﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - استدراكٌ في بحث البسملة: والباء (١) في ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾: حرف خافض يخفض ما بعده، مثل: من وعن، والمتعلق به مضمر محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، تقديره: أبدأ باسم الله أو باسم الله أبدأ أو أقرأ. وإنما طوّلت الباء في ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، وأسقطت الألف؛ طلبا للخفة، وقيل: لمّا أسقطوا الألف عوضوا طولها عن الألف المحذوفة، وأثبتت الألف في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، وقوله: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾؛ لقلّة استعماله. وقيل: إنّما طوّلوا الباء؛ لأنّهم أرادوا أن يستفتحوا كتاب الله بحرف معظم. وقيل: الباء حرف منخفض
الصورة، فلمّا اتصل باسم الله ارتفع واستعلى، وقيل: إنّ عمر بن عبد العزيز كان يقول لكتّابه: طوّلوا الباء من ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ وأظهروا السين، ودوّروا الميم؛ تعظيما لكتاب الله تعالى.
والاسم: هو المسمى عينه، وذاته، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى﴾، ثمّ نادى الاسم فقال: ﴿يا يَحْيى﴾، وقال: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾، و ﴿تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾، وهذا القول ليس بقوي. والصحيح المختار: أنّ الاسم غير المسمى، وغير التسمية، فالاسم: ما تعرف به ذات الشيء، وذلك؛ لأنّ الاسم هو الأصوات المقطّعة، والحروف المؤلّفة على ذات ذلك الشيء، فثبت بهذا أنّ الاسم غير المسمى، وأيضا: قد تكون الأسماء كثيرة، والمسمّى واحد، كقوله
وأجيب عن قوله تعالى: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى﴾ بأنّ المراد: ذات الشخص المعبّر عنه بيحيى، لا نفس الاسم. وأجيب عن قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ و ﴿تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾: بأنّ معنى هذه الألفاظ: يقتضي إضافة الاسم إلى الله تعالى، وإضافة الشيء إلى نفسه محال. وقيل: كما يجب تنزيه ذاته تعالى عن النقص فكذلك يجب تنزيه أسمائه.
وكون الاسم غير التسمية، هو أنّ التسمية: عبارة عن تعيين اللفظ المعيّن؛ لتعريف ذات الشيء، والاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة، والفرق ظاهر مما ذكرنا. واختلفوا في اشتقاق الاسم كما مرّ، فقال البصريون: من السموّ، وهو العلوّ، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر به، وعلا عليه، فكأنه علا على معناه، وصار علما له. وقال الكوفيون: من السمة، وهي العلامة، فكأنّه علامة لمسمّاه.
وحجة البصريين: لو كان الاسم اشتقاقه من السمة؛ لكان تصغيره وسيما، وجمعه أو ساما، وأجمعوا على أنّ تصغيره سميّ، وجمعه أسماء، وآسام.
﴿اللَّهِ﴾: هو اسم (١) خاص لله تعالى، تفرّد به البارىء سبحانه وتعالى، ليس بمشتقّ، ولا يشركه فيه أحد، وهو الصحيح المختار. دليله قوله تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾. وقيل: هو مشتق من أله يأله إلاهة من باب فتح، مثل: عبد الرجل يعبد عبادة. دليله قوله تعالى: ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾؛ أي: وعبادتك على قراءة قرّاء كسر الهمزة. ومعناه: المستحق للعبادة دون غيره. وقيل: من الوله، وهو الفزع؛ لأن الخلق يولهون إليه؛ أي: يفزعون إليه في حوائجهم. قال بعضهم:
ولهت إليكم في بلايا تنوبني | فألفيتكم فيها كرائم محتد |
تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾.
ومن خصائص هذا الاسم: أنّك إذا حذفت منه شيئا، بقي الباقي يدّل عليه، فإن حذفت الألف بقي لله، وإن حذفت اللام، وأثبتّ الألف بقي إله، وإن حذفتهما بقي له، وإن حذفت الألف واللامين معا، بقي هو، والواو عوض عن الضمّة.
وذهب بعضهم إلى أنّ هذا الاسم هو الاسم الأعظم؛ لأنّه يدّل على الذات، وباقي الأسماء تدلّ على الصفات.
﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرقّ من الآخر. وقيل: هما بمعنى؛ مثل: ندمان ونديم، ومعناهما: ذو الرحمة، وإنما جمع بينهما؛ للتأكيد. وقيل: ذكر أحدهما بعد الآخر؛ تطميعا لقلوب الراغبين إليه. وقيل: الرحمن فيه معنى العموم، والرحيم فيه معنى الخصوص. فالرحمن: بمعنى الرزاق في الدنيا، وهو على العموم لكافة الخلق المؤمن والكافر، والرحيم: بمعنى الغفور الكافي للمؤمنين في الآخرة، فهو على الخصوص؛ ولذلك قيل: رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة، ورحمة الله؛ إرادة الخير والإحسان لأهله. وقيل: هي ترك عقوبة من يستحق العقاب، وإسداء الخير والإحسان إلى من لا يستحق، فهو على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل. وقيل: الرحمن بكشف الكروب، والرحيم بغفر الذنوب. وقيل: الرحمن بتبيين الطريق، والرحيم بالعصمة والتوفيق، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق أسمائه. اه. من الخازن.
٢ - ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ أي: جنس الحمد، والثناء الحسن مستحقّ لله سبحانه وتعالى وحده، فلا يستحق لغيره؛ لأنّه الفاعل المختار. والأولى (١) من
و ﴿الْحَمْدُ﴾ لغة (٢): هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، سواء كان في مقابلة نعمة أم لا.
وعرفا: فعل يدلّ على تعظيم المنعم بسبب كونه منعما، سواء كان قولا باللسان؛ بأن يثني عليه به، أو اعتقادا بالجنان، بأن يعتقد اتصافه بصفات الكمال، أو عملا وخدمة بالأعضاء، والأركان؛ بأن يجهد نفسه في طاعته، فمورد العرفي؛ أي: محلّه عامّ، ومتعلّقه؛ أي: سببه الباعث عليه، وهو النعمة خاصّ، والشكر: مقابلة النعمة قولا، وعملا، واعتقادا، قال بعضهم:
وما كان شكري وافيا بنوالكم | ولكنني حاولت في الجهد مذهبا |
أفادتكم النعماء منّي ثلاثة | يدي ولساني والضمير المحجّبا |
(٢) البيضاوي.
ورفعه بالابتداء، وخبره ﴿لِلَّهِ﴾، وأصله النصب، وقد قرىء به؛ لأنّه من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة أقيمت مقامها، لا تكاد تستعمل معها، كسقيا لك، ورعيا لك. وإنّما عدل عنه إلى الرفع؛ ليدلّ على عموم الحمد، وثباته دون تجدده، وحدوثه، ولهذا أجمع (١) عليها القرّاء السبعة. وقراءة النصب تحتاج إلى عامل مقدر من مادة الحمد، واللام عليها؛ للتبيين، تقديره: أحمد لله، أو حمدت لله، فيتخصّص الحمد؛ بتخصيص فاعله، وأشعر بالتجدد والحدوث، واللام متعلّقة بالعامل المحذوف: ك: لام سقيا لك، وقدر بعضهم عاملا للنصب فعلا غير مشتق من الحمد؛ أي: أقول الحمد لله، أو إلزموا الحمد لله، كما حذفوا من نحو: اللهم وضبعا وذئبا، والأول هو الصحيح؛ لدلالة اللفظ عليه، وقرىء ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ (٢) باتباع الدال اللام، وبالعكس تنزيلا لهما، من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة. قال الشيخ داود القيصري (٣): الحمد قوليّ، وفعليّ، وحاليّ، أمّا القولي: فحمد اللسان، وثناؤه عليه بما أثنى به الحق على نفسه، على لسان أنبيائه عليهم السلام، وأمّا الفعليّ: فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات، والخيرات؛ ابتغاء لوجه الله تعالى، وتوجها إلى جنابه الكريم؛ لأنّ الحمد كما يجب على الإنسان باللسان، كذلك يجب عليه بحسب كلّ عضو، بل على كلّ عضو، كالشكر، وعند كلّ حال من الأحوال، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «الحمد لله على كلّ حال»، وذلك لا يمكن، إلّا باستعمال كلّ عضو فيما خلق لأجله، على الوجه
(٢) البيضاوي.
(٣) روح البيان.
وأما الحاليّ: فهو الذي يكون بحسب الروح، والقلب، كالاتصاف بالكمالات العلمية، والعملية، والتخلّق بالأخلاق الإلهية؛ لأنّ الناس مأمورون بالتخلّق بأخلاق الله تعالى، بلسان الأنبياء عليهم السلام؛ لتصير الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم.
وورد في الأثر (١): (الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده). وقد جعله رأس الشكر؛ لأنّ ذكر النعمة باللسان، والثناء على من أسداها، يشهرها بين الناس، ويجعل صاحبها القدوة المؤتسى به، أمّا الشكر بالقلب: فهو خفيّ قلّ من يعرفه، وكذلك الشكر بالجوارح مبهم لا يستبين لكثير من الناس.
﴿لِلَّهِ﴾ الله (٢): علم على المعبود بحقّ، المستجمع لجميع صفات الكمال، عربي، مرتجل، جامد، أي: غير مشتقّ، وهو الصحيح. وعند الزمخشري: أنّه اسم جنس صار علما بالغلبة من أله بمعنى: تحيّر. والإله: هو المعبود سواء بحقّ، أم بباطل، ثمّ غلب في عرف الشرع على المعبود بحقّ، وهو الذات الواجب الوجود. اه. كرخي.
وقد ورد في فضل ﴿الْحَمْدُ﴾ أحاديث (٣):
منها: ما أخرجه أحمد، والنسائي، والحاكم، وصححه، والبخاري في «الأدب المفرد» عن الأسود بن سريع قال: قلت: يا رسول الله! ألا أنشدك محامد حمدت بها ربّي تبارك وتعالى؟ فقال: «أما إنّ ربّك يحبّ الحمد».
