ابن عباس وغيره أنها مكية، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر ( آتيناك سبعا من المثاني ) والحجر مكية بإجماع. وفي حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني.
ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة. وما حفظ أنه كانت قط في الإسلام صلاة بغير ( الحمد لله رب العالمين ).
وروي عن عطاء بن يسار وغيره أنها مدينة.
وأما أسماؤها فلا خلاف أنه يقال لها فاتحة الكتاب، واختلف هل يقال لها أم الكتاب ؟ فكره ذلك الحسن بن أبي الحسن، وأجازه ابن عباس وغيره. وفي تسميتها بأم الكتاب حديث رواه أبو هريرة.
واختلف هل يقال لها أم القرآن ؟ فكره ذلك ابن سيرين، وجوزه جمهور العلماء. وسميت المثاني لأنها تثنى في كل ركعة. وقيل لأنها استثنيت لهذه الأمة.
وأما فضل هذه السورة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب أنها لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها. وروي أنها تعدل ثلثي القرآن، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل. وكذلك يجئ عدل قل هو الله أحد وعدل إذا زلزلت وغيره ت. ونحو حديث أبي حديث أبي سعيد بن المعلى إذ قال له صلى الله عليه وسلم " ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن ( الحمد الله رب العالمين ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه انتهى من سلاح المؤمن تأليف الشيخ المحدث أبي الفتح تقي الدين محمد بن علي بن همام رحمه الله.
تفسير فاتحة الكتاب
بحول الله تعالى وقوّته
[سورة الفاتحة (١) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
باب في تفسير: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
روي أن رجلا قال بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تعس الشّيطان» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذلك فإنّه يتعاظم عنده ولكن قل: بسم الله الرّحمن الرّحيم، فإنّه يصغر حتّى يصير أقلّ من الذّباب» «١»، والبسملة تسعة عشر حرفا، قال بعض الناس: إن رواية بلغتهم أنّ ملائكة النار الذين قال الله فيهم: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: ٣٠] إنما ترتب عددهم على حروف: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لكلّ حرف ملك، وهم يقولون في كل أفعالهم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فمن هناك هي قوتهم، وباسم الله استضلعوا «٢».
قال ع «٣» : وهذا من ملح التفسير، وليس من متين العلم.
ت: ولا يخفى عليك لين ما بلغ هؤلاء، ولقد أغنى الله تعالى بصحيح
ووزنه على هذا «فعلان». ويترتب على القولين: صرفه وعدم صرفه إذا سمى به، وأما إذا لم يسم به فإنه منصرف البتة لأن من شرط امتناع فعلان الصفة ألا يؤنث بالتاء، وهذا يؤنث بها، قالوا: شيطانة.
ينظر: «الدر المصون»، للسمين الحلبي (١/ ٤٨- ٤٩). بتصرف.
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٧١٤)، كتاب «الأدب»، باب (٧٧)، حديث (٤٩٨٢)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ١٤٢)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يقول إذا عثرت دابته، حديث (١٠٣٨٨)، كلاهما من طريق خالد الحذاء، عن أبي تميمة، عن أبي المليح، عن رجل قال: كنت رديف النبي ﷺ فذكره.
وأخرجه الحاكم (٤/ ٢٩٢) من طريق يزيد بن زريع: ثنا خالد الحذاء، عن أبي تميمة، عن رديف رسول الله ﷺ به.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ورديف رسول الله ﷺ الذي لم يسمه يزيد بن زريع، عن خالد سماه غيره أسامة بن مالك والد أبي المليح بن أسامة.
ووافقه الذهبي، وزاد: «ورواه محمد بن حمدان، عن خالد، عن أبي تميمة، عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه. اه. والطريق الذي أشار إليه الذهبي:
أخرجه النسائي في «الكبرى» (٦/ ١٤٢)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ما يقول إذا عثرت به دابته، حديث (١٠٣٨٩)، من طريق أحمد بن عبدة، عن محمد بن حمدان به. وأخرجه أحمد (٥/ ٥٩)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٤٠١- بتحقيقنا)، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عاصم الأحول، عن أبي تميمة الهجيمي، عمن كان رديفه.
(٢) الضّلاعة: القوة وشدة الأضلاع، والضليع: العظيم الخلق الشديد، يقال: ضليع بيّن الضّلاعة.
ينظر: «لسان العرب» (٢٥٩٩).
(٣) «المحرر الوجيز» (١/ ٦١).
وما جاء من الأثر عن جابر وأبي هريرة مما يقتضي بظاهره أن البسملة آية من الفاتحة يرده صحيح الأحاديث كحديث أنس، وأبي بن كعب، وحديث: «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي» «١» ونحوها، ولم يحفظ قطّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء بعده أنهم يبسملون في الصلاة «٢».
ولفظ مالك عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، هي خداج، هي خداج غير تمام» قال: فقلت: يا أبا هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام، قال: فغمز ذراعي، ثم قال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرءوا، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله تعالى: حمدني عبدي» الحديث.
(٢) ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة، فمن بعدهم إلى ترك الجهر بالتسمية، بل يسرّ بها، منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، وهو قول إبراهيم النّخعي، وبه قال مالك، والثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
وذهب قوم إلى أنه يجهر بالتسمية للفاتحة والسورة جميعا، وبه قال من الصحابة أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو الزبير، وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإليه ذهب الشافعي.
وروى في الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر يبدءون وعمر وعثمان كانوا يفتتحون القراءة ب «الحمد لله رب العالمين» معناه: أنهم كانوا يبدءون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، وليس معناه: أنهم كانوا لا يقرءون «بسم الله الرحمن الرحيم». وكان الشافعي يرى أن يبدأ «ببسم الله الرحمن الرحيم» وأن يجهر بها إذا جهر بالقراءة. قال العلامة أحمد شاكر: ومن فقه أبي عيسى الترمذي أن عقد الخلاف في البابين (١٨٠، ١٨١) بين الجهر بالبسملة وترك الجهر بها، ولم يعقد بين أصل قراءتها وتركها. أما أئمة القراءات، فإنهم جميعا اتفقوا على قراءة البسملة في ابتداء قراءة كل سورة، سواء الفاتحة أو غيرها من السور سوى «براءة» ولم يرد عن واحد منهم أبدا إجازة ابتداء القراءة بدون التسمية. قال ابن الجزري في «طيبته».
بسمل بين السّورتين (ب) س (ن) صف | (د) م (ش) ق (ر) جا وصل (ف) شا |
وعن خلف (العاشر) فاسكت فصل | والخلف (ك) م (حما) (ج) لا (الأزرق) |
وقال صاحب «الشاطبية» : ولا بد منها (أي البسملة) في ابتدائك سورة.
