلمونَ﴾ [النساء: ١٠٤]، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناء، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، وأن يكونَ المضارعُ من ماضٍ مكسورِ العينِ نحو: تِعْلم من عَلِمَ، أو في أوله همزة وصل نحو: نِسْتعين من استعان أو تاء مطاوعة نحو: نِتَعلَّم من تَعَلَّم، فلا يجوز في يَضْرِبُ ويَقْتُل كسرُ حرفِ المضارعة لعدمِ الشروط المذكورة. ومن طريف
والاستعانة: طلبُ العَوْن، وهو المظاهَرَةُ والنُّصْرَةُ، وقَدَّم العبادةَ على الاستعانة لأنها وَصْلَةٌ لطلب الحاجة، وأطلق كُلاًّ من فِعْلي العبادة والاستعانة فلم يَذْكر لهما مفعولاً ليتناولا كلَّ معبودٍ به وكلَّ مستعانٍ، عليه، أو يكونُ المراد وقوع الفعل من غير نظرٍ إلى مفعولٍ نحو: ﴿كُلوا واشربوا﴾ [البقرة: ٦٠]، أي أَوْقِعوا هذين الفعلينِ.
والصراطَ: مفعول ثان، والمستقيمَ: صفتُه، وقد تَبِعه في الأربعة من العشرة المذكورة.
وأصل «هَدَى» أن يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجر وهو إمَّا: إلى أو اللام، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] ﴿يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩]، ثم يُتَّسَعُ فيه، فيُحذَفُ الحرفُ الحرفُ فيتَعَدَّى بنفسِه، فأصلُ اهدِنا الصراط: اهدنا للصراط أو إلى الصراطِ، ثم حُذِف.
والأمرُ عند البصريين مبنيٌّ وعند الكوفيين معرب، وَيدَّعون في نحو: «اضرب» أنَّ أصله: لِتَضْرِب بلام الأمر، ثم حُذِف الجازم وَتِبِعه حرفُ المضارعة وأُتِيَ بهمزة الوصل لأجلِ الابتداء بالساكن، وهذا ما لا حاجة إليه، وللردِّ عليهم موضع أَلْيَقُ به.
ووزن اهْدِ: افْعِ، حُذِفَت لامُه وهي الياء حَمْلاً للأمر على المجزوم والمجزوم تُحذف منه لامُه إذَا كَانَتْ حرفَ علةٍ.
٦٧ - فَأَلْحَقَه بالهاديات ودونَه | جواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيًّلِ |
والصراطُ: الطريقُ المُسْتَسْهَل، وبعضُهم لا يقيِّدُه بالمستسهلِ، قال:
٦٨ - فَضَلَّ عن نَهْج الصراطِ الواضِحِ...
٦٩ - أميرُ المؤمنين على صِراطٍ | إذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مستقيمِ |
٧٠ - شَحَنَّا أرضَهم بالخيلِ حتى | تَرَكْناهُمْ أَذَلَّ من الصِّراطِ |
٧١ - رَعَتْه الفيافي بعدما كان حِقْبةً | رعاها وماءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ ساكِبُهْ |
وأصلُه السينُ، وقد قَرَأ به قنبل حيث وَرَدَ، وإنما أُبدلَتْ صاداً لأجل حرف الاستعلاء وإبدالُها صاداً مطردٌ عنده نحو: صَقَر في سَقَر، وصُلْح في سُلْح، وإصْبَع في اسبَع، ومُصَيْطِر في مُسَيْطر، لما بينهما من التقارب.
والصِّراطُ يُذَكَّر ويؤنَّث، فالتذكيرُ لغة تميم، وبالتأنيث لغة الحجاز، فإنْ استُعْمل مذكَّراً جُمِعَ في القلة على أَفْعِلة، وفي الكثرة على فُعُل، نحو: حِمار وأَحْمِرة وحُمُر، وإن استعمل مؤنثاً فقياسُه أَن يُجْمع على أَفْعُل نحو: ذِراع وأَذْرُع. والمستقيم: اسم فاعل من استقام بمعنى المجرد، ومعناه السويُّ من غير اعوجاج وأصله: مُسْتَقْوِم، ثم أُعِلَّ كإعلالِ نَسْتعين، وسيأتي الكلامُ مستوفى على مادته عند قوله تعالى: ﴿يُقِيمُونَ الصلاة﴾.