وأخرج الترمذي وحسّنه، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله».
وأخرج ابن ماجه، والبيهقي بسند حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما
(٢) الفتوحات.
(٣) الشوكاني.
وأخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول»، والقرطبي في «تفسيره» عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنّ الدنيا كلّها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثمّ قال: الحمد لله لكان الحمد أفضل من ذلك»، قال القرطبي: معناه: لكان إلهامه الحمد، أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا؛ لأنّ ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى.
وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبد ينعم عليه بنعمة، إلّا كان الحمد أفضل منها».
وأخرج عبد الرزاق في «المصنف» نحوه عن الحسن مرفوعا.
وأخرج مسلم، والنسائي، وأحمد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان» الحديث.
وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي وحسّنه، وابن مردويه، عن رجل من بني سليم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: سبحان الله نصف الميزان، والحمد لله تملأ الميزان، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والطهور نصف الإيمان، والصوم نصف الصبر».
وغير ذلك من الأحاديث الواردة.
وفي «القرطبي» (١): اختلف العلماء: أيّما أفضل؟ قول العبد: الحمد لله ربّ العالمين أو قوله: لا إله إلّا الله؟ فقالت طائفة: قول الحمد لله ربّ العالمين أفضل؛ لأنّ في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلّا الله، ففي قوله: الحمد لله توحيد، وحمد، وفي قوله: لا إله إلّا الله
توحيد فقط. وقالت طائفة: لا إله إلّا الله أفضل؛ لأنّها تدفع الكفر، والإشراك، وعليها يقاتل الخلق. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله». واختار هذا القول ابن عطيّة. قال: ويدّل على ذلك: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل ما قلت أنا، والنبيون من قبلي: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له». متفق عليه.
قريب محيط مالك ومدبّر | مربّ كثير الخير والمولي للنعم |
وخالقنا المعبود جابر كسرنا | ومصلحنا والصاحب الثابت القدم |
وجامعنا والسيّد احفظ فهذه | معان أتت للرّب فادع لمن نظم |
وقيل: هو وصف من ربّه يربّه، فهو ربّ، كقولهم: نمّ ينمّ نمّا ونميمة، فهو نمّ.
سمّي به المالك؛ لأنّه يحفظ ما يملكه، ويربّيه، ويصلحه. وقيل: هو اسم فاعل حذفت ألفه، فأصله: رابّ، كما قالوا: رجل بارّ، وبرّ.
وعبارة المراغي: والربّ (٢): هو السيّد المربّي الذي يسوس من يربيه، ويدبر شؤونه، وتربية الله للناس نوعان: تربية خلقية تكون بتنمية أجسامهم حتى تبلغ الأشدّ، وتنمية قواهم النفسية، والعقلية، وتربية دينية تهذيبية، تكون بما يوحيه إلى أفراد منهم؛ ليبلّغوا للناس ما به تكمل عقولهم، وتصفو نفوسهم، وليس لغيره تعالى أن يشرع للناس عبادة، ولا أن يحل شيئا، ويحرّم آخر إلّا بإذن منه.
ويطلق الرّب: على الناس، فيقال: ربّ الدار، وربّ هذه الأنعام، كما قال
(٢) المراغي.
وعبارة «الروح»: والرّب: (١) بمعنى التربية، والإصلاح، أمّا في حقّ العالمين: فيربّيهم بأغذيتهم، وسائر أسباب بقاء وجودهم، وأمّا في حقّ الإنسان:
فيربّيه تارة بأطواره، وفيض قوى أنواره في أعضائه. فسبحان من أسمع بعظم، وبصّر بشحم، وأنطق بلحم، وأخرى بترتيب
غذائه في النبات بحبوبه، وثماره، وفي الحيوان بلحومه، وشحومه، وفي الأراضي بأشجاره، وأنهاره، وفي الأفلاك بكواكبه، وأنواره، وفي الزمان بسكونك، وتسكين الحشرات، والحركات المؤذية في الليالي، وحفظك، وتمكينك من ابتغاء فضله في النهار. فيا هذا! يربّيك كأنّه ليس له عبد سواك، وأنت لا تخدمه، أو تخدمه كأنّ لك ربّا غيره. انتهى.
وقرأ زيد بن عليّ، وطائفة (٢): ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ بالنصب على المدح، وهي فصيحة، لولا خفض الصفات بعدها، وضعّفت إذ ذاك، على أنّ الأهوازي حكى في قراءة زيد بن عليّ أنّه قرأ: ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ بنصب الثلاثة، فلا ضعف إذ ذاك، وإنّما ضعّفت قراءة نصب رب، وخفض الصفات بعدها؛ لأنّهم نصّوا على أنّه لا إتباع بعد القطع في النعوت، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلا، ولا سيّما على مذهب الأعلم، إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة، وحسّن ذلك على مذهب غيره، كونه وصفا خاصّا، وكون البدل على نيّة تكرار العامل، فكأنّه مستأنف من جملة أخرى، فحسن النصب. وقول من زعم:
أنّه نصب رب بفعل دلّ عليه الكلام قبله، كأنّه قيل: نحمد الله ربّ العالمين.
ضعيف؛ لأنّه مراعاة التوهّم، وهو من خصائص العطف، ولا ينقاس فيه.
دقيقة: (٣) في لفظ ربّ خصوصيّة لا توجد في غيره من أسمائه تعالى، وهي:
(٢) البحر المحيط.
(٣) هداية الطالب.
وقوله: ﴿الْعالَمِينَ﴾: اسم جمع لعالم بفتح اللام، لا جمع له؛ لعدم العلمية، أو الوصفية فيه، وقيل: جمع له شاذ. قال في «الكشاف»: ساغ ذلك لوجود معنى الوصفية فيه، وهي الدلالة على معنى العلم. وفي البيضاوي: والعالم:
اسم لما يعلم به، كالخاتم، والقالب، من العلامة؛ لأنّه علامة على صانعه. وهو كلّ (١) ما سوى الله تعالى من الجواهر، والأعراض، فإنّها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدلّ على وجوده؛ لأنّها محدثة، وكلّ محدث له صانع، فالعالم له صانع. وإنّما جمعه؛ ليشمل جميع ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلّب العقلاء منهم، فجمعه بالياء والنون، كسائر أوصافهم. اه.
فإن قلت (٢): لم جمع العالمين جمع قلّة، مع أنّ المقام مستدع للإتيان بجمع الكثرة، كالعوالم؟
قلت: تنبيها على أنهم، وإن كثروا فهم قليلون في جانب عظمته تعالى، وكبريائه.
فإن قلت: الجمع يقتضي اتفاق الأفراد في الحقيقة، وهي هنا مختلفة.
قلنا: بل هي متفقة من حيث إنّ كلّا منها علامة يعلم بها الخالق، والاختلاف إنما عرض بواسطة أسمائها. اه. كرخي.
وقيل (٣): اسم وضع لذوي العلم من الملائكة، والثقلين، وتناوله لغيره على سبيل الاستتباع. وقيل: عنى به الناس ههنا، فإنّ كلّ واحد منهم عالم من حيث، إنّه يشمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض، يعلم بها الصانع، كما يعلم بما أبدعه في العالم، ولذلك سوّى بين النظر فيهما، حيث قال: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾.
وقد جرت (٤) عادتهم، على أن لا يطلقوا هذا اللفظ، إلّا على كلّ جماعة
(٢) الفتوحات.
(٣) البيضاوي.
(٤) المراغي.
وخلاصة معنى الآية: أنّ كلّ ثناء فهو لله تعالى، إذ هو مصدر جميع الكائنات، وهو الذي يسوس العالمين، ويربّيهم من مبدئهم إلى نهايتهم، ويلهمهم ما فيه خيرهم، وصلاحهم، فلله الحمد على ما أسدى، والشكر له على ما أولى.
وفي «الخازن»: واختلف في مبلغ عددهم، فقيل: لله ألف عالم، ستمائة عالم في البحر، وأربعمائة في البرّ. وقيل: ثمانون ألف عالم، أربعون ألفا في البرّ، ومثلهم في البحر. وقيل: ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد، وما العمران في الخراب إلّا كفسطاط في صحراء، قاله: وهب بن منبه.
الفسطاط: الخيمة. اه.
وفي «الروح»: وقال الضحاك: لله ثلاثمائة وستّون عالما، ثلاثمائة منهم:
عراة حفاة لا يعرفون خالقهم، وهم حشو جهنم. وستّون عالما: يلبسون الثياب، مرّ بهم ذو القرنين، وكلّمهم. وقال كعب الأحبار: لا يحصى؛ لقوله تعالى: ﴿وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ الله تعالى خلق الخلق أربعة أصناف:
الملائكة، والشياطين، والجنّ، والإنس، ثمّ جعل هؤلاء عشرة أجزاء، تسعة منهم الملائكة، وواحد الثلاثة الباقية، ثمّ جعل هذه الثلاثة، عشرة أجزاء، تسعة منهم الشياطين، وجزء واحد الجنّ والإنس، ثمّ جعلهما عشرة أجزاء، فتسعة منهم الجنّ، وواحد الإنس، ثمّ جعل الإنس مائة وخمسة وعشرين جزءا، فجعل مائة جزء في بلاد الهند، منهم ساطوح، وهم: أناس رؤوسهم مثل رؤوس الكلاب، وماسوخ وهم: أناس آذانهم كآذان الفيلة، ومالوف، وهم: أناس لا يطاوعهم أرجلهم، يسمّون دوال باي، ومصير كلّهم إلى النار. وجعل اثني عشر
وفي الحديث: «إنّ اليهود افترقت إحدى وسبعين فرقة، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين
فرقة، كلّهم في النار إلّا فرقة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «هم من على ما أنا عليه وأصحابي».
يعني: ما أنا عليه وأصحابي من الاعتقاد، والفعل، والقول، فهو حقّ، وطريق موصل إلى الجنة، والفوز، والفلاح، وما عداه باطل. وطريق النار: إن كانوا إباحيين فهم خلود، وإلّا فلا. انتهى.