ت: وهو العلو والارتفاع.
(١) «المحرر الوجيز» (١/ ٦١).
(٢) اشتقاق الاسم عند المحققين من النحويين من السمو، وهو الارتفاع، ومحل مرتفع فهو ظاهر. والاسم يظهر المسمى عند السامع فاشتق من السمو لذلك، وقد قيل: إنما اشتق الاسم من السمو لكون الكلام على ثلاثة أقسام. وضع لكل قسم عبارة، وكان الاسم المقدم فأعطي أرفع العبارات، وكان الحرف المتأخر إذ لا معنى له في ذاته، فأعطي أحط العبارات، وكان الفعل واسطة بينهما فتوسط اسمه.
وذهب قوم إلى أن اشتقاق الاسم من السمة، وهي العلامة، والاسم جعل دلالة على المسمى، وهذا تبطله صناعة العربية إذ لو كان مشتقا من السمة لقيل في تصغيره: وسيم، ولا يقال ذلك إنما يقال في تصغيره سميّ، وكذلك في جمعه أسماء برد لام الفعل. والتكبير والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها، فصح أن اشتقاقه من السمو.
ينظر: «العلوم المستودعة في السبع المثاني» (ج ٢)، و «الصاوي على الخريدة» (٦- ٧).
وقال الكوفيّون: أصل اسم وسم من السّمة، وهي العلامة لأن الاسم علامة لمن وضع له، والمكتوبة التي لفظها الله أبهر أسمائه تعالى وأكثرها استعمالا، وهو المتقدّم لسائرها في الأغلب، وإنما تجيء الأخر أوصافا، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلّا يشكل بخط «اللّات»، وقيل: طرحت تخفيفا.
(٢) في حقيقة الاسم عند المتكلمين خلاف مشهور، فذهب الأشعرية إلى أنه عين المسمى. وذهبت المعتزلة إلى أنه غير المسمى، وقالت الأشعرية وطائفة من المتكلمين: إن الكلام في الاسم والمسمى يعرفك حقيقة صفات معبودك، فتصل بذلك إلى تصحيح توحيدك، فإذا لم ينظر الإنسان ويستدل فكيف يصل إلى المعرفة التي كلفها؟! لكن منع الشافعي رضي الله عنه، وابن حبل، وأكثر الفقهاء، والمحدثين (رضي الله عنهم) طريق الكلام في الاسم والمسمى. حتى قال الشافعي: إذا سمعت الرجل يقول:
الاسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له.
وعلى كل، فطريق المتكلمين غير طريق الفقهاء والمحدثين فإن الفقهاء والمحدثين أخذوا الأمور بالتسليم والنقل، والمتكلمون ركبوا إلى النقل طريق النظر بالعقل، فأقاموا صناعة غير معهودة في السلف، وقالوا: نفتح بها طريق النظر إذ السلف كانوا لقرب عهدهم بالنبوة ولاشتغال أفكارهم بالنظر في ملكوت السماء والأرض مستغنين عن هذه الصناعة إذ كانت الأدلة راسخة في قلوبهم، وطرق الاستدلال نيرة في عقولهم، فلما ذهب ذلك الجيل الجليل وفترت الدواعي، وفشت البدع بسوء النظر، وجب أن يحرّ طريق النظر، وتنهج مسلك العبر، وتبين الأدلة الصحيحة من الفاسدة، وتصان عقائد الخلق عن تشويش المبتدعة والمارقة، فتكلموا بما لم يعهد من السلف الكلام فيه، فمن العلماء من يؤثره ويراه عين الصواب، ومنهم من يجتنبه ويجعله عين الضلال، ومنهم من يتوقف فيه، ومنهم من يرتضي منه أسلوبا دون غيره من الأساليب. انظر: «العلوم المستودعة في السبع المثاني» ١٩ خ.
(٢) قال الشيخ أبو حيان: «وكان القياس الترقي كما تقول: عالم نحرير، وشجاع باسل، لكن أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها، ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها وما لطف، واختاره الزمخشري».
ينظر: «البحر المحيط» (١/ ١٢٨). [.....]
ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كانت قط في الإسلام صلاة بغير: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وروي عن عطاء بن يسار «٣» وغيره...
والسيوطي في «الدر» (١/ ١٩- ٢٠) عن علي وقتادة. وقال الحافظ في «الفتح» (٨/ ٩) : إن الفاتحة مكية، وهو قول الجمهور.
(٢) أخرجه الترمذي (٥/ ٢٩٧)، كتاب «تفسير القرآن»، باب سورة الحجر، حديث (٣١٢٥)، (٥/ ١٥٥)، كتاب «فضائل القرآن»، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب، حديث (٢٨٧٥)، والنسائي (٢/ ١٣٩)، كتاب «الافتتاح»، باب تأويل قول الله (عز وجل) : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، حديث (٩١٤)، وفي «التفسير» (١/ ٥٢٣- ٥٢٤)، رقم (٢٢٥)، والطبري في «تفسيره» (٩/ ١٤٢)، وأحمد (٢/ ٤١٢- ٤١٣)، والدارمي (٢/ ٤٤٦)، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (٥/ ١١٤)، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص ٨٦)، رقم (١٦٥)، وأبو يعلى (١١/ ٣٦٧- ٣٦٨)، رقم (٦٤٨٢)، وابن خزيمة (١/ ٢٥٢)، رقم (٥٠٠، ٥٠١)، وابن حبان (٣/ ٥٣)، رقم (٧٧٥- الإحسان)، والحاكم (١/ ٥٥٧)، والبيهقي (٢/ ٣٧٥- ٣٧٦)، كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبي بن كعب به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٢١) وزاد نسبته إلى أبي عبيد، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبي ذر الهروي في «فضائل القرآن».
(٣) عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد المدني، أحد الأعلام. عن مولاته ميمونة، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وأبي ذرّ وخلق. وعنه أبو سلمة، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو جعفر الباقر، وعمرو بن دينار، وخلق. قال النسائي: ثقة. قال الهيثم بن عديّ: توفي سنة سبع وتسعين. وقال عمرو بن علي: سنة.
وفي تسميتها ب «أمّ الكتاب» حديث رواه أبو هريرة «٣»، واختلف هل يقال لها: «أمّ القرآن» ؟ فكره ذلك ابن سيرين «٤»، وجوزه جمهور العلماء.
وسميت «المثاني» لأنها تثنّى في كل ركعة «٥» وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة.
وأما فضل هذه السورة، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حديث أبيّ بن كعب أنّها لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الفرقان مثلها «٦»، وروي أنها تعدل ثلثي القرآن، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل وكذلك يجيء عدل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: ١] وعدل: إِذا زُلْزِلَتِ [الزلزلة: ١] وغيره.
