تفسير سورة الفاتحة

البحر المحيط في التفسير

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب البحر المحيط في التفسير
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الفاتحة
قال علي، وابن عباس، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبو العالية، وعطاء، وابن جبير، ومحمد بن يحيى بن حبان، وجعفر الصادق، الفاتحة مكية، ويؤيده ﴿ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم ﴾ والحجر مكية، بإجماع.
وفي حديث أبي : إنها السبع المثاني والسبع الطوال، أنزلت بعد الحجر بمدد، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كانت في الإسلام صلاة بغير ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾.
وقال أبو هريرة، وعطاء بن يسار، ومجاهد، وسواد بن زياد، والزهري، وعبد الله بن عبيد بن عمير : هي مدنية، وقيل إنها مكية مدنية.
سورة الفاتحة ١
[سورة الفاتحة (١) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بَاءُ الْجَرِّ تَأْتِي لِمَعَانٍ: لِلْإِلْصَاقِ، وَالِاسْتِعَانَةِ، وَالْقَسَمِ، وَالسَّبَبِ، وَالْحَالِ، وَالظَّرْفِيَّةِ، وَالنَّقْلِ. فَالْإِلْصَاقُ: حَقِيقَةً مَسَحْتُ بِرَأْسِي، وَمَجَازًا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ. وَالِاسْتِعَانَةُ: ذَبَحْتُ بِالسِّكِّينِ. وَالسَّبَبُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا «١».
وَالْقَسَمُ: بِاللَّهِ لَقَدْ قَامَ. وَالْحَالُ: جَاءَ زَيْدٌ بِثِيَابِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ: زَيْدٌ بِالْبَصْرَةِ. وَالنَّقْلُ: قُمْتُ بِزَيْدٍ. وَتَأْتِي زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ: شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ. وَالْبَدَلُ: فَلَيْتَ لِي بِهِمْ قَوْمًا أَيْ بَدَلَهُمْ.
وَالْمُقَابَلَةُ: اشْتَرَيْتُ الْفَرَسَ بِأَلْفٍ. وَالْمُجَاوَزَةُ: تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ أَيْ عَنِ الْغَمَامِ.
وَالِاسْتِعْلَاءُ: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ. وَكَنَّى بَعْضُهُمْ عَنِ الْحَالِ بِالْمُصَاحَبَةِ، وَزَادَ فِيهَا كَوْنَهَا لِلتَّعْلِيلِ. وَكَنَّى عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِالسَّبَبِ، وَعَنِ الْحَالِ، بِمَعْنَى مَعَ، بِمُوَافَقَةِ مَعْنَى اللَّامِ.
وَيُقَالُ اسْمٌ بِكَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَضَمِّهَا، وَسِمٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا، وَسُمًى كَهُدًى، وَالْبَصْرِيُّ يَقُولُ: مَادَّتُهُ سِينٌ وَمِيمٌ وَوَاوٌ، وَالْكُوفِيُّ يَقُولُ: وَاوٌ وَسِينٌ وَمِيمٌ، وَالْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ.
وَالِاسْتِدْلَالُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ: أَلْ لِلْعَهْدِ فِي شَخْصٍ أَوْ جِنْسٍ، وَلِلْحُضُورِ، وَلِلَمْحِ الصِّفَةِ، وَلِلْغَلَبَةِ، وَمَوْصُولَةٌ. فَلِلْعَهْدِ فِي شَخْصٍ: جَاءَ الْغُلَامُ، وَفِي جِنْسٍ: اسْقِنِي الْمَاءَ، وَلِلْحُضُورِ: خَرَجْتُ فَإِذَا الْأَسَدُ، وَلِلَمْحٍ: الْحَارِثُ، وَلِلْغَلَبَةِ: الدَّبَرَانِ. وَزَائِدَةٌ لَازِمَةٌ، وَغَيْرُ لَازِمَةٍ، فَاللَّازِمَةُ: كَالْآنَ، وَغَيْرُ اللَّازِمَةِ: بَاعَدَ أُمَّ الْعَمْرِ مِنْ أَسِيرِهَا، وَهَلْ هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفَيْنِ أَمْ هِيَ حَرْفٌ وَاحِدٌ؟ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ حَرْفَيْنِ، فَهَلِ الْهَمْزَةُ زَائِدَةٌ أَمْ لَا؟ مَذَاهِبُ. وَاللَّهُ علم لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى المعبود بحق مرتحل غَيْرِ مُشْتَقٍّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وقيل مشتق، ومادته
(١) سورة النساء: ٤/ ١٦٠.