٣ - ﴿الرَّحْمنِ﴾؛ أي: المنعم بما لا يتصوّر صدور تلك النعمة من العباد.
﴿الرَّحِيمِ﴾؛ أي: المنعم بما يتصوّر صدور تلك النعمة من العباد، فلا يقال لغير الله: رحمن، ويقال لغيره من العباد: رحيم، وقد مرّ ذكرهما في البسملة، وهو دليل على أنّ البسملة ليست من (الفاتحة)، إذ لو كانت منها لما أعادهما؛ لخلّو الإعادة من الإفادة. اه. «نسفي». وقيل: كرّرهما (١) مع بقيّة الأوصاف؛ تعليلا لاستحقاقه الحمد. والمعنى عليه: وإنّما استحقّ الحمد من عباده؛ لكونه ربّا موجدا لهم، منعما عليهم بالنعم كلّها ظاهرها وباطنها، عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب. وقيل: كرّرهما (٢)؛ ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر من غيرها من الأمور، وأنّ الحاجة إليه أكثر، فنبّه سبحانه
(٢) الخازن.
وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع في جنّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد». انتهى.
وفي «روح البيان»: في التكرار وجوه:
أحدها: ما سبق من أنّ رحمتي البسملة ذاتيّتان، ورحمتي (الفاتحة) صفاتيتان.
والثاني: ليعلم أنّ التسمية ليست من (الفاتحة).
والثالث: أنّه ندب العباد إلى كثرة الذكر، فإنّ من علامة حبّ الله، حبّ ذكر الله. وفي الحديث: «من أحبّ شيئا أكثر ذكره».
والرابع: أنّه ذكر ربّ العالمين، فبيّن أنّ ربّ العالمين: هو الرحمن الذي يرزقهم في الدنيا، الرحيم: الذي يغفر لهم في العقبى، ولذلك ذكر بعده ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. يعني: أنّ الربوبية إمّا بالرحمانية: وهي رزق الدنيا، وإما بالرحيمية: وهي المغفرة في العقبى.
والخامس: أنّه ذكر الحمد، وبالحمد تنال الرحمة، فإنّ أول من حمد الله تعالى من البشر: آدم عليه السلام حين عطس، فقال: الحمد لله، وأجيب في الحال: يرحمك ربّك، ولذلك خلقه، فعلّم خلقه الحمد، وبين أنّهم ينالون رحمته بالحمد.
والسادس: أنّ التكرار للتعليل كما مرّ؛ لأنّ ترتيب الحمد على هذه الأوصاف أمارة علّيّة مأخذها، فالرحمانية، والرحيمية من جملتها؛ لدلالتهما على
والفرق بين الرَّحْمنِ والرَّحِيمِ: إمّا باختصاص الحق بالأوّل، أو بعمومه، أو بجلائل النعم، فعلى الأول: هو الرحمن بما لا يصدر جنسه من العباد، والرحيم: بما يتصور صدوره منهم، فذا كما روي عن ذي النون المصري - رحمة الله تعالى - قال: وقعت ولولة في قلبي، فخرجت إلى شطّ النيل، فرأيت عقربا يعدو، فتبعته، فوصل إلى ضفدع على الشطّ، فركب ظهره، وعبر به النيل، فركبت السفينة واتبعته، فنزل، وعدا إلى شابّ نائم، وإذا أفعى بقربه تقصده، فتواثبا، وتلادغا، وماتا، وسلم النائم.
ويحكى: أنّ ولد الغراب إذا خرج من القشر يكون كلحم أحمر، ويفرّ الغراب منه، فيجتمع عليه البعوض، فيلتقمه إلى أن ينبت ريشه، فعند ذلك تعود الأمّ إليه، ولهذا قيل: يا رازق النّعاب في عشّه!
وأمّا على أنّ الرحمن عامّ، فقيل: كيف ذلك وقلّما يخلو أحد، بل حالة له عن نوع بلوى؟ قلنا: الحوادث منها ما يظنّ أنّه رحمة ويكون نقمة، وبالعكس، قال الله تعالى: ﴿فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، فالأول كما قال الشاعر:
إنّ الشباب والفراغ والجده | مفسدة للمرء أيّ مفسده |
وعبارة المراغي هنا: وقد ذكر سبحانه هذين الوصفين؛ ليبيّن لعباده أن ربوبيته ربوبيّة رحمة وإحسان، ليقبلوا على عمل ما يرضيه، وهم مطمئنو النفوس منشرحو الصدور، لا ربوبيّة جبروت وقهر لهم. والعقوبات التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، لمن تعدّى حدوده، وانتهك حرماته، هي قهر في الظاهر، ورحمة في الحقيقة؛ لأنها تربية للناس وزجر لهم حتى لا ينحرفوا عن الجادّة التي شرعها لهم، إذ في اتباعها سعادتهم ونعيمهم، وفي تجاوزها شقاؤهم وبلاؤهم، ألا ترى إلى الوالد الرؤوف كيف يربّي أولاده بالترغيب في عمل ما ينفع، والإحسان إليهم إذا لزموا الجادّة، فإذا هم حادوا عن الصراط السويّ، لجأ إلى الترهيب بالعقوبة حين لا يجد منها محيصا؟. قال أبو تمّام:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما | فليقس أحيانا على من يرحم |
أنّ وصف الملكيّة ثابت له تعالى أزلا، وظهوره يكون يوم القيامة؛ لإقرار جميع الخلق به.
واختلف في أيّ القراءتين أبلغ وأولى؟ فقيل: ملك بلا ألف؛ لأنّه أعمّ وأبلغ من مالك، إذ كلّ ملك مالك ولا عكس؛ ولأنّ أمر الملك نافذ على
وعبارة المراغي هنا: قرأ بعض القراء ﴿مالك﴾ بالألف، وبعض آخر ﴿ملك﴾ بلا ألف، والفارق بينهما: أنّ المالك: هو ذو الملك بكسر الميم، والملك: هو ذو الملك بضمّ الميم، وقد جاء في الكتاب الكريم ما يعاضد كلّا من القراءتين، فيعاضد الأولى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾، ويعاضد الثانية قوله: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾.
قال الراغب: والقراءتان وإن رويتا عن جمع كثير من الصحابة فالثانية يعني: ملك بلا ألف يكنفها من الجلال والروعة، وإثارة الخشية ما لا يوجد مثله في القراءة الأولى يعني: مالك بالألف، فهي تدلّ على أنّه سبحانه هو المتصرّف في شؤون العقلاء بالأمر والنهي والجزاء، ومن ثمّ يقال: ملك الناس، ولا يقال:
ملك الدابة، وملك العبد، وملك الدار.
فائدة: والفرق بين ﴿الْمُلْكُ﴾ بضمّ الميم، و ﴿الْمِلْكُ﴾ بكسرها: أنّ الملك بضمّ الميم: عبارة عن السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، والغلبة التامة، والقدرة على التصرّف الكلّي بالأمر والنهي. والملك بكسر الميم: عبارة عن السلطنة، والتصرف غير التامّين. والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الرب سبحانه:
أنّ الملك صفة لذاته، والمالك صفة لفعله كما في الشوكاني.
﴿يَوْمِ﴾ واليوم في العرف: عبارة عمّا بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان. وفي الشرع: عمّا بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس، والمراد هنا:
مطلق الوقت؛ لعدم الشمس والفجر ثمّ. و ﴿الدِّينِ﴾: الجزاء إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ، ومنه قولهم: كما تدين تدان، وبيت الحماسة:
ولم يبق سوى العدوا... ن دنّاهم كما دانوا
والمعنى: مالك الأمر كلّه في يوم الجزاء، فإضافة اليوم إلى الدين لأدنى ملابسة، كإضافة سائر الظروف إلى ما وقع فيها من الحوادث؛ كيوم الأحزاب، ويوم الفتح، وتخصيصه؛ إمّا لتعظيمه وتهويله، أو لبيان تفرّده بإجراء الأمر فيه، وانقطاع العلائق بين الملّاك والأملاك حينئذ بالكلّية، ففي ذلك اليوم لا يكون مالك، ولا قاض، ولا مجاز غيره تعالى. وأصل الملك والملك: الربط، والشدّة، والقوّة، فلله في الحقيقة؛ القوّة الكاملة، والولاية النافذة، والحكم الجاري، والتصرّف الماضي، وهو للعباد مجاز، إذ لملكهم بداية ونهاية، وعلى البعض لا على الكلّ، وعلى الجسم لا العرض، وعلى النّفس لا النّفس، وعلى الظاهر لا الباطن، وعلى
الحيّ لا الميّت، بخلاف المعبود الحقّ، إذ ليس لملكه زوال، ولا لملكه انتقال.
وقال في «تفسير الإرشاد»: قرأ أهل الحرمين المحترمين ﴿مَلْكِ﴾ من الملك: الذي هو عبارة عن السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، والغلبة التامّة، والقدرة على التصرف الكلّي في أمور العامّة بالأمر والنهي، وهو الأنسب بمقام الإضافة إلى يوم الدين. انتهى. ولكلّ قراءة وجوه ترّجحها كما ذكرنا سابقا.
ويحكى عن أبي عبد الله، محمد بن شجاع الثّلجيّ - رحمه الله تعالى - أنّه قال: كان من عادتي قراءة ﴿مالك﴾، فسمعت من بعض الأدباء أنّ ﴿ملك﴾ أبلغ، فتركت عادتي وقرأت ﴿مَلِك﴾، فرأيت في المنام قائلا يقول: لم نقصت من حسناتك عشرا، أما سمعت قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ القرآن كتب له بكلّ حرف عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفعت له عشر درجات»؟.