ينظر: «تهذيب الكمال» (٢/ ٩٣٨)، و «تهذيب التهذيب» (٧/ ٣١٧)، و «تقريب التهذيب» (٢/ ٢٣)، و «سير الأعلام» (٤/ ٤٤٨).
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٧)، والماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٥)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٠)، وعزاه لوكيع في «تفسيره». كلهم عن مجاهد. وابن كثير (١/ ٨) عن أبي هريرة، ومجاهد، وعطاء بن يسار، والزهري. وقال ابن كثير: والأولى أشبه «أي أنها مكية»، لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي والله تعالى أعلم.
(٢) أخرجه البخاري معلقا (٨/ ٦). وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٦)، وابن كثير (١/ ٨). وقال الحافظ في «الفتح» (٨/ ٦) : ويأتي في تفسير «الحجر» حديث أبي هريرة مرفوعا: «أم القرآن هي السبع المثاني» ولا فرق بين تسميتها بأم القرآن، وأم الكتاب، ولعل الذي كره ذلك وقف عند لفظ «الأم».
(٣) أخرجه الترمذي (٥/ ٢٩٧)، كتاب «التفسير»، باب ومن سورة الحجر، حديث (٣١٢٤)، وأبو داود (١/ ٤٦١)، كتاب «الصلاة»، باب فاتحة الكتاب، حديث (١٤٥٧) من طريق ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب والسبع المثاني».
وأخرجه البخاري (٨/ ٢٣٢) بلفظ: «أم القرآن هي السبع، والقرآن العظيم».
وأخرجه البغوي في «شرح السنة» (٣/ ١٣- بتحقيقنا)، وقال: هذا حديث صحيح، وأراد بأم القرآن فاتحة الكتاب، وسميت بأم القرآن لأنها أصل القرآن، وأم كل شيء أصله، وسميت مكة أم القرى كأنها أصلها ومعظمها، وقيل: سميت أم القرآن، لأنها تتقدم القرآن، وكل من تقدم شيئا فقد أمه».
(٤) ينظر: الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٦)، وابن كثير (١/ ٨)، والحافظ في «الفتح» (٨/ ٦)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٠)، وعزاه لابن ضريس في «فضائل القرآن».
(٥) ينظر: «تفسير الطبري» (١/ ١٠٣) طبعة أحمد شاكر.
(٦) تقدم تخريجه قريبا.
[سورة الفاتحة (١) : الآيات ٢ الى ٣]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣)
الحَمْدُ: معناه الثناء الكاملُ، والألف واللام فيه لاِستغراقِ الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر لأنَّ الشكر إنما يكون على فِعْلٍ جميل يسدى إِلى الشاكر، والحمد المجرَّد هو ثناء بصفات المحمود.
قال ص «٣» : وهل الحمدُ بمعنى الشكْر أو الحمدُ أَعمُّ، أو الشكر ثناءٌ على اللَّه بأفعاله، والحمد ثناء عليه بأوصافه؟ ثلاثةُ أقوال. انتهى.
قال الطبريُّ «٤» : الحمدُ لِلَّهِ: ثناءٌ أثنى به على نفسه تعالى، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه فكأنه قال: قولوا: الحمد للَّه/، وعلى هذا يجيء: قولوا: إِيَّاكَ، واهْدِنَا.
ينظر: «الخلاصة» (٣/ ٢١٩)، و «تهذيب التهذيب» (١٢/ ١٠٧)، و «التاريخ الكبير» (٩/ ٣٤).
(٢) «سلاح المؤمن» لتقي الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن علي بن همام، المصري، الشافعي، المتوفى سنة خمس وأربعين وسبعمائة. اشتهر في حياته بالغرناطي. أوله: الحمد لله المنعم على خلقه بجميع آلائه. إلخ، بوبه على واحد وعشرين بابا، وقد اختصره الذهبي محمد بن أحمد الحافظ المتوفى سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ينظر: «كشف الظنون» (٢/ ٩٩٤، ٩٩٥).
(٣) «المجيد» ص ٥٠.
(٤) «تفسير الطبري» (١/ ١٣٩- ١٤٠)، وقد استدل أبو جعفر على حذف ما تعرفه العرب في أحاديثها بقول الشاعر: [الوافر]
واعلم أنني سأكون رمسا | إذا سار النواعج لا يسير |
واعلم يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ | واعلم بِأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ «١» |
(٢) اختلف النحويون في «ايا» هل هو من قبيل الأسماء الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهور على أنه مضمر، وقال الزجاج: هو اسم ظاهر. وقال ابن درستويه. إنه بين الظاهر والمضمر. وقال الكوفيون: مجموع «ايا» ولواحقها هو الضمير. والقائلون بأنه ضمير اختلفوا فيه على أربعة أقوال:
أحدها: أنه كله ضمير.
والثاني: أن «ايا» وحده ضميره، وما بعده اسم مضاف إليه يبين ما يراد به من تكلم، وغيبة، وخطاب.
والثالث: أن «ايا» عماد، وما بعده هو الضمير، وشذت إضافته إلى الظاهر في قولهم: «إذا بلغ الرجل الستين، فإياه وايا الشواب» بإضافة «ايا» إلى الشواب. وهذا يؤيد قول من جعل الكاف والهاء والياء في محل جر إذا قلت: إياك، إياه، إياي.
ينظر: «الدر المصون» (١/ ٧٣)، و «همع الهوامع» (١/ ٦١)، و «الكتاب» (٢/ ٣٥٥)، و «شرح الكافية» (٢/ ١٢)، و «سر صناعة الإعراب» (١/ ٣١١)، و «شرح المفصل» (٣/ ٩٨)، و «الإنصاف» (٢/ ٦٩٥).
(٣) الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم، الفراهيدي، الأزدي، اليحمدي، أبو عبد الرحمن، ولد سنة (١٠٠) هـ. في البصرة. من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، وهو أستاذ سيبويه النحوي، عاش فقيرا صابرا. قال النضر بن شميل: ما رأى الراءون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه. فكر في ابتكار طريقة في الحساب تسهله على العامة فدخل المسجد وهو يعمل فكره فصدمته سارية وهو غافل، فكانت سبب موته سنة (١٧٠) هـ. ب «البصرة». من كتبه «العين»، و «معاني الحروف»، و «العروض»، و «النغم».
ينظر: «وفيات الأعيان» (١/ ١٧٢)، «إنباه الرواة» (١/ ٣٤١)، «نزهة الجليس» (١/ ٨٠)، «الأعلام» (٢/ ٣١٤).