٧٢ - لَمْياءُ في شفَتْيها حُوَّةٌ لَعَسٌ | وفي اللِّثاثِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ |
٧٣ - رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوها | بسجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ |
٧٤ - كأني غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلوا | لدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ |
والبدلُ ينقسِمُ أيضاً إلى بدلِ معرفةٍ من معرفة ونكرةٍ من نكرة ومعرفةٍ من نكرة ونكرة من معرفة، وينقسم أيضاً إلى بدلِ ظاهرٍ من ظاهرٍ ومضمرٍ من مضمرٍ وظاهرٍ من مضمر ومضمرٍ من ظاهر. وفائدةُ البدلِ: الإِيضاحُ بعد الإِبهام، ولأنه يُفيد تأكيداً من حيث المعنى إذ هو على نيَّةِ تكرارِ العاملِ.
و «الذين» في محلِّ جرٍّ بالإِضافة، وهو اسمٌ موصولٌ لافتقارِه إلى صلةٍ وعائدٍ وهو جمع «الذي» في المعنى، والمشهورُ فيه أن يكون بالياء رفعاً ونصباً وجراً، وبعضهم يرفعه بالواو جَرْياً له مَجْرى جمعِ المذكر السالم ومنه:
٧٥ - نحن اللذونَ صَبَّحوا الصَّباحا | يومَ النُّخَيْلِ غَارةً مِلْحاحَا |
٧٦ - وإنَّ الذي حَانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ | هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ |
وأَنْعَمْتَ: فعلٌ وفاعلٌ صلةُ الموصول، والتاءُ في «أنعمتَ» ضميرُ
والهمزة في «أَنْعمت» لجَعْلِ الشيء صاحبَ ما صيغ منه فحقُّه أن يتعدَّى بنفسه ولكنه ضُمِّن معنى تفضَّل فتعدَّى تعديَتَه. ولأفعل أربعةٌ وعشرون معنى، تقدَّم واحدٌ، والباقي: التعديةُ نحو: أخرجته، والكثرة نحو: أظبى المكان أي كَثُر ظِباؤه، والصيرورة نحو: أَغَدَّ البعير صار ذا غُدَّة، والإِعانة نحو: أَحْلَبْتُ فلاناً أي أَعَنْتُه على الحَلْب، والسَّلْب نحو: أَشْكَيْتُه أي: أَزَلْتُ شِكايته، والتعريض نحو: أَبَعْتُ المتاعَ أي: عَرَضْتُه للبيع، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو: أَحْمدته أي وجدتُه محموداً، وبلوغُ عدد نحو: أَعْشَرَتِ الدراهم، أي: بَلَغَتْ عشرةً، أو بلوغُ زمانٍ نحو أَصْبح، أو مكان نحو: أَشْأَمَ، وموافقهُ الثلاثي نحو: أَحَزْتُ المكانِ بمعنى حُزْته، أو أغنى عن الثلاثي نحو: أَرْقَلَ البعير، ومطاوعة فَعَل نحو: قَشَع الريحُ فَأقْشع السحابُ، ومطاوعة فَعَّل نحو: قَطَّرْته فَأَقْطَرَ، ونفي الغزيرة نحو: أَسْرع، والتسمية نحو: أخْطَأْتُه أي سَمَّيْتُه مخطئاً، والدعاء نحو: أَسْقيته أي قلت له: سَقاك الله، والاستحقاق نحو: أَحْصَدَ الزرعُ أي استحق الحصاد، والوصولُ نحو: أَعْقَلْته، أي: وَصَّلْتُ عَقْلِي إليه، والاستقبال نحو/: أفَفْتُه أي استقبلته بقولي أُفّ، والمجيء بالشيء نحو: أكثرتُ أي جئتُ بالكثير، والفرقُ بين أَفْعَل وفَعَل نحو: أشرقت الشمس أضاءت، وشَرَقَتْ: طَلَعت، والهجومُ نحو: أَطْلَعْتُ على القوم أي: اطَّلَعْتُ عليهم.
٧٧ - إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر | لَعَمْرُ الله أعجبني رضاها |
٧٨ - أبى الله إلاَّ أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ | على كلِّ أَفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ |
وهي مترددةٌ بين الحرفية والاسمية، فتكونُ اسماً في موضعين، أحدُهما: أَنْ يدخلَ عليها حرفُ الجر كقوله:
٧٩ - غَدَتْ مِنْ عليه بعد ما تَمَّ ظِمْؤُها | تَصِلُ وعن قَيْضٍ بزَيْزَاءَ مَجْهَلِ |
٨٠ - هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ | بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها |
وزعم بعضُهم أنَّ «على» مترددة بين الاسم والفعل والحرف: أمَّا الاسمُ والحرفُ فقد تقدَّما، وأمَّا الفعلُ قال: فإنك تقول: «علا زيدٌ» أي ارتفع وفي هذا نظرٌ، لأنَّ «على» إذا كان فعلاً مشتقٌ من العلوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً فلا اشتقاقَ له فليس هو ذاك، إلا أنَّ هذا القائلَ يَرُدُّ هذا النظرَ بقولهم: إن خَلاَ وعدا مترددان بين الفعلية والحرفية، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر.