فانتبهت فلم أترك عادتي حتى رأيت ثانيا في المنام أنّه قيل لي: لم لا تترك هذه العادة، أما سمعت قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقرؤوا القرآن فخما مفخّما»؛ أي: عظيما معظّما. فأتيت قطربا، وكان إماما في اللغة، فسألته ما بين المالك والملك من الفرق؟ فقال: بينهما فرق كثير، أمّا المالك: فهو الذي ملك شيئا من الدنيا، وأما
وفي «البيضاوي»: وإجراء (١) هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجدا للعالمين، ربّا لهم، منعما عليهم بالنعم كلّها ظاهرها وباطنها، عاجلها وآجلها، مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب؛ للدلالة على أنّه الحقيق بالحمد لا أحد أحقّ به منه، بل لا يستحقّه على الحقيقة سواه، فإنّ ترتّب الحكم على الوصف يشعر بعلّيّته له، وللإشعار من طريق المفهوم على أنّ من لم يتّصف بتلك الصفات؛ لا يستأهل لأن يحمد فضلا عن أن يعبد؛ ليكون دليلا على ما بعده، فالوصف الأول: لبيان ما هو الموجب للحمد، وهو الإيجاد والتربية، والثاني والثالث: للدلالة على أنّه مفضّل بذلك، مختار فيه، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات، أو وجوب عليه قضيّة بسوابق الأعمال حتى يستحقّ به الحمد، والرابع:
لتحقيق الاختصاص، فإنّه مما لا يقبل الشركة، ولتضمين الوعد للحامدين، والوعيد للمعرضين. انتهى.
وفي «الروح»: والوجه في سرد الصفات الخمس كأنّه يقول: خلقتك فأنا إله، ثمّ ربّيتك بالنعم، فأنا ربّ، ثمّ عصيت فسترت عليك، فأنا رحمن، ثمّ تبت فغفرت، فأنا رحيم، ثمّ لا بدّ من الجزاء، فأنا مالك يوم الدين.
فعلم مما تقدم: أنّ يوم الدين هو يوم القيامة، سمّي به؛ لأنّه يدان فيه كلّ أحد، ويجازى على عمله. وقيل: الدين الشريعة. وقيل: الطاعة. والمعنى: يوم جزاء الدين، فالدين يطلق لغة: على الحساب، وعلى المكافأة، وعلى الشريعة وعلى الطاعة، وعلى الدين وعلى الجزاء، وهو المناسب هنا، وإنّما قال: (٢) ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ولم يقل: ﴿مالك الدين﴾؛ ليعلم أنّ للدين يوما معيّنا يلقى فيه كلّ عامل جزاء عمله.
(٢) المراغي.
أمّا الناس باعتبارهم أمما وجماعات: فيظهر جزاؤهم في الدنيا ظهورا تامّا، فما من أمّة انحرفت عن الصراط السويّ، ولم تراع سنّة الله في الخليقة، إلّا حلّ بها ما تستحق من الجزاء من فقر بعد غنى، وذلّ بعد عزّة، ومهانة بعد جلال وهيبة.
فائدة: (١) ومن لطائف ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾: أنّ مخالفة الملك تؤول إلى خراب العالم وفناء الخلق، فكيف مخالفة ملك الملوك؟ كما قال تعالى: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ والطاعة سبب المصالح، كما قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى﴾، فعلى الرعيّة مطاوعة الملوك، وعلى الملوك مطاوعة ملك الملوك؛ لتنتظم مصالح العالم. ومن لطائفه أيضا: أنّ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يبيّن أنّ كمال ملكه بعدله حيث قال: ﴿وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾، فالملك المجازي إن كان عادلا كان حقّا، فدرّت الضروع، ونمت
قرأ (١) ﴿مالِكِ﴾ على وزن فاعل بالخفض عاصم، والكسائي، وخلف في اختياره، ويعقوب، وهي قراءة العشرة المبشرة إلّا طلحة، والزبير، وقراءة كثير من الصحابة منهم: أبيّ، وابن مسعود، ومعاذ، وابن عباس، والتابعين منهم: قتادة، والأعمش. وقرأ ملك على وزن فعل بالخفض باقي السبعة، وزيد، وأبو الدرداء، وابن عمر، والمسور، وكثير من الصحابة والتابعين. وقرأ ﴿مَلْكِ﴾ على وزن سهل: أبو هريرة، وعاصم الجحدري، ورواها الجعفي، وعبد الوارث، عن أبي عمرو، وهي لغة بكر بن وائل. وقرأ ﴿ملكي﴾ بإشباع كسرة الكاف: أحمد بن صالح، عن ورش، عن نافع. وقرأ ﴿مِلك﴾ على وزن عجل: أبو عثمان النهدي، والشعبي، وعطيّة، ونسبها ابن عطية إلى أبي حياة. وقال صاحب اللوامح: قرأ أنس بن مالك، وأبو نوفل، عمر بن مسلم بن أبي عدي ﴿مَلِكَ يوم الدين﴾ بنصب الكاف من غير ألف، وجاء كذلك عن أبي حياة. انتهى. وقرأ كذلك إلّا أنّه رفع الكاف: سعد بن أبي وقاص، وعائشة، ومورّق العجليّ. وقرأ ﴿مَلَكَ﴾ فعلا ماضيا: أبو حياة، وأبو حنيفة، وجبير بن مطعم، وأبو عاصم، عبيد بن عمير الليثي، وأبو المحشر، عاصم بن ميمون الجحدري، فينصبون اليوم. وذكر ابن عطيّة: أنّ هذه قراءة يحيى بن يعمر، والحسن، وعليّ بن أبي طالب. وقرأ ﴿مالك﴾ بنصب الكاف: الأعمش، وابن السميقع، وعثمان بن أبي سليمان، وعبد الملك قاضي الهند. وذكر ابن عطيّة: أنّها قراءة عمر بن عبد العزيز، وأبي صالح السمان، وأبي عبد الملك الشاميّ. وروى ابن أبي عاصم، عن اليمان ﴿ملكا﴾ بالنصب والتنوين. وقرأ ﴿مالك﴾ برفع الكاف والتنوين: عون العقيليّ، ورويت، عن خلف بن هشام، وأبي عبيد، وأبي حاتم، وبنصب ﴿اليوم﴾. وقرأ ﴿مالك يوم﴾ بالرفع والإضافة: أبو هريرة، وأبو حياة، وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنه، ونسبها صاحب اللوامح إلى أبي روح، عون بن
٥ - ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾؛ أي: إيّاك لا غير نخصّ بالعبادة، ونوحّدك، ونطيعك خاضعين لك. وفيه (١) التفات من الغيبة إلى الخطاب، وفائدة ذلك من أوّل السورة إلى هنا ثناء، والثناء في الغيبة أولى، ومن قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ دعاء، والخطاب في الدعاء أولى. وقيل: فيه مضمر تقديره: أي: قولوا إيّاك نعبد؛ أي:
إيّاك نخصّ بالعبادة، ونوحدك، ونطيعك خاضعين لك، والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلّل، وسمّي العبد عبدا؛ لذلّته وانقياده. وقيل: (٢) العبادة: عبارة عن الفعل الذي يؤدّى به الفرض لتعظيم الله تعالى، فقول العبد: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ معناه: لا أعبد أحدا سواك، والعبادة: غاية التذلّل من العبد، ونهاية التعظيم للرب سبحانه وتعالى؛ لأنّه العظيم المستحقّ للعبادة، ولا تستعمل العبادة إلّا في الخضوع لله تعالى؛ لأنّه مولي أعظم النعم، وهي إيجاد العبد من العدم إلى الوجود، ثمّ هداه إلى دينه فكان العبد حقيقا بالخضوع، والتذلّل له. وقال ابن كثير: والعبادة في الشرع: عبارة عمّا يجمع كمال المحبّة والخضوع. اه.
وعبارة المراغي: والعبادة (٣) خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود اعتقادا بأنّ له سلطانا لا يدرك العقل حقيقته؛ لأنّه أعلى من أن يحيط به
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
فمن يتذلّل لملك لا يقال: إنّه عبده؛ لأن سبب التذلّل معروف، وهو إما؛ لخوف من جوره وظلمه، وإما؛ رجاء كرمه وجوده. وللعبادة صور وأشكال تختلف باختلاف الأديان والأزمان، وكلّها شرعت؛ لتنبيه الإنسان إلى ذلك السلطان الأعلى، والملكوت الأسمى؛ ولتقويم المعوجّ من الأخلاق، وتهذيب النفوس، فإن لم تحدث هذا الأثر لم تكن هي العبادة التي شرعها الدين.
هاك الصلاة: هب أنّ الله أمرنا بإقامتها، والإتيان بها كاملة، وجعل من آثارها: أنّها تنهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، فإن لم يكن لها هذا الأثر في النفوس، كانت صورا من الحركات والعبارات، خالية من روح العبادة وسرّها، فاقدة جلالها وكمالها، وقد توعّد الله سبحانه فاعلها بالويل والثبور، فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ﴾، فهم وإن سمّاهم مصلّين لأنهم أتوا بصورة الصلاة، وصفهم بالسهو عن حقيقتها ولبّها؛ وهو توجّه القلب إلى الله والإخبات إليه، وهو المشعر بعظمته. وفي الحديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلّا بعدا». وأنّها «تلفّ كما يلّف الثوب البالي، ويضرب بها وجهه».
﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أي (١): منك لا من غيرك نطلب المعونة على عبادتك، وعلي جميع أمورنا دينا ودنيا. فإن قلت: الاستعانة على العمل إنّما تكون قبل الشروع فيه، فلم أخّر الاستعانة عن العبادة، وما الحكمة فيه؟
قلنا: قدّمت العبادة على الاستعانة؛ لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة أقرب إلى الإجابة، أو قدّمها؛ لرعاية الفاصلة كما قدّم الرحمن، وإن كان الأبلغ لا يقدّم. اه. «نسفي».
وعبارة «الخازن» هنا: فإن قلت: الاستعانة على العمل إنّما تكون قبل
قلت: ذكروا فيه وجوها:
أحدها: أنّ هذا يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل، ونحن بحمد الله نجعل التوفيق والاستطاعة مع الفعل، فلا فرق بين التقديم والتأخير.