(٤) محمد بن أحمد بن إبراهيم، أبو الحسن المعروف ب «ابن كيسان» : عالم بالعربية من أهل «بغداد»، أخذ عن المبرد وثعلب، من كتبه «المهذب» في النحو، «غريب الحديث»، «معاني القرآن»، «المختار في علل النحو» توفي من (٢٩٩) هـ.
ينظر: «إرشاد الأريب» (٦/ ٢٨٠)، «معجم المطبوعات» (٢٢٩). «نزهة الألباء» (٣٠١)، «شذرات الذهب» (٢/ ٢٣٢)، «كشف الظنون» (١٧٠٣)، «مصابيح الكتاب»، «الأعلام» (٥/ ٣٠٨).
ونَعْبُدُ: معناه: نقيم الشرع والأوامر مع تذلُّل واستكانةٍ، والطريقْ المذلَّل يقال له معبَّدٌ، وكذلك البعير.
ونَسْتَعِينُ معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبرّ من الأصنام.
[سورة الفاتحة (١) : الآيات ٦ الى ٧]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
وقوله تعالى: اهْدِنَا: رغبة لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغ الأمر كلها، فإِذا كانت من الأعلى، فهي أَمْرٌ.
والهِدَايَةُ في اللغة: الإرشادُ، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسِّرون بغير لفظ الإِرشاد وكلها إِذا تأملت راجِعةٌ إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خَلْقِ الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: ٥] ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور: ٤٦]، وإِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: ٥٦] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ [الأنعام: ١٢٥] الآية، قال أبو المعالي «١» : فهذه الآيات لا يتجه جلها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد «٢».
٨ أوقد جاء الهدى بمعنى الدعاء كقوله تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: ٧] أي: داع/ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢].
انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ٢٥٥)، «طبقات السبكي» (٣/ ٢٤٩)، «وفيات الأعيان» (٢/ ٣٤١)، و «الأنساب» (٣/ ٤٣٠)، «شذرات الذهب» (٣/ ٣٥٨)، «النجوم الزاهرة» (٥/ ١٢١)، و «معجم البلدان» (٢/ ١٩٣).
(٢) ينظر: ص ٤٨٦.
قال المفسِّرون: ألهم الحيواناتِ كلَّها إِلى منافعها.
وقد جاء الهدى بمعنى البيان من ذلك قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: ١٧] قال المفسِّرون: معناه: بيَّنَّا لهم.
قال أبو المعالي «١» : معناه: دعوناهُمْ، وقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [الليل: ١٢]، أي: علينا أنْ نبيِّن.
وفي هذا كله معنى الإِرشاد.
قال أبو المعالي: وقد ترد الهدايةُ، والمراد بها إِرشاد المؤمنين إِلى مسالك الجِنَانِ والطرقِ المفضيةِ إِلَيْهَا كقوله تعالى في صفة المجاهدين: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: ٤- ٥] ومنه قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٢٣]، معناه: فاسلكوهم إِليها.
قال ع «٢» : وهذه الهدايةُ بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضدُّ الضلالِ، وهي الواقعة في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ على صحيح التأويلات، وذلك بيِّن من لفظ «الصِّرَاط» والصراط في اللغة: الطريقُ الواضِحُ ومن ذلك قول جَرِيرٍ «٣» :[الوافر]
أَمِيرُ المُؤْمِنيِنَ على صِرَاطٍ | إِذَا اعوج المَوَارِدُ مستقيم «٤» |
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٧٣).
(٣) جرير بن عطية بن حذيفة الخطفى بن بدر الكلبي، اليربوعي، من تميم أشعر أهل عصره، ولد سنة (٢٨) هـ. ومات سنة ١١٠ هـ. في «اليمامة». وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم، وكان هجاءا مرّا، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل، وكان عفيفا، وهو من أغزل الناس شعرا.
ينظر: «الأعلام» (٢/ ١٩)، «وفيات الأعيان» (١/ ١٠٢)، «الشعر والشعراء» (١٧٩)، و «خزانة الأدب» (١/ ٣٦). [.....]
(٤) البيت في مدح هشام بن عبد الملك، ينظر: ديوانه (٥٠٧)، «شرح الديوان» لمحمد بن حبيب (١/ ٢١٨)، «المحتسب» (١/ ٤٣)، «مجاز القرآن» (١/ ٢٤)، «تفسير الطبري» (١/ ٥٦)، «تفسير القرطبي» (١/ ١٠٣)، «اللسان» (سرط)، «الجمهرة» (٢/ ٣٣٠)، «الدر المصون» (١/ ٧٨).
والموارد: الطرق، واحدها موردة.
وقال محمَّد بن الحنفيَّة «٣» : هو دينُ اللَّه الذي لا يَقْبَلُ مِن العِبَادِ غيره «٤».
وقال أبو العالية: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بَكْر وعمر، أي: الصراط المستقيم طريق محمد صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر «٥»، وهذا قويٌّ في المعنى، إلاَّ أنَّ تسمية أشخاصهم طريقاً فيه تجوُّز، ويجتمع من هذه الأقوال كلِّها أنَّ الدعوة هي أنْ يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام وهو حالُ رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه.
وهذا الدعاء إِنما أمر به المؤمنون، وعندهم المعتقدات، وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قوله: اهْدِنَا فيما هو حاصل عندهم: التثبيتُ والدوام، وفيما ليس بحاصل، إِما من جهة الجهل به، أو التقصير في المحافظة عليه: طلب الإرشاد إليه، فكلّ
وقال أحمد شاكر في تحقيقه للطبري: والإسناد إلى علي بن أبي طالب فيه انهيار.
(٢) أخرجه ابن جرير (١٧٨)، وصححه الحاكم (٢/ ٢٥٩)، ووافقه الذهبي. وذكره الماوردي في تفسيره (١/ ٥٩)، والبغوي (١/ ٤١)، وابن كثير (١/ ٢٧)، قال: صحيح، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٤٠) وعزاه لوكيع، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير، والمحاملي في «أماليه»، والحاكم. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(٣) محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو محمد، الإمام المعروف ب «ابن الحنفية» أمه خولة بنت جعفر الحنفية، نسب إليها. عن أبيه، وعثمان، وغيرهما. وعنه بنوه: إبراهيم، وعبد الله، والحسن، وعمرو بن دينار، وخلق. قال إبراهيم بن الجنيد: لا نعلم أحدا أسند عن علي أكثر ولا أصح مما أسند محمد بن الحنفية. قال أبو نعيم: مات سنة ثمانين.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٤٤٠)، و «تهذيب التهذيب» (٩/ ٣٥٤)، و «الكاشف» (٣/ ٨٠)، و «الثقات» (٥/ ٣٤٧).