والأصل في هاء الكناية الضمُّ، فإنْ تقدَّمها ياءٌ ساكنة أو كسرة كسرها غيرُ الحجازيين، نحو: عَلَيْهِم وفيهم وبهم، والمشهورُ في ميمها السكونُ قبل متحرك والكسرُ قبل ساكنٍ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاءَ، أمّا إذا ضَمَمْتَ فالكسرُ ممتنعٌ إلا في ضرورة كقوله: «وفيهُمِ الحكام» بكسر الميم.
وفي «عليهم» عشر لغات قُرئ ببعضها: عليهِمْ الهاء وضمِّها
و «غيرِ» بدلٌ من «الذين» بدلُ نكرة من معرفة، وقيل: نعتٌ للذين وهو مشكلٌ لأن «غير» نكرةٌ و «الذين» معرفةٌ، وأجابوا عنه بجوابين: أحدهما: أن «غير» إنما يكون نكرةً إذا لم يقع بين ضدين، فأمَّا إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغَيْريَّةُ فيتعرَّفُ «غير» حينئذٍ بالإِضافة، تقول: مررتُ بالحركة غير «السكون» والآيةُ من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب ابن السراج وهو مرجوح. والثاني: أن الموصولَ أَشْبَهَ النكرات في الإِبهام الذي فيه فعومل معاملةَ النكراتِ، وقيل: إنَّ «غير» بدلٌ من الضمير المجرور في «عليهم»، وهذا يُشْكِلُ على قول مَنْ يرى أن البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه، ويُنوَى بالأول الطرحُ، إذ يلزم منه خَلوُّ الصلة من العائدِ، ألا ترى أنَّ التقديرَ يصير: صراطَ الذين أنعمت على غيرِ المغضوبِ عليهم.
و «المغضوب» : خفضٌ بالإِضافةِ، وهو اسمُ مفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرور، ف «عَليهم» الأولى منصوبةُ المحلِّ والثانيةُ مرفوعتُه، وأَلْ فيه موصولةٌ والتقديرُ: غيرِ الذين غُضِبَ عليهم. والصحيحُ في ألْ الموصولة أنها اسمٌ لا حرفٌ.
واعلَمْ أنَّ لفظَ «غير» مفردٌ مذكرٌ أبداً، إلا أنه إنْ أريد به مؤنثٌ جاز تأنيثُ فعلِه المسندِ إليه، تقول: قامت غيرُك، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفةٌ بمعنى اسم الفاعل وهو مغايرٌ، ولذلك لا يتعرَّف بالإِضافة،
٨١ - إنَّ امرأً خَصَّني عَمْداً مودَّتَه | على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ |
وهي من الألفاظ الملازمة للإِضافة لفظاً أو تقديراً، فإدخالُ الألفِ واللامِ عليها خطأٌ.
وقرئ «غيرَ» نصباً، فقيل: حالٌ من «الذين» وهو ضعيفٌ لمجيئهِ من المضافِ إليه في غير المواضعِ الجائزِ فيها ذلك، كما ستعرِفُه إن شاء الله تعالى، وقيل: من الضمير في «عليهم» وقيل: على الاستثناءِ المنقطعِ، ومنعه الفراء قال: لأن «لا» لا تُزاد إلا إذا تقدَّمها نفيٌ، كقوله:
٨٢ - ما كان يرضى رسولُ الله فِعْلَهما | والطيبان أبو بكرٍ ولا عُمَرُ |
٨٣ - وما ألومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا | ................................. |
٨٤ - وَيلْحَيْنَني في اللهو ألاَّ أُحِبُّه | وللَّهوِ داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ |
٨٥ - أبى جودُه لا البخلَ واستعجلتْ نَعَمْ | به مِنْ فتىً لا يمنعُ الجودَ نائِلُه |
وقيل: إنَّ نَصْبَ «غيرَ» بإضمار أعني، ويُحكى عن الخليل. وقدَّر بعضُهم بعد «غير» محذوفاً، قال: التقديرُ: غيرَ صراطِ المغضوبِ، وأَطْلَقَ هذا التقديرَ، فلم يقيِّدْه بجرِّ «غير» ولا نصبِه، ولا يتأتَّى إلا مع نصبها، وتكون صفةً لقوله: ﴿الصراط المستقيم﴾، وهذا ضعيفٌ، لأنه متى اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ، فالأولى أن يكون صفةً ل «صراطَ الذين» ويجوز أن تكونَ بدلاً من ﴿الصراط المستقيم﴾ أو من ﴿صِرَاطَ الذين﴾ إلا انه يلزم منه تكرارُ البدل، وفي جوازِه نظرٌ، وليس في المسألة نقلٌ، إلا انهم قد ذكروا ذلك في بدلِ البَداء خاصة، أو حالاً من «الصراط» الأول أو الثاني.