الثاني: أنّ الاستعانة نوع تعبّد، فكأنّه ذكر جملة العبادة أولا، ثمّ ذكر ما هو من تفاصيلها ثانيا.
الثالث: كأنّ العبد يقول: شرعت في العبادة فأنا أستعين بك على إتمامها، فلا يمنعني من إتمامها مانع.
والرابع: أنّ العبد إذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ حصل له الفخر، وذلك منزلة عظيمة، فيحصل بذلك العجب، فأردف ذلك بقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ليزول ذلك العجب الحاصل بسبب تلك العبادة.
وفي «النسفي»: وأطلقت الاستعانة؛ لتتناول كلّ مستعان فيه، ويجوز أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادات، ويكون قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ﴾ بيانا للمطلوب منه المعونة، فكأنّه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ...﴾ الخ. اه.
والمجيء بالنون في الفعلين (١)؛ لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد. وقيل: إنّ المقام لمّا كان عظيما، لم يستقلّ به الواحد؛ استقصارا لنفسه، واستصغارا لها، فالمجيء بالنون؛ لقصد التواضع لا لتعظيم النفس، وتقديم المعمول على العامل في الفعلين؛ لقصد الاختصاص. وقيل:
للاهتمام، والصواب أنّه لهما، ولا تزاحم بين المقتضيات.
وكرّر (٢) ﴿إِيَّاكَ﴾ للتنصيص على اختصاصه تعالى بالاستعانة أيضا، والاستعانة: طلب العون، ويعدّى بالباء وبنفسه؛ أي: نطلب العون على عبادتك،
(٢) روح البيان.
ثمّ قوله ﴿نَعْبُدُ﴾ يحتمل أن يكون من العبادة، كما عليه تفسيرنا السابق، أو من العبودة. والعبادة: هي العابدية، والعبودة: هي العبدية، فمن العبادة: الصلاة بلا غفلة، والصوم بلا غيبة، والصدقة بلا منّة، والحج بلا إراءة، والغزو بلا سمعة، والعتق بلا أذيّة، والذّكر بلا ملالة، وسائر الطاعات بلا آفة. ومن العبودة: الرضى بلا خصومة، والصبر بلا شكاية، واليقين بلا شبهة، والشهود بلا غيبة، والإقبال بلا رجعة، والإيصال بلا قطيعة.
وخلاصة ما في الآية: أنّ الله سبحانه وتعالى (١) قد أمرنا أن لا نعبد أحدا سواه. لأنّه المنفرد بالسلطان، فلا ينبغي أن يشاركه في العبادة سواه، ولا أن يعظم تعظيم المعبود غيره، كما أمرنا أن لا نستعين بمن دونه، ولا نطلب المعونة المتّمّمة للعمل، والموصلة إلى الثمرة المرجوّة إلّا منه فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها.
بيان هذا: أنّ الأعمال يتوقّف نجاحها على أسباب ربطتها الحكمة الإلهية بمسبّباتها، وجعلتها موصلة إليها، وعلى انتفاء موانع من شأنها أن تحول دونها، وقد أوتي الإنسان بما فطره الله عليه من العلم والمعرفة، كسب بعض الأسباب، ودفع بعض الموانع بقدر استعداده الذي أوتيه، وفي هذا القدر أمرنا أن نتعاون، ويساعد بعضنا بعضا، كما قال تعالى: {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى
وفيما وراء ذلك مما حجب عنّا من الأسباب: يجب أن نفوّض أمره إلى الله تعالى، فنستعين به وحده، ونفزع إليه في شفاء مريضنا، ونصرنا على عدونا، ورفع الجوائح السماوية والأرضية عن مزارعنا، إذ لا يقدر على دفع ذلك سواه، وهو قد وعدنا إذا نحن لجأنا إليه بإجابة سؤلنا، كما قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وأرشد إلى أنّه قريب منّا، يسمع دعاءنا، كما قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾.
وفي ذكر الاستعانة بالله: إرشاد للإنسان إلى أنّه يجب عليه أن يطلب المعونة منه على عمل له فيه كسب، فمن ترك الكسب فقد خالف الفطرة، ونبذ هدي الشريعة، وأصبح مذموما مدحورا لا متوكلا محمودا، وكذلك فيها إيماء إلى أنّ الإنسان مهما أوتي من حصافة الرأي، وحسن التدبير، وتقليب الأمور على وجوهها، لا يستغني عن العون الإلهيّ، واللطف الخفي.
والاستعانة (١) بهذا المعنى ترادف التوكّل على الله، وهي من كمال التوحيد والعبادة الخالصة له تعالى، وبها يكون المرء مع الله عبدا خاضعا مخبتا، ومع الناس حرّا كريما لا سلطان لأحد عليه لا حيّ ولا ميّت، وفي هذا فكّ للإرادة من أسر الرؤساء، والدجّالين المخرّفين، وإطلاق العزائم من قيود الأفاكين الكاذبين.
إيّا (٢): تلحقه ياء المتكلم، وكاف المخاطب، وهاء الغائب، وفروعها، فيكون ضمير نصب منفصلا لا اسما ظاهرا أضيف، خلافا لزاعمه، وهل الضمير
(٢) البحر المحيط.
أقوال ذكرت في كتب النحو.
وأما لغاته: فبكسر الهمزة وتشديد الياء، وبها قرأ الجمهور، وبفتح الهمزة وتشديد الياء، وبها قرأ الفضل الرقاشيّ، وبكسر الهمزة وتخفيف الياء، وبها قرأ عمرو بن فائد، عن أبيّ، وبإبدال الهمزة المكسورة هاء، وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء، وبذلك قرأ ابن السوّار الغنويّ، وذهاب أبي عبيدة إلى أنّ (إيّا) مشتق ضعيف، وكان أبو عبيدة لا يحسن النّحو، وإن كان إماما في اللّغات وأيّام العرب.
وإضافة (إيّا) إلى الظاهر نادر، نحو: وإيّا الشوابّ، أو ضرورة، نحو: دعني وإيّا خالد، واستعماله تحذيرا معروف، وإياك والأسد. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو المتوكل ﴿إيّاك يعبد﴾ بالياء مبنيا للمفعول، وهذه القراءة مشكلة؛ لأنّ إيّاك ضمير نصب ولا ناصب له، وتوجيهها أنّ فيها استعارة والتفاتا، فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع، فكأنّه قال: أنت، ثمّ التفت فأخبر عنه إخبار الغائب؛ لمّا كان ﴿إِيَّاكَ﴾ هو الغائب من حيث المعنى فقال: يعبد، فكأنّه قيل: هو يعبد؛ أي: ربّ العالمين الموصوف بما ذكر يعبد، وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة.
وعن بعض أهل مكة ﴿نَعْبُدُ﴾ بإسكان الدال. وقرأ زيد بن عليّ، ويحيى بن وثّاب، وعبيد بن عمير الليثيّ ﴿ونِعبد﴾ بكسر النون. وقرأ الجمهور ﴿نَسْتَعِينُ﴾ بفتح النون الأولى، وهي لغة الحجاز، وهي الفصحى. وقرأ عبيد بن عمير الليثيّ، وزرّ بن حبيش، ويحيى بن وثّاب، والنخعيّ، والأعمش بكسرها، وهي لغة قيس، وتميم، وأسد، وربيعة، وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه. وقال أبو جعفر الطّوسيّ: هي لغة هذيل. وانقلاب الواو ألفا في استعان ومستعان وياء في نستعين ومستعين والحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف، فراجعه.
٦ - ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، أي: أرشدنا إلى الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه، الذي هو دين الإسلام، وثبتنا على المنهاج الواضح الذي رضيته لنا، وهذا بيان للمعونة المطلوبة أوّلا، فكأنّه قال: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا.
وإفراد لما هو المقصود الأعظم الذي هو الهداية وهي الدلالة بلطف.
والمراد زدنا هداية إليه، أو أدمنا مهديّين إليه، وإلا فنحن مهديّون بحمد الله تعالى. وفي «السمين»: وأصل هدى أن يتعدّى إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرف الجرّ، وهو إمّا إلى أو اللام، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾، ثمّ قد يتّبع فيه، فيحذف الحرف فيتعدى للثاني بنفسه، كما هنا، فأصل ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ﴾: اهدنا للصراط، أو إلى الصراط، ثم حذف الحرف ووصل الفعل إلى المفعول بنفسه، ووزن اهد: إفع، حذفت لامه وهي الياء؛ حملا للأمر على المضارع المجزوم، والمجزوم تحذف لامه إذا كان حرف علّة. والهداية: الإرشاد، والدلالة، والتبيين، كقوله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ﴾ أي: بيّنا لهم، والإلهام: كقوله: ﴿الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾؛ أي: ألهمه لمصالحه، والدعاء: كقوله: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾؛ أي:
داع. وقال الراغب: الهداية دلالة بلطف، ومنه: الهديّة؛ لأنّها تمال من مالك إلى مالك. والصراط: الطريق المستهل، وبعضهم لا يقيده بالمستهل، ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط | إذا اعوجّ الموارد مستقيم |
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني | فمضيت ثم قلت لا يعنيني |
والغضب: ثوران النفس لإرادة الانتقام، ومعنى الغضب في صفة الله: إرادة العقوبة، فهو صفة ذاته، أو نفس العقوبة. ومنه الحديث: «إنّ الصدقة تطفىء غضب الربّ»، فهو صفة فعله. قال في «الكشاف»: غضب الله إرادته الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده.
والفرق (١) بين ﴿عَلَيْهِمْ﴾ الأولى و ﴿عَلَيْهِمْ﴾ الثانية: أنّ الأولى في محل نصب على المفعولية، والثانية في محل رفع على النيابة عن الفاعل. و (لا) في قوله: ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ زائدة لتأكيد النفي المفهوم من ﴿غَيْرِ﴾، فكأنّه قال: لا المغضوب عليهم ولا الضّالّين.