(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (ص ٥٩)، وابن كثير (ص ٢٧)، وقال: صحيح.
(٥) أخرجه ابن جرير (١/ ١٠٥) برقم (١٨٤)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٥٩)، والبغوي (١/ ٤١)، وابن كثير (١/ ص ٢٧، ٢٨)، وقال: صحيح. وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٤١)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جريج، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن عساكر. ورواه الحاكم في «المستدرك»، عن ابن عباس، وقال: صحيح. ووافقه الذهبي.
وقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، اعلم أنَّ حكم كل مضافٍ إلى معرفة أنْ يكون معرفة، وإنما تنكَّرت «غَيْرٌ» و «مِثْلٌ» «٢» مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك إِذا قلْتَ: رأيتُ غَيْرَكَ، فكلُّ شيء سوى المخاطَبِ، فهو غيره وكذلك إِنْ قُلْتَ: رأيْتُ مثْلَكَ، فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة.
والْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: اليهودُ، والضالُّون: النصارى قاله ابن مسعود، وابن عَبَّاس، مجاهد، والسُّدِّيُّ، وابن زيد «٣».
وروى ذلك عديّ بن حاتم «٤» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «٥»، وذلك بيِّن من كتاب اللَّه لأنَّ ذِكْرَ
(٢) هذا يكون في الإضافة المحضة المعنوية لا الإضافة غير المحضة اللفظية.
(٣) أخرجه الطبري (١/ ١١١- ١١٤) بأرقام (٢٠٠- ٢٠١- ٢٠٢- ٢٠٥- ٢١٤- ٢١٩) عن ابن زيد، ومجاهد، عن ابن عباس، وابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم. وذكره ابن عطية الأندلسي في تفسيره (١/ ٧٧)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٤٢- ٤٣).
وابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني روى عن أبيه، وعن وكيع وابن وهب، وقتيبة، وخلق. ضعّفه أحمد، وابن المديني، والنسائي، وغيرهم. توفي سنة (١٨٢) هـ.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ١٣٣) (٤٠٩٤)، «الجرح والتعديل» (٢/ ٢٣٢- ٢٣٣)، و «المغني» (٢/ ٣٨٠).
(٤) هو: عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم بن ربيعة بن جرول بن ثعلب بن عمرو بن عوث بن طيّ... وقيل في نسبه غير ذلك، أبو الطريف. وقيل: أبو وهب، الطائي.
وهو ابن حاتم الطائي الذي يضرب بكرمه وجوده المثل، وكان هو أيضا كريما جوادا، وقد أسلم بعد أن كان نصرانيا. وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وثبت هو وقومه بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلم وردت كثير من العرب، فجاء إلى أبي بكر بصدقة قومه. وأخباره في الكلام كثيرة، وسيرته بين الصحابة شهيرة. توفي سنة (٦٧) وقيل غير ذلك.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٤/ ٨)، «الإصابة» (٤/ ٢٢٨)، «الثقات» (١/ ٣١٦)، «الاستيعاب» (١٠٥٧)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٣٧٦)، «الطبقات الكبرى» (١/ ٣٢٢)، «التاريخ الكبير» (٧/ ٤٣)، «التاريخ الصغير» (١/ ١٤٨)، «الجرح والتعديل» (٧/ ٢).
(٥) أخرجه الترمذي (٥/ ٢٠٤)، كتاب «تفسير القرآن»، باب ومن سورة فاتحة الكتاب، حديث (٢٩٥٤). -
وأجمع الناسُ على أنَّ عدد آي سورة الحمد سبْعُ آيات العالمين آية، الرحيم آية، الدين آية، نستعين آية، المستقيم آية، أنعمت عليهم آية، ولا الضالين آية، وقد ذكرنا عند تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أن ما ورد من خلاف في ذلك ضعيفٌ.
(القَوْلُ فِي «آمِينَ» )
روى أبو هريرة وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا «آمِينَ»، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ فِي السَّماءِ تَقُولُ: «آميِنَ»، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ، غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه» «١».
وقال الترمذي: هذا حديث حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إِلا من حديث سماك بن حرب، وروى شعبة، عن سماك بن حرب، عن عباد بن حبيش، عن عدي بن حاتم، عن النبي صلّى الله عليه وسلم الحديث بطوله.
وصححه ابن حبان.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٣)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وقد ورد هذا الحديث مرسلا.
أخرجه سعيد بن منصور (١٧٩) ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: «المغضوب عليهم: اليهود، والنصارى هم الضالون».
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١/ ٤٣)، وزاد نسبته إلى سفيان بن عيينة في «تفسيره». وللحديث طرق أخرى ضعيفة أخرجها الطبري في «تفسيره» (١/ ١٩٣).
وللحديث أيضا شاهد من حديث أبي ذر، أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» (١/ ٣٠). وحسنه الحافظ في «الفتح» (٨/ ٩) فقال: وأخرجه ابن مردويه بإسناد حسن عن أبي ذر.
(١) أخرجه مالك (١/ ٨٨)، كتاب «الصلاة»، باب التأمين خلف الإمام، الحديث (٤٧)، وأحمد (٢/ ٤٤٠)، والبخاري (٢/ ٢٦٦)، كتاب «الأذان»، باب جهر المأموم بالتأمين، الحديث (٧٨٢)، ومسلم-
الحديثَ «١». انتهى.
ومعنى «آمِينَ» عند أكثر أهل العلم: اللَّهُمَّ، استجب، أو أجبْ «٢» يَا رَبِّ.
ومقتضى الآثار أنَّ كل داع ينبغي له في آخر دعائه أنْ يقول: «آمِينَ»، وكذلك كل
وأخرجه عبد الرزاق (٢/ ٩٧)، كتاب «الصلاة»، باب آمين، الحديث (٢٦٤٤) بزيادة، فقال: ثنا معمر، عن الزهري، عن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الإمام: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فقولوا: آمين، فإن الملائكة يقولون: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه».
وأخرجه أحمد (٢/ ٢٣٣)، والنسائي (٢/ ١٤٤)، كتاب «الافتتاح»، باب جهر الإمام بآمين، من طريق معمر به. [.....]