.. واعلم أنه حيث جَعَلْنَا «غير» صفةً فلا بد من القول بتعريف «غير» أو بإبهامِ الموصوف وجريانه مَجْرى النكرةِ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك في القراءة بجرِّ «غير».
و «لا» في قوله: ﴿وَلاَ الضآلين﴾ زائدةٌ لتأكيد معنى النفي المفهومِ من «غير» لئلا يُتَوَهَّم عَطْفُ «الضالِّين» على ﴿الذين أَنْعَمْتَ﴾ وقال الكوفيون: هي بمعنى «غير»، وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صُرِّح ب «غير» كانَتْ للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخطاب.
و «الضَّالين» مجرورٌ عطفاً على «المغضوب»، وقُرِئَ شاذاً: الضَّأَلِّين بهمز الألف، وأنشدوا:
٨٦ - وللأرضِ أمَّا سُودُها فَتَجلَّلَتْ | بياضاً وأمَّا بِيضُها فادْهََأمَّتِ |
٨٧ - فخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَألَمِ | ..................................... |
٨٨ - ولَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً | ................................... |
فإن قيل: لِمَ أتى بصلة الذين فعلاً ماضياً؟ قيلٍ: لِيَدُلَّ ذلِك على ثبوتِ إنعام الله عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة أل اسماً ليشمل سائرَ الأزمانِ، وجاء به مبنياً للمفعول تَحْسِيناً للفظ، لأنَّ مَنْ طُلِبتْ منه الهدايةُ
والإِنعام: إيصالُ الإِحسان إلى الغير، ولا يُقال إلا إذا كان الموصَلُ إليه الإِحسانُ من العقلاءِ، فلا يقال: أَنْعم فلانٌ على فرسِه ولا حماره.
والغضبُ: ثَورَان دم القلب إرادَة الانتقامِ، ومنه قولُه عليه السلام: «اتقوا الغضبَ فإنه جَمْرةٌ تُوقَدُ في قلب ابن آدم، ألم تَرَوْا إلى انتفاخ أَوْداجه وحُمْرةِ عينيه»، وإذا وُصف به الباري تعالى فالمرادُ به الانتقام لا غيره، ويقال: فلانٌ غَضَبة «إذا كان سريعَ الغضبِ.
ويقال: غضِبت لفلانٍ [إذا كان حَيًّا]، وغضبت به إذا كان ميتاً، وقيل: الغضبُ تغيُّر القلبِ لمكروهٍ، وقيل: إن أريدَ بالغضبِ العقوبةُ كان صفةَ فِعْلٍ، وإنْ أريدَ به إرادةُ العقوبةِ كان صفةَ ذاتٍ.
والضَّلال: الخَفاءُ والغَيْبوبةُ، وقيل: الهَلاك، فمِن الأول قولُهم: ضَلَّ الماءُ في اللبن، وقوله:
٨٩ - ألم تسأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيارُ | عن الحيِّ المُضَلَّلِ أين ساروا |
وفي آمين لغتان: المدُّ والقصرُ، فمن الأول قوله:
٩٠ - آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدةٍ | حتى أُبَلِّغَهَا ألفينِ آمينا |
٩١ - يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً | ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا |
٩٢ - تباعَدَ عني فُطْحُلٌ إذ دعوتُه | آمينَ فزاد الله ما بيننا بُعْدا |
سورة الفاتحة
سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.
ترتيبها المصحفي
1نوعها
مكيةألفاظها
29ترتيب نزولها
5العد المدني الأول
7العد المدني الأخير
7العد البصري
7العد الكوفي
7العد الشامي
7أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:
* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):
دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).
* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).
* (السَّبْعُ المَثَاني):
دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).
* سورة (الصَّلاة):
فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).
* سورة (الرُّقْية):
دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).
وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).
* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:
فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).
* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:
لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).
* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:
لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).
* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):
فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).
* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:
فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).
اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:
أولًا: الألوهيَّة.
ثانيًا: اليوم الآخر.
ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).
رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.
وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:
توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.
وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.
وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.
وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.
وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.
وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).
بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:
أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.
ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.
ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.
فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.
ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.
ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).