وقرأ عمر وأبيّ (٢): ﴿وغير الضالّين﴾، وروي عنهما في الراء في الحرفين النصب والخفض، ويدلّ على أنّ المغضوب عليهم هم غير الضالين. والتأكيد
(٢) المراغي.
قال القرطبي: الضلال في لسان العرب: هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحقّ، ومنه ضلّ اللبن في الماء؛ أي: غاب. ومنه: ﴿أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: غبنا بالموت وصرنا ترابا. ويقال: ضللت الشيء: جهلت المكان الذي وضعته فيه، وأضللت الشيء: ضيعته، وأضل أعمالهم وضلّ: غفل ونسي، ﴿وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما﴾، والضلال: سلوك سبيل غير القصد. ضل عن الطريق: سلك غير جادتها، والضلال: الحيرة والتردّد. ومنه: قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي: ضلضلة.
وفي «الخطيب»: وفي قوله: ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ مدّان: مدّ لازم، ومدّ عارض، فاللازم: هو الذي على الألف بعد الضاد وقبل اللام المشدّدة، والعارض: هو الذي على الياء قبل النون. اه. والأصل في الضالّين: الضاللين، ثمّ أدغمت اللام في اللام، فاجتمع ساكنان مدّت الألف واللام المدغمة.
والحاصل من معنى الآيتين، كما قاله المراغي: أنّ الله سبحانه وتعالى أمرنا (١) باتباع صراط من تقدّمنا؛ لأنّ دين الله واحد في جميع الأزمان، فهو إيمان بالله ورسله، واليوم الآخر، وتخلّق بفاضل الأخلاق، وعمل الخير، وترك الشرّ، وما عدا ذلك فهو فروع وأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾.
والْمَغْضُوبِ قيل: هم الذين بلغهم الدين الحقّ الذي شرعه الله تعالى لعباده، فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريّا، وانصرفوا عن النظر في الأدلّة؛ تقليدا لما ورثوه عن الآباء والأجداد، وهؤلاء عاقبتهم النكال والوبال في نار جهنم وبئس القرار.
وهذا رأي جمهرة العلماء (١)، وترى فئة منهم: أنّ العقل وحده كاف في التكليف، فمتى أوتيه الإنسان وجب عليه النظر في ملكوت السموات والأرض، والتدبّر، والتفكّر في خالق الكون، وما يجب له من عبادة وإجلال بقدر ما يهديه عقله، ويصل إليه اجتهاده، وبذلك ينجو من عذاب النار يوم القيامة، فإن لم يفعل ذلك كان من الهالكين.
تنبيه: آخر (الفاتحة) (٢): ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾، وأما لفظ آمين: فليس منها ولا من القرآن مطلقا، بل هو سنّة يسنّ لقارىء (الفاتحة) في الصلاة، وغيرها أن يختم به، وهو اسم فعل دعاء بمعنى استجب وتقبّل يا الله هذا الدعاء! وهو قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ إلى آخرها. وهذا الاسم مبنّي؛ لشبهه بالحرف شبها استعماليّا على الفتح؛ فرارا من التقاء الساكنين وللخفّة، كما في أين وكيف.
وفيه لغتان: المد على وزن فاعيل، كياسين، أو قابيل وهابيل، فيكون اسما أعجميا، والقصر على وزن يمين، ومن المدّ قول الشاعر:
يا رب لا تسلبنّي حبّها أبدا | ويرحم الله عبدا قال آمينا |
(٢) الفتوحات.
آمين آمين لا أرضى بواحدة | حتى أكمّلها ألفين آمينا |
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
قال الجوهري: وتشديد الميم خطأ، وروي عن الحسن، وجعفر الصادق، والحسين بن فضل: التشديد من أمّ إذا قصد؛ أي: نحن قاصدون نحوك، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ﴾ حكى ذلك القرطبيّ. وقيل: ليست اسم فعل، بل هي من أسماء الله، والتقدير: يا آمين، وضعفه أبو البقاء بوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يبنى على الضمّ؛ لأنّه منادى مفرد معرفة.
الثاني: أنّ أسماء الله تعالى توقيفيّة. ووجّه الفارسيّ قول من جعله اسما لله تعالى على معنى: أنّ فيه ضميرا يعود على الله تعالى، فكأنّه اسم فعل، وهو توجيه حسن، نقله صاحب المغرب، ويكون المعنى: إنّا نتوجه إليك يا إلهنا فإليك المرجع والمصير.
وفي «الخطيب»: والسنّة للقارىء: أن يقول بعد فراغه من (الفاتحة): آمين مفصولا عن ﴿الضَّالِّينَ﴾ بسكتة؛ ليتميّز ما هو قرآن عمّا ليس بقرآن، وهو اسم الفعل الذي معناه: استجب دعاءنا.
فائدة: في مشروعيّة التأمين بعد قراءة (الفاتحة):
اعلم: أنّ السنّة الصحيحة، الصريحة، الثابتة تواترا، قد دلّت على ذلك، فمن ذلك: ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ فقال: آمين، مدّ بها صوته. ولأبي داود: رفع بها صوته، وقد حسّنه الترمذي. وأخرجه أيضا النسائي، وابن أبي شيبة، وابن ماجه، والحاكم وصحّحه، وفي لفظ من حديثه:
أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: «رب اغفر لي آمين». وأخرجه الطبراني والبيهقي. وفي لفظ أنه
وأخرج البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن، وأحمد، وابن أبي شيبة، وغيرهم عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه».
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والبيهقي بسند. قال السيوطي صحيح عن عائشة: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء، ما حسدتكم على السلام والتأمين». وأخرج ابن عديّ من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ اليهود قوم حسّد، حسدوكم على ثلاثة: إفشاء السلام، وإقامة الصفّ، وآمين».
وأخرج الديلميّ عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثمّ قرأ فاتحة الكتاب، ثمّ قال: آمين. لم يبق ملك في السماء مقرّب إلّا استغفر له».
وأخرج الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله سبحانه، أعطى أمتي ثلاثا، لم تعط أحدا قبلهم: السلام، وهو تحية أهل الجنة، وصفوف الملائكة، وآمين، إلّا ما كان موسى وهارون». قال أبو عبد الله: معناه: أنّ موسى دعا على فرعون، وأمّن هارون، فقال الله تبارك وتعالى عند ما ذكر دعاء موسى في تنزيله: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما﴾، ولم يذكر مقالة هارون، وقال موسى: ﴿رَبَّنا﴾، فكان من هارون التأمين، فسمّاه داعيا في تنزيله، إذ صير ذلك دعوة منه. وقيل: إنّ آمين خاصّ بهذه الأمّة، كما مرّ قريبا.
فائدة أخرى: في حكم (الفاتحة):
دليل الجمهور: ما تقدم من الأحاديث، فإن قيل: المراد من الحديث: لا صلاة كاملة. قلت: هذا خلاف ظاهر لفظ الحديث، ومما يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجزىء صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب»، أخرجه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح. وعنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يخرج فينادي «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب، فما زاد» أخرجه أحمد، وأبو داود. وأجيب عن حديث الأعرابيّ: بأنه محمول على (الفاتحة)، فإنّها متيسرة، أو على ما زاد على (الفاتحة)، أو على العاجز عن قراءة (الفاتحة)، والله أعلم.
الإعراب
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)﴾.
﴿الْحَمْدُ﴾ مبتدأ مرفوع بالابتداء. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور، متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: مستحقّ لله، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافا نحويّا، أو في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: قولوا: الحمد لله ربّ العالمين.
﴿رَبِّ﴾ صفة أولى للجلالة، مجرور بالكسرة الظاهرة، وهو مضاف. ﴿الْعالَمِينَ﴾ مضاف إليه مجرور بالياء؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم.
﴿الرَّحْمنِ﴾ صفة ثانية للجلالة، مجرور بالكسرة الظاهرة. ﴿الرَّحِيمِ﴾ صفة ثالثة لها. ﴿مالِكِ﴾ صفة رابعة لها، وهو مضاف. ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ مضاف إليه. ﴿إِيَّاكَ﴾ إيّا ضمير نصب منفصل، في محل النصب مفعول به مقدم؛ لغرض الحصر، والكاف حرف دالّ على الخطاب. ﴿نَعْبُدُ﴾ فعل مضارع مرفوع بالضمة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا؛ لإسناده إلى المتكلم، تقديره: نحن يعود على القارىء ومن معه، أو على المعظم نفسه، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا.
﴿وَإِيَّاكَ﴾ الواو عاطفة. ﴿إِيَّاكَ﴾ ضمير نصب منفصل في محل النصب مفعول مقدم. ﴿نَسْتَعِينُ﴾ فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على القارىء ومن معه، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَعْبُدُ﴾. ﴿اهْدِنَا﴾ (اهد) فعل دعاء سلوكا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا؛ لإسناده إلى المخاطب، تقديره: أنت يعود على الله، والجملة مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب، أو في محلّ النصب مقول قولوا كسابقها، أو جملة دعائية لا محل لها من الإعراب. (نا) ضمير نصب متصل، يعود على القارىء ومن معه، في محل النصب مفعول أول، مبني بسكون على الألف المحذوفة؛ للتخلّص من التقاء الساكنين. ﴿الصِّراطَ﴾ مفعول ثان ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ صفة للصراط.
﴿صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)﴾.