(١) أخرجه مسلم (٢/ ٢٨٣: ٢٨٦- الأبي)، كتاب «الصلاة»، باب التشهد في الصلاة، حديث (٦٢/ ٤٠٤)، وأبو داود (١/ ٣١٩- ٣٢٠)، كتاب «الصلاة»، باب التشهد، حديث (٩٧٢)، والنسائي (٢/ ١٩٦)، كتاب «التطبيق»، باب قوله، ربنا لك الحمد، حديث (١٠٦٤). وابن ماجة (١/ ٢٧٦)، كتاب «الصلاة»، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، حديث (٨٤٧)، وأحمد (٤/ ٣٩٣، ٣٩٤، ٤٠١، ٤٠٥، ٤١٥)، وابن خزيمة (١٥٨٤، ١٥٩٣)، والبيهقي (٢/ ٩٦)، كلهم من طريق حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى الأشعري مرفوعا.
(٢) «آمين» ليست من القرآن إجماعا، ومعناها: استجب، فهي اسم فعل مبني على الفتح. وقيل: ليس اسم فعل، بل هو من أسماء الباري تعالى، والتقدير: يا آمين، وقد ضعف أبو البقاء هذا القول بوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يبنى على الضم لأنه منادى مفرد معرفة.
والثاني: أن أسماء الله تعالى توقيفية.
وفي «آمين» لغتان: المد والقصر، تقول العرب: آمين، وأمين، قال الشاعر: [الطويل]
تباعد عنّي فطحلّ إذ دعوته... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وقال المجنون: [البسيط]
يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا... ويرحم الله عبدا قال آمينا
ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (١/ ٥٤)، و «الوسيط» (١/ ٧٠)، و «الدر المصون» (١/ ٨٦)، و «الزاهر» (١/ ١٦١)، و «غرائب النيسابوري» (١/ ٧٥)، وابن كثير (١/ ٣١).
واختلف في معنى قوله صلّى الله عليه وسلم: «فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ»، فقيل: في الإجابة، وقيل: في خلوص النية، وقيل: في الوقت، والذي يترجَّح أنَّ المعنى: فمن وافق في الوقْتِ مع خلوصِ النيةِ والإِقبالِ على الرغبة إِلى اللَّه بقلْبٍ سليمٍ فالإِجابة تتبع حينئذ لأِنَّ من هذه حاله، فهو على الصراط المستقيم.
وفي «صحيح مُسْلِمٍ» وغيره عن أبي هريرة قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ:
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ اللَّهُ: أثنى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: اهدنا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» «٢» انتهى، وعند مالك: «فَهَؤُلاَءِ لِعَبْدِي».
وأسند أبو بكر بن الخَطِيبِ «٣» عن نافعٍ «٤» عن ابن عُمَرَ «٥» قال: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلم: «من
آمين، حتى إنّ للمسجد للجّة.
ينظر: «شرح السنة» (٢/ ٢٠٨).
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي، الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، أحد حفاظ الحديث وضابطيه المتقنين. ولد سنة (٣٩٢)، وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر ابن الصباغ، وشهرته في الحديث تغني عن الإطناب. قال ابن ماكولا: ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله.
وقال الشيرازي: كان أبو بكر يشبه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه. مات (٤٦٣).
انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ٢٤٠)، «طبقات السبكي» (٣/ ١٢)، «وفيات الأعيان» (١/ ٧٦).
(٤) نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو سهيل المدني عن ابن عمر، وأنس. وعنه ابن أخيه مالك بن أنس، والزهري. وثقه أبو حاتم وغيره. قال الواقدي: هلك في إمارة أبي العباس.
ينظر: «تاريخ الإسلام» (٥/ ٣٠٧)، «الثقات» (٥/ ٤٧١)، «تراجم الأحبار» (٤/ ١٣٩)، «تاريخ أسماء الثقات» (١٤٧٣)، «سير الأعلام» (٥/ ٢٨٣)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٤٠٤)، «تهذيب التهذيب» (١٠/ ٤٠٩) (٧٣٧)، «خلاصة تهذيب الكمال» (٣/ ٨٩)، «الكاشف» (٣/ ١٩٧).
(٥) عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن-
وقال ابن العربيِّ «١» في «أحكامه» «٢» : والصحيحُ عندي وجوبُ قراءتها على المأمومِ فيما أسر فيه، وتحريمها فيما جهر فيه، إذا سمع/ الإِمام لِمَا عليه من وجوب الإِنصاتِ ٩ أوالاستماع، فإِنْ بَعُدَ عن الإِمام، فهو بمنزلة صلاة السرِّ. انتهى.
نجز تفسير سورة الحَمْدِ، والحَمْدُ للَّه بجميع محامده كلِّها ما علمْتُ منها، وما لم أعلم.
ينظر ترجمته في: «الإصابة» (٤/ ١٠٧)، «أسد الغابة» (٣/ ٣٤٠)، «الثقات» (٣/ ٢٠٩)، «شذرات الذهب» (٢/ ١٥)، «الجرح والتعديل» (٥/ ١٠٧)، «سير أعلام النبلاء» (٣/ ٢٠٣)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٣٢٥)، «تقريب التهذيب» (١/ ٤٣٥)، «تهذيب التهذيب» (٥/ ٣٢٨).
(١) محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأشبيلي المالكي، أبو بكر بن العربي، ولد (٤٦٨) هـ. ، من حفاظ الحديث بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، صنف كتبا في الحديث، والفقه، والأصول، والتفسير، والأدب، والتاريخ، وولي قضاء إشبيلية، من مؤلفاته «أحكام القرآن» و «المحصول»، و «الناسخ والمنسوخ»، وغيرها كثير، توفي (٥٤٣) هـ.
ينظر: «طبقات الحفاظ» للسيوطي، «وفيات» (١/ ٤٨٩)، «نفح الطيب» (١/ ٣٤٠)، «قضاة الأندلس» (١٠٥)، «جذوة الاقتباس» (٢١٦٠)، «الأعلام» (٦/ ٢٣٠).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٥).
تفسير سورة البقرة «١»
هذه السورة مدنيّة نزلت في مدد شتّى، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين: قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم.
وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية وأساليب الكتب التشريعية وأساليب التذكير والموعظة. يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده، وانتظارهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن، فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقعا على نفوسهم، فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: ٢٣] الآيات.
فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة، وكانوا قبل الهجرة صنفين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي، وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين- ابتدئ بذكرهم، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفي المشركين الصرحاء، والمنافقين، لف الفريقان لفا واحدا، فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم، ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت من أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العجز على الصدر، فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا، وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم، ومنّه على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى، وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها، فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدي القرآن، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل-
ثم قرن اليهود والنصارى والمشركين في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ- إلى قوله- وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:
١٠٥- ١١٢] ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى، وادعاء كل فريق أنه هو المحق وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ- إلى- يَخْتَلِفُونَ [البقرة: ١١٢] ثم خص المشركين بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، وسمحوا بذلك في خرابه، وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام.
والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة، ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية، وذكر شعائر الله بمكة، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة، وإن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة: ١٧٧] وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم، وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما. ثم عاد إلى محاجة المشركين بآثار صنعة الله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ [البقرة: ١٦٤] إلخ ومحاجة المشركين في يوم يتبرءون فيه من قادتهم، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: ١٧٢] وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل، وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [البقرة: ٢٠٤].
ولما قضى حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة: ١٧٧] ثم تفصيلا: القصاص، الوصية، الصيام، الاعتكاف، الحج، الجهاد، ونظام المعاشرة والعائلة والمعاملات المالية، والإنفاق في سبيل الله والصدقات، والمسكرات، واليتامى، والمواريث، والبيوع، والربا، والديون، والإشهاد، والرهن، والنكاح، وأحكام النساء والعدة والطلاق، والرضاع، والنفقات، والأيمان.
وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية، وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذليلا وفذلكة: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة: ٢٨٤] الآيات.
وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سيقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا-
ت: وها أنا إن شاء الله أذكر أصل الحديث بكماله لما اشتمل عليه من الفوائد العظيمة.
خرّج الحاكم أبو عبد الله «٤» في «المستدرك على الصحيحين»
ينظر: «التحرير» (١/ ٢٠٣- ٢٠٦).
(١) وهي السور المبدوءة ب «طس» أو «طسم». [.....]
(٢) «موسى» اسم عبراني معرب عن «موشى»، «مو» بالعبرانية: الماء، و «شى» الشجر، سمي به لأنه أخذ من بين الماء والشجر. وهو اسم نبي بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام، وهو علم أعجمي لا يقضى عليه بالاشتقاق، وإنما يشتق «موسى الحديد». ينظر: «التبيان» (١/ ٦٣).
وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل.
«الكامل» لابن الأثير (١/ ١٦٩).
(٣) أخرجه الحاكم (١/ ٥٦١)، (٢/ ٢٥٩)، وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (٢/ ٤٨٥)، رقم (٢٤٧٨)، كلاهما من طريق عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن معقل بن يسار به مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي فقال: عبيد الله، قال أحمد: تركوا حديثه.
(٤) محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم، الضبي، الطهماني، الحافظ أبو عبد الله، الحاكم النيسابوري المعروف بابن البيع، صاحب «المستدرك»، وغيره من الكتب المشهورة، كان مولده سنة (٣٢١)، ورحل في طلب الحديث، وسمع الكثير على شيوخ يزيدون على ألفين، وتفقه على أبي علي بن أبي هريرة وأبي الوليد النيسابوري وأبي سهل الصعلوكي وغيرهم، أخذ عنه أبو بكر البيهقي وصنف المصنفات الكثيرة. مات سنة (٤٠٥). انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ١٩٣)، «لسان الميزان» (٥/ ٢٣٢).
مصدّق، وإنّي أعطيت سورة البقرة من الذّكر الأوّل وأعطيت طه والطّواسين والحواميم «٣» من الواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش» «٤»، ما حل بالمهملة، أي:
ساع، وقيل: خصم. انتهى من «السّلاح».
وفي الحديث الصحيح، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنّهما غيايتان «٥»، بينهما شرق، أو غمامتان سوداوان، أو كأنّهما ظلّة من طير صوافّ تجادلان عن صاحبهما» «٦».
ت: أصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهليّ «٧» رضي اللَّه عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه
ينظر: «الخلاصة» (٣/ ٤٥)، و «تهذيب التهذيب» (١٠/ ٢٣٥)، و «الثقات» (٣/ ٣٩٢).
(٢) أي: خصم مجادل مصدق. وقيل: ساع مصدق، من قولهم: محل بفلان، إذا سعي به إلى السلطان، يعني أن من اتبعه وعمل بما فيه، فإنه شافع له مقبول الشفاعة، ومصدق عليه فيما يرفع من مساويه إذا ترك العمل به.
ينظر: «النهاية» (٤/ ٣٠٣).
(٣) يعني السور المبدوءة ب «حم».
(٤) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٣/ ٥٧٨) كتاب «معرفة الصحابة» باب معقل بن يسار وسكت عنه هو والذهبي.
(٥) الغياية: السحابة المنفردة، أو هي كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه. ينظر: «النهاية» (٣/ ٤٠٣)، و «لسان العرب» (٣٣٣٢).
(٦) سيأتي تخريجه.
(٧) هو: صدي بن عجلان بن الحارث وقيل: عجلان بن وهب... أبو أمامة. الباهلي. السهمي. سكن «مصر» ثم انتقل منها فسكن «حمص» من الشام، ومات بها، وكان من المكثرين في الرواية، وأكثر حديثه عند الشاميين. وقال ابن الأثير في موضع آخر. روى عنه سليم بن عامر الجنائزي، والقاسم أبو عبد الرحمن، وأبو غالب حزور، وشرحبيل بن مسلم، ومحمد بن زياد، وغيرهم. توفي سنة (٨١).
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ١٦)، (٦/ ١٦)، «الإصابة» (٧/ ٩)، «الاستيعاب» (٤/ ١٦٠٢) «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ١٤٨)، «بقي بن مخلد» (١٧)، «الطبقات الكبرى» (١/ ٤١٥).
أبو عبيد: الغياية كلّ شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه، وهو مثل السحابة، وفرقان بكسر الفاء، أي: جماعتان. انتهى من «السلاح».
وروى أبو هريرة عنه صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: «لكلّ شيء سنام، وسنام القرآن سورة البقرة فيها آية هي سيّدة آي القرآن، هي آية الكرسيّ» «٤»، وفي «البخاريّ» أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «من قرأ
(٢) هو: معاوية بن صخر (أبي سفيان) بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الرحمن.
القرشي. الأموي. أمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، قيل: ولد قبل البعثة بخمس سنين، وقيل: بسبع، وقيل: بثلاث عشرة، والقول الأول أشهر على الصحيح من الأقوال. وهو خال المؤمنين، وكاتب النبي صلّى الله عليه وسلم وهو الذي طالب بدم عثمان، فكان من الحروب بينه وبين عليّ ما كان، وإسلامه وحروبه وإمارته شهيرة جدّا، ولا يتسع المقام للحديث عنه. توفي في رجب سنة (٦٠) هـ.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٥/ ٢٠٩)، «الإصابة» (٦/ ١١٢)، «الاستيعاب» (٣/ ١٤١٦)، «الاستبصار» (٤٠، ٦٧)، «الكاشف» (٣/ ١٥٧)، «الأعلام» (٧/ ٢٦١)، «شذرات الذهب» (١/ ٤١٨)، «العبر» (١/ ٥٤٩)، «العقد الثمين» (٧/ ٢٢٧)، «تهذيب التهذيب» (١٠/ ٢٠٧)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٣٤٤)، «التاريخ الكبير» (٧/ ٣٢٦).
(٣) أخرجه مسلم (١/ ٥٥٣)، كتاب «صلاة المسافرين»، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، حديث (٢٥٢)، وأحمد (٥/ ٢٤٩)، والطبراني في «الكبير» (٨/ ١٣٩)، رقم (٧٥٤٤)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٢/ ٣٩٥)، كتاب «الصلاة»، باب المعاهدة على قراءة القرآن، وفي «شعب الإيمان» (٢/ ٤٥١)، رقم (٢٣٧٢)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ١٩- بتحقيقنا)، كلهم من طريق معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام أنه سمع أبا أمامة، فذكره.
وللحديث شاهد من حديث النواس بن سمعان الكلابي: أخرجه مسلم (١/ ٥٥٣) كتاب «صلاة المسافرين»، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، حديث (٢٥٣)، والترمذي (٥/ ١٦٠)، كتاب «فضائل القرآن»، باب ما جاء في سورة آل عمران، حديث (٢٨٨٣). والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢٣٧٣)، عن النواس بن سمعان بنحو حديث أبي أمامة.
(٤) أخرجه الترمذي (٥/ ١٥٧)، كتاب «فضائل القرآن»، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، حديث (٢٨٧٨)، وعبد الرزاق (٣/ ٣٧٦- ٣٧٧)، رقم (٦٠١٩)، والحميدي (٢/ ٤٣٧)، رقم (٩٩٤)، والحاكم (١/ ٥٦٠- ٥٦١)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢/ ٤٥٢)، رقم (٢٣٧٥)، وابن عدي في «الكامل» (٢/ ٦٣٧). كلهم من طريق حكيم بن جبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا. -[.....]
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه والشيخان لم يخرجا عن حكيم لوهن في رواياته، وإنما تركاه لغلوه في التشيع. ووافقه الذهبي.
قلت: والشيخان لم يتركا حكيم لتشيعه فقط، إنما لضعفه أيضا.
فقال الحافظ في «التقريب» (١٤٦٨) : ضعيف، رمي بالتشيع، ولأول الحديث شاهد من حديث سهل بن سعد: أخرجه أبو يعلى (١٣/ ٥٤٧)، رقم (٧٥٥٤)، وابن حبان (١٧٢٧- موارد)، والعقيلي في «الضعفاء» (٢/ ٦)، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (١/ ١٠١)، والطبراني في «الكبير» (٦/ ١٦٣)، رقم (٥٨٦٤) كلهم من طريق خالد بن سعيد المدني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد به.
وخالد بن سعيد، قال العقيلي: لا يتابع على حديثه.
وقال: وفي فضل سورة البقرة رواية أحسن من هذا الإسناد وأصلح.
والنسائي في «الكبرى» (٥/ ١٤)، كتاب «فضائل القرآن»، باب الآيتان من سورة البقرة، حديث (٨٠٢٠)، والحميدي (١/ ٢١٥)، رقم (٤٥٢)، وعبد الرزاق (٣/ ٣٧٧)، رقم (٦٠٢١)، وابن خزيمة (٢/ ١٨٠)، رقم (١١٤١)، كلهم من طريق سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة، عن أبي مسعود به مرفوعا. وعند بعضهم: قال عبد الرحمن: ثم لقيت أبا مسعود في الطواف فسألته عنه، فحدثني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم... ، وذكر الحديث وللحديث طرق أخرى واختلاف فيها تكلم عليها الحافظ علي بن عمر الدارقطني في كتابه القيم «العلل الواردة في الأحاديث النبوية» (٦/ ١٧١- ١٧٤).
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٦٧٢)، كتاب «فضائل القرآن» : باب فضل سورة البقرة، حديث (٥٠٠٩)، ومسلم (١/ ٥٥٥)، كتاب «صلاة المسافرين» : باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة (٢٥٥/ ٨٠٧)، وأبو داود (١/ ٤٤٤)، كتاب «الصلاة»، باب تحزيب القرآن، حديث (١٣٩٧)، والترمذي (٥/ ١٥٩)، كتاب «فضائل القرآن»، باب ما جاء في آخر سورة البقرة، حديث (٢٨٨١)، والنسائي في «الكبرى»، (٥/ ٩) كتاب «فضائل القرآن»، باب سورة كذا وسورة كذا، حديث (٨٠٠٣)، و (٥/ ١٤)، باب الآيتان من آخر سورة البقرة، حديث (٨٠١٨)، وأحمد (٤/ ١٢١، ١٢٢)، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص ١٠٥- ١٠٦)، رقم (٢٣٣)، وعبد الرزاق (٣/ ٣٧٧)، رقم (٦٠٢٠)، والدارمي (١/ ٢٨٨)، وسعيد بن منصور (٤٧٥)، وابن الضريس في «فضائل القرآن» (ص- ٨٣)، رقم (١٦١)، والطبراني في «الكبير» (١٧/ ٢٠٤- ٢٠٥) رقم (٥٥٠، ٥٥٢)، والبيهقي في «السنن الكبرى»، (٣/ ٢٠)، كتاب «الصلاة»، باب كم يكفي الرجل قراءة القرآن في ليله، وفي «شعب الأيمان» (٢/ ٤٦٢)، رقم (٢٤٠٥، ٢٤٠٦)، كلهم من طريق منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنت أحدّث عن أبي مسعود حديثا فلقيته وهو يطوف بالبيت، فسألته، فحدث عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه».
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: والذي حدث عبد الرحمن بن يزيد بهذا الحديث هو علقمة بلا شك فأخرجه البخاري (٨/ ٧١٢)، كتاب «فضائل القرآن»، باب في كم يقرأ القرآن، حديث (٥٠٥١).
سورة الفاتحة
سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.
ترتيبها المصحفي
1نوعها
مكيةألفاظها
29ترتيب نزولها
5العد المدني الأول
7العد المدني الأخير
7العد البصري
7العد الكوفي
7العد الشامي
7أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:
* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):
دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).
* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).
* (السَّبْعُ المَثَاني):
دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).
* سورة (الصَّلاة):
فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).
* سورة (الرُّقْية):
دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).
وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).
* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:
فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).
* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:
لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).
* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:
لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).
* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):
فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).
* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:
فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).
اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:
أولًا: الألوهيَّة.
ثانيًا: اليوم الآخر.
ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).
رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.
وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:
توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.
وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.
وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.
وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.
وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.
وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).
بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:
أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.
ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.
ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.
فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.
ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.
ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).