﴿صِراطَ﴾ بدل من الصراط، بدل كلّ من كلّ، وهو مضاف. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محلّ الجر بالإضافة، مبني على الفتح، أو على الياء على الخلاف المذكور في محلّه؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، وإنّما حرك مع كون الأصل في المبني السكون؛ ليعلم أنّ له أصلا في الإعراب، وكانت الحركة فتحة؛ للخفة مع ثقل الموصول. ﴿أَنْعَمْتَ﴾ فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلّق بأنعمت، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير عليهم. ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ﴾ ﴿غَيْرِ﴾ بدل من الذين، أو من الضمير في عليهم، بدل كلّ من كلّ، أو نعت للموصول، مجرور بالكسرة الظاهرة، وهو مضاف. ﴿الْمَغْضُوبِ﴾ مضاف إليه،
آمين: اسم فعل أمر؛ أي: دعاء سلوكا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه؛ بمعنى: استجب، مبنّي على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبها استعماليا، والشبه الاستعمالي: هو أن يشبه الاسم الحرف في كونه عاملا لا معمولا، وإنّما حرك؛ ليعلم أنّ له أصلا في الإعراب، أو فرارا من التقاء الساكنين، كما في أين وكيف، وكانت الحركة فتحة؛ للخفة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا لإسناده إلى المخاطب، تقديره: أنت يعود على البارىء سبحانه، والجملة من اسم الفعل وفاعله لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنّ اسم الفعل عامل غير معمول، أو جملة دعائية، والمعنى: اسمع يا الله قراءتنا واستجب دعاءنا! وتقدم الخلاف في معناه.
التّصريف ومفردات اللغة
﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ والرب: هو السيّد، والمالك، والمصلح، وغير ذلك من المعاني المارّة، فهو اسم فاعل من ربّ يربّ ربّا، نظير: نمّ ينم نمّا، إذا نقل الحديث على وجه الإفساد، فهو ربّ وذاك مربوب. أصله: رابّ، حذفوا ألفه؛ اعتباطا، كما في برّ وبارّ. ﴿الْعالَمِينَ﴾: جمع عالم بفتح اللام، وجمع جمع المذكر السالم العاقل؛ تغليبا للعقلاء، والمراد به جميع الكائنات، والعالم لا واحد له من لفظه، ولا من غير لفظه؛ لأنّه اسم جمع لأشياء مختلفة الحقائق.
﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ والمالك: إمّا من الملك بضمّ الميم، وهو عبارة عن السلطان القاهر والاستيلاء الباهر، أو من الملك بكسر الميم، وهو السلطنة الخاصّة، والدين: الجزاء، وهو المراد هنا، ويوم الجزاء: هو يوم القيامة، والطاعة، كقوله تعالى: ﴿فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾، والدين أيضا الملّة، وفي «القرطبي» ما نصّه: إن قال قائل: كيف قال: مالك يوم الدين، ويوم الدين لم يوجد بعد،
﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أصله: نستعون بوزن نستخرج، فهو سداسيّ أجوف واويّ؛ لأنّه من العون، ففيه إعلال بالنقل والقلب، فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى الساكن قبلها على حدّ قول ابن مالك في «الخلاصة» في باب التصريف:
لساكن صحّ انقل التحريك من | ذي لين آت عين فعل كأبن |
﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ووزن اهد إفع، حذفت لامه، وهي الياء حملا للأمر على المضارع المجزوم، والمجزوم تحذف لامه إذا كانت حرف علة.
والصراط، كالطريق والسبيل في التذكير والتأنيث، كما مرّ، يجمع على صرط، ككتاب وكتب. والمستقيم: اسم فاعل من استقام السداسيّ الذي من باب استفعل بمعنى: الفعل المجرد من الزوائد، فهو هنا بمعنى: قام إذا استوى وانتصب، وأصله: مستقوم بوزن مستفعل، استثقلت الكسرة على الواو، ثمّ نقلت إلى الساكن قبلها، فقلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فصار مستقيم.
﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وهمزة أنعم؛ لجعل الشيء صاحب ما صيغ منه؛ أي:
جعلتهم أصحاب نعمة، وهذا أحد المعاني التي لأفعل، وهي أربعة وعشرون معنى، وهذا أحدها، والتعدية، والكثرة، والصيرورة، والإعانة، والتعريض، والسلب إلى آخر ما في مطوّلات الصرف فراجعها. والتاء المتصلة بأنعمت: ضمير المخاطب المنزه عن الذكورة والأنوثة الباري سبحانه، وهي حرف خطاب في أنت، والضمير هناك أن، فهو مركب من اسم وحرف.
﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ جمع ضالّ، اسم فاعل من ضلّ الثلاثي، فأصله:
الضّاللين، سكّنت اللام الأولى؛ لثقل توالي كسرتين فالتقى ساكنان، فأدغمت اللام في اللام، فصار ضالّين، ووزن ضالّين فاعلين، وقد تقدم لك أنّ أيّوب السختياني يقرأ وَلَا الضَّالِّينَ؛ فرارا من التقاء الساكنين، قال أبو زيد: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ﴾، فظننته قد لحن، حتى سمعت من العرب دأبّة، وشأبّة.
البلاغة
وقد تضمّنت هذه السورة الكريمة ضروبا من البلاغة، وأنواعا من الفصاحة، والبيان، والبديع:
ومنها: المبالغة في الثناء على الله؛ وذلك لعموم أل في ﴿الْحَمْدُ﴾ على التفسير الذي مرّ.
ومنها: تلوين الخطاب على قول بعضهم، فإنّه ذكر أنّ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ صيغته صيغة الخبر، ومعناه الأمر، كقوله: لا ريب فيه ومعناه: النهي؛ أي: لا ترتابوا فيه.
ومنها: الاختصاص باللام التي في لله، إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصّة به تعالى، فهو مستحق لها، وبالإضافة في مالك يوم الدين؛ لزوال الأملاك والممالك عن سواه تعالى في ذلك اليوم، وتفرّده فيه بالملك والملك، قال تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾؛ ولأنّه لا يجازي في ذلك اليوم على الأعمال سواه.
ومنها: الحذف، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر، وتقدم هل يقدّر من لفظ الحمد، أو من غير لفظه، قال بعضهم: ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد، وهو الذي يقدّر بكائن، أو مستقرّ، قال: ومنه حذف صراط من قوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، التقدير: صراط غير المغضوب عليهم وصراط غير الضالّين، وحذف سورة إن قدّرنا العامل في الحمد إذا نصبناه باذكروا، أو اقرؤا، تقديره: اقرءوا سورة الحمد.
ومنها: الإتيان بالرحمن الرحيم عقب اتصافه بربّ العالمين؛ لإفادة الترغيب بعد الترهيب، فيكون أرغب للعبد على الطاعة، وأمنع من المعصية.
ومنها: الإضافة لأدنى ملابسة في ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ كإضافة سائر الظروف إلى ما وقع فيها من الحوادث، كيوم الأحزاب، ويوم الفتح.
ومنها: تقديم العبادة على الاستعانة في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؛ ليوافق رؤوس الآي؛ وليعلم أنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.
ومنها: إعادة إيّاك مع الفعل الثاني؛ ليفيد أنّ كلّا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات، فلا يستلزم كلّ منهما الآخر.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ إلى الخطاب في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ...﴾ إلخ؛ تطريبا للنفس، وزيادة في نشاطها جريا على أساليبهم.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ حيث شبّه دين الإسلام بالطريق الحسّيّ، بجامع أنّ كلّا يوصل إلى المقصود، واستعير اسم المشبّه به للمشبّه.
ومنها: طلب الشيء مرادا به طلب دوامه واستمراره في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، أي: ثبّتنا عليه.
ومنها: التفسير والبيان في قوله: ﴿صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بعد الإبهام في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ لأنّه أوقع في النفس، وأرسخ فيه.
ومنها: نسبة الغضب إلى المجهول في قوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، حيث لم يقل: غير الذين غضبت عليهم؛ تعليما لعباده الأدب، حيث أسند الخير إلى نفسه، وأبهم في الشرّ، نظير قوله تعالى: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها﴾، ﴿فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما﴾، وقوله: ﴿وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة البقرة مدنية كلّها، نزلت بعد المطفّفين في مدد شتّى، وهي أوّل ما نزل بالمدينة. قيل: إلّا قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ الآية، فإنّها آخر آية نزلت من السماء، نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن، ذكره القرطبي في «تفسيره».
وهي (١) مئتان وستّ أو سبع أو ثمان وثمانون آية، وستّة آلاف كلمة، ومئة وإحدى وعشرون كلمة، وخمس وعشرون ألف حرف وخمس مئة حرف.
المناسبة: مناسبتها للفاتحة ظاهرة؛ لأنّ سورة الفاتحة ختمت بالأمر بطلب الهداية من الله سبحانه وتعالى، حيث قال فيها: قولوا: ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، وسورة البقرة بدئت ببيان محلّ الهداية والوسيلة إليها، حيث قال فيها: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾. وقال صاحب «الروح»: فإن قلت: (٢) ما الحكمة في ابتداء البقرة بآلم والفاتحة بالحرف الظاهر المحكم وهو قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾؟
فالجواب ما قاله السيوطي - رحمه الله - في «الإتقان»: أقول في مناسبة ابتداء البقرة بآلم: أنّه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكلّ أحد، بحيث لا يعذر في فهمه أحد، ابتدئت البقرة بمقابله، وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل؛ ليعلم مراتبه للعقلاء والحكماء: ليعجزهم بذلك؛ ليعتبروا ويدبّروا آياته.
التسمية: سمّيت السورة الكريمة بسورة البقرة: إحياء لذكرى تلك المعجزة الباهرة التي ظهرت في زمن موسى الكليم عليه السلام، حيث قتل شخص من بني
(٢) روح البيان.
فضلها: وورد في فضلها أحاديث كثيرة:
منها: ما أخرجه مسلم، والترمذي، وأحمد، والبخاري في «تاريخه»، ومحمد بن نصر، عن النوّاس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران». قال: وضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان، أو قال: كأنّهما غيايتان، أو كأنهما ظلتان سوداوان، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجان عن صاحبهما».
ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، والدارمي، وأحمد، ومحمد بن نصر، والحاكم وصحّحه عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلّموا سورة البقرة وآل عمران فإنّهما الزهراوان تظلّان صاحبهما يوم القيامة، كأنّهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف». قال ابن كثير: وإسناده حسن على شرط مسلم.
ومنها: ما أخرجه مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إنّ الشيطان يفرّ من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، وعنه أيضا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيّدة آي القرآن، آية الكرسيّ»، أخرجه الترمذي، وقال حديث غريب.
ومنها: ما أخرجه مسلم في «صحيحه» مطولا، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة؛ يعني: السحرة.
ومنها: ما أخرجه أبو يعلى، وابن حبان، والطبراني، والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لكلّ شيء سناما، وسنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام، ومن قرأها في
وأخرج أحمد، ومحمد بن نصر، والطبراني بسند صحيح، عن معقل بن يسار: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كلّ آية منها ثمانون ملكا، واستخرجت ﴿اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ من تحت العرش، فوصلت بها».
وأخرج البغوي في «معجم الصحابة»، وابن عساكر في «تاريخه» عن ربيعة الجرسيّ قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّ القرآن أفضل؟ قال: «السورة التي يذكر فيها البقرة» قيل: فأيّ البقرة أفضل؟ قال: «آية الكرسيّ وخواتيم سورة البقرة نزلت من تحت العرش». إلى غير ذلك مما ورد في فضلها من الأحاديث المختلفة صحة، وحسنا، وغرابة، وضعفا.
وقوله: سورة البقرة كذا وكذا آية يؤخذ منه: أنّ تسميتها بما ذكر غير مكروه خلافا لمن قال بكراهة ذلك، وقال: لا يقال ذلك؛ لما فيه من نوع تنقيص بإضافتها إلى البقرة، أو إلى العنكبوت مثلا، وإنّما يقال: السورة التي تذكر فيها البقرة، أو السورة التي
يذكر فيها آل عمران، أو العنكبوت مثلا، واستدلّ هذا القائل بما رواه الطبراني في «الأوسط»، والبيهقي في «الشّعب»، وغيرهما بسند ضعيف، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء، وكذا القرآن كلّه، ولكن قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها آل عمران، وكذا القرآن كلّه». قال ابن كثير: هذا حديث غريب لا يصحّ رفعه، وفي إسناده يحيى بن ميمون الخوّاص، وهو ضعيف الرواية لا يحتجّ به. وبما أخرجه البيهقي في «الشعب» بسند صحيح، عن ابن عمر قال: (لا تقولوا سورة البقرة، ولكن قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة)، ولكنه موقوف على ابن عمر لم يرفعه.
والذي عليه الجماهير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم عدم الكراهة، فقد روي عن جماعة من الصحابة ما يدلّ على عدم الكراهة، فثبت في «الصحيحين» عن ابن مسعود: أنّه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، وأهل السنن، والحاكم وصحّحه عن حذيفة قال: (صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة من رمضان فافتتح البقرة، فقلت:
يصلّي بها في ركعة، ثمّ افتتح النساء فقرأها، ثمّ افتتح آل عمران فقرأها مترسّلا» الحديث.
وأخرج أحمد، وابن الضريس، والبيهقي عن عائشة قالت: (كنت أقوم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الليل، فيقرأ بالبقرة وآل عمران و (النساء).
وأخرجه أبو داود، والترمذي في «الشمائل»، والنسائي، والبيهقي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فقام، فقرأ سورة البقرة لا يمرّ بآية رحمة إلّا وقف» الحديث.
والسورة قد يكون لها اسم واحد، وقد يكون لها اسمان أو أكثر، والسورة مأخوذة من سور البلد؛ لارتفاع رتبتها كارتفاعه، وإحاطتها بالمعاني الغزيرة، كإحاطته بالبلد، وهي طائفة من القرآن، لها أوّل وآخر. وتسميتها باسم خاصّ بها توقيفي على الراجح، والراجح: أنّ المكيّ: ما نزل قبل الهجرة، ولو في غير مكة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة ولو في غير المدينة. والآية في العرف: هي طائفة من كلمات القرآن، متميّزة بفصل، والفصل: هو آخر الآية، يجمع على فواصل، وقد تكون كلمة، مثل: ﴿الفجر﴾، ﴿والضحى﴾، ﴿والعصر﴾، وكذا ﴿ألم﴾ و ﴿طه﴾ و ﴿يس﴾ ونحوها عند الكوفيين، وغيرهم لا يسمّيها آيات، بل يقول: هي فواتح السور. وعن أبي عمرو الداني: لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلّا قوله تعالى. ﴿مُدْهامَّتانِ﴾. اه. من «التحبير». وأصل آية: أيية كشجرة، قلبت عينها ألفا على غير قياس، وقيل: آيية كفاعلة، حذفت الهمزة تخفيفا، وقيل: غير ذلك، وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في المقدمة فراجعها.
واعلم: أنّ كون ترتيب الآيات والسور توقيفيا؛ إنما هو على الراجح.
وذكر القرطبي أيضا: أنّ الحجاج كان يقرأ كلّ ليلة ربعا، فأوّل ربعه: خاتمة الأنعام، والربع الثاني: في الكهف ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾، والربع الثالث: خاتمة الزمر، والربع الرابع: ما بقي من القرآن، وقيل غير ذلك.
وقال السيوطي في «التحبير» ما نصّه: وكون أسماء السور توقيفية؛ إنّما هو بالنسبة إلى الاسم الذي تذكر به السورة، وتشتهر به، وإلّا فقد سمّى جماعة من الصحابة والتابعين سورا بأسماء من عندهم، كما سمّى حذيفة التوبة بالفاضحة، وسورة العذاب، وسمّى خالد بن معدان البقرة: فسطاط القرآن، وسمّى سفيان بن عيينة سورة الفاتحة: الوافية، وسمّاها يحيى بن كثير الكافية؛ لأنّها تكفي عمّا عداها.
ومن السور ما له اسمان فأكثر، فالفاتحة تسمّى أمّ القرآن، وأمّ الكتاب،
وقد يوضع اسم لجملة من السور كالزهراوين للبقرة وآل عمران، والسبع الطوال، وهي البقرة وما بعدها إلى الأعراف، والسابعة يونس، كذا روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، والمفصّل، والأصحّ: أنّه من الحجرات إلى آخر القرآن؛ لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، والمعوذات للإخلاص، والفلق والناس. اه. بحروفه.
فائدة:
فإن قلت: أيّ سورة أطول في القرآن، وأيّها أقصر؟ وأيّ آية أطول وأيّها أقصر؟، وأيّ كلمة أطول وأيها أقصر؟.
قلت: أطول سورة في القرآن: البقرة، وأقصرها: الكوثر، وأطول آية: آية الدّين، وأقصرها آية: ﴿وَالضُّحى﴾ و ﴿الفجر﴾ و ﴿مُدْهامَّتانِ﴾، وأطول كلمة: ما بلغ عشرة أحرف، نحو قوله تعالى: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ وقوله: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوها﴾، وأما قوله: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ فهو عشرة أحرف في الرسم، وأحد عشر في اللفظ. وأقصرها: ما كان على حرفين نحو: ما، ولا، وله، وبه وما أشبه ذلك، ومن حروف المعاني ما هو على حرف واحد، كهمزة الاستفهام، وواو العطف إلّا أنّه لا ينطق به مفردا.
فإن قلت: (١) ما الحكمة في كون سورة البقرة أعظم السور ما عدا الفاتحة؟.
قال ابن العربي في «أحكام القرآن»: سمعت بعض مشايخي يقول: في سورة البقرة ألف أمر، وألف نهي، وألف خبر، ولعظم فقهها أقام ابن عمر - رضي الله عنهما - ثماني سنين على تعلّمها، كذا في «أسئلة الحكم».
فإن قلت: لم سوّرت السور طوالا، وأوساطا، وقصارا؟.
قلت: سوّرت كذلك تنبيها على أنّ الطول ليس من شرط الإعجاز، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات، وهي معجزة إعجاز سورة البقرة، ثمّ ظهرت لذلك التسوير؛ حكمة في التعليم، وتدريج الأطفال من السور القصار إلى ما فوقها تيسيرا من الله تعالى على عباده، وفي ذلك أيضا: ترغيب وتوسيع في الفضيلة في الصلاة، وغيرها، كسورة الإخلاص من القصار تعدل ثلث القرآن، فمن فهم ذلك فاز بسر التسوير.
فإن قلت: ما الحكمة في تعدّد مواطن نزول القرآن، وتكرّر مشاهده مكيّا، مدنيا، ليليّا، نهاريّا سفريّا، حضريّا، صيفيّا، شتائيا، نوميّا، برزخيّا: يعني: بين الليل والنهار أرضيّا سماويّا. غاريّا. يعني: ما نزل في الغار تحت الأرض برزخيا. يعني: ما نزل بين مكة والمدينة، عرشيّا معراجيّا. يعني: ما نزل ليلة المعراج. آخر (سورة البقرة)؟.
قلت: الحكمة في ذلك تشريف مواطن الكون كلّها بنزول الوحي الإلهيّ فيها، وحضور الحضرة المحمّديّة عندها، كما قيل: سرّ المعراج والإسراء به، وسير المصطفى في مواطن الكون كلّها: كأنّ الكون، والعرش، والجنان، يسأل كلّ موطن بلسان الحال، أن يشرّفه الله تعالى بقدوم قدم حبيبه، وتكتحل أعين الأعيان والكبار بغبار نعال قدم سيّد السادات.
والله أعلم
* * *
سورة الفاتحة
سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.
ترتيبها المصحفي
1نوعها
مكيةألفاظها
29ترتيب نزولها
5العد المدني الأول
7العد المدني الأخير
7العد البصري
7العد الكوفي
7العد الشامي
7أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:
* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):
دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).
* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).
* (السَّبْعُ المَثَاني):
دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).
* سورة (الصَّلاة):
فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).
* سورة (الرُّقْية):
دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).
وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).
* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:
فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).
* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:
لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).
* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:
لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).
* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):
فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).
* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:
فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).
اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:
أولًا: الألوهيَّة.
ثانيًا: اليوم الآخر.
ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).
رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.
وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:
توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.
وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.
وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.
وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.
وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.
وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).
بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:
أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.
ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.
ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.
فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.
ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.
ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).