27
قِيلَ: لَامٌ وَيَاءٌ وَهَاءٌ، مِنْ لَاهَ يَلِيهُ، ارْتَفَعَ. قِيلَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الشَّمْسُ إِلَاهَةً، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، وَقِيلَ: لَامٌ وَوَاوٌ وَهَاءٌ مِنْ لَاهَ يَلُوهُ لَوْهًا، احتجب أو استتار، وَوَزْنُهُ إِذْ ذَاكَ فَعَلَ أَوْ فَعِلَ، وَقِيلَ: الْأَلِفُ زَائِدَةٌ وَمَادَّتُهُ هَمْزَةٌ وَلَامٌ، مِنْ أَلِهَ أَيْ فَزِعَ، قاله ابن إسحاق، أو أَلَّهَ تَحَيَّرَ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ، وَأَلَّهَ عَبَدَ، قَالَهُ النَّضْرُ، أَوْ أَلَهَ سَكَنَ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ اعْتِبَاطًا، كَمَا قِيلَ فِي نَاسٍ أَصْلُهُ أُنَاسٌ، أَوْ حُذِفَتْ لِلنَّقْلِ وَلَزِمَ مَعَ الْإِدْغَامِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ شَاذٌّ. وَقِيلَ: مَادَّتُهُ وَاوٌ وَلَامٌ وَهَاءٌ، مِنْ وَلِهَ، أَيْ طَرِبَ، وَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ فِيهِ مِنَ الْوَاوِ نَحْوَ أَشَاحَ، قَالَهُ الْخَلِيلُ وَالْقَنَّادُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِلُزُومِ الْبَدَلِ. وَقَوْلُهُمْ فِي الْجَمْعِ آلِهَةٌ، وَتَكُونُ فِعَالًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْكِتَابِ يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ. وَأَلْ فِي اللَّهِ إِذَا قُلْنَا أَصْلُهُ الْإِلَاهُ، قَالُوا لِلْغَلَبَةِ، إِذِ الْإِلَهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَاللَّهُ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْمَعْبُودِ بِالْحَقِّ، فَصَارَ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا. وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَالنَّجْمِ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْحَذْفِ وَالنَّقْلِ أَوِ الْإِدْغَامِ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى كُلِّ إِلَهٍ، ثُمَّ غُلِّبَ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ، وَوَزْنُهُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ فِعَالٌ، فَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ عَالٌ. وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَقَاوِيلِ السَّابِقَةِ، فَأَلْ فِيهِ زَائِدَةٌ لَازِمَةٌ، وَشَذَّ حَذْفُهَا فِي قَوْلِهِمْ لَاهَ أَبُوكَ شُذُوذَ حَذْفِ الْأَلِفِ فِي أَقْبَلَ سَيْلٌ. أَقْبَلَ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَلْ فِي اللَّهِ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَوَصَلَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَالسُّهَيْلِيِّ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ وَزْنَهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ فَعَّالًا، وَامْتِنَاعُ تَنْوِينِهِ لَا مُوجِبَ لَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَلْ حَرْفٌ دَاخِلٌ عَلَى الْكَلِمَةِ سَقَطَ لِأَجْلِهَا التَّنْوِينُ. وَيَنْفَرِدُ هَذَا الِاسْمُ بِأَحْكَامٍ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا قِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ لَاهَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَعُرِّبَ، قَالَ:
كحلفة من أبي رياح... يَسْمَعُهَا لَاهُهُ الْكِبَارُ
قَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَلْخِيِّ: هُوَ أَعْجَمِيٌّ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ لَاهَا، وَأَخَذَتِ الْعَرَبُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَغَيَّرُوهَا فَقَالُوا اللَّهُ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا قِيلَ فِي اللَّهِ أَنَّهُ صِفَةٌ وَلَيْسَ اسْمَ ذَاتٍ، لِأَنَّ اسْمَ الذَّاتِ يُعْرَفُ بِهِ الْمُسَمَّى، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُدْرَكُ حِسًّا وَلَا بَدِيهَةً، وَلَا تُعْرَفُ ذَاتُهُ بِاسْمِهِ، بَلْ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِصِفَاتِهِ، فَجَعْلُهُ اسْمًا لِلذَّاتِ لَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ. وَكَانَ الْعِلْمُ قَائِمًا مُقَامَ الْإِشَارَةِ، وَهِيَ مُمْتَنِعَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ الْأَخِيرَةُ مِنَ اللَّهِ لِئَلَّا يُشْكِلَ بِخَطِّ اللَّاهِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ لَهَا يَلْهُو، وَقِيلَ طُرِحَتْ تَخْفِيفًا، وَقِيلَ هِيَ لُغَةٌ فَاسْتُعْمِلَتْ فِي الْخَطِّ.
الرَّحْمنِ: فَعْلَانُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَأَصْلُ بِنَائِهِ مِنَ اللَّازِمِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَشَذَّ مِنَ
28
الْمُتَعَدِّي، وَأَلْ فِيهِ لِلْغَلَبَةِ، كَهِيَ فِي الصَّعْقِ، فَهُوَ وَصْفٌ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ اللَّهِ، كَمَا لَمْ يُسْتَعْمَلِ اسْمُهُ فِي غَيْرِهِ، وَسَمِعْنَا مَنَاقِبَهُ، قَالُوا: رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَوَصْفُ غَيْرِ اللَّهِ بِهِ مِنْ تَعَنُّتِ الْمُلْحِدِينَ، وَإِذَا قُلْتَ اللَّهُ رَحْمَنٌ، فَفِي صَرْفِهِ قَوْلَانِ لِيُسْنَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى أَصْلٍ عَامٍّ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الِاسْمِ الصَّرْفُ، وَالْآخَرُ إِلَى أَصْلٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ فَعْلَانَ الْمَنْعُ لِغَلَبَتِهِ فِيهِ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ أَعْجَمِيٌّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَعُرِّبَ بِالْحَاءِ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ.
الرَّحِيمِ: فَعِيلٌ مُحَوَّلٌ مِنْ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْثِلَةِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ:
فَعَّالٌ، وَفَعُولٌ، وَمِفْعَالٌ، وَفَعِيلٌ، وَفَعِلٌ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِعِّيلًا فِيهَا: نَحْوَ سِكِّيرٍ، وَلَهَا بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ، قِيلَ: وَجَاءَ رَحِيمٌ بِمَعْنَى مَرْحُومٍ، قَالَ الْعَمَلَّسُ بْنُ عَقِيلٍ:
فَأَمَّا إِذَا عَضَّتْ بِكَ الْأَرْضُ عَضَّةً فَإِنَّكَ مَعْطُوفٌ عَلَيْكَ رَحِيمٌ
قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ، الْفَاتِحَةُ مَكِّيَّةٌ
، وَيُؤَيِّدُهُ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «١». وَالْحِجْرُ مَكِّيَّةٌ، بِإِجْمَاعٍ. وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ: إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالسَّبْعُ الطِّوَالُ، أُنْزِلَتْ بَعْدَ الْحِجْرِ بِمُدَدٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَانَ بِمَكَّةَ، وَمَا حُفِظَ أَنَّهُ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ صَلَاةٌ بِغَيْرِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَوَادُ بْنُ زِيَادٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ:
هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَقِيلَ إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ مَدَنِيَّةٌ.
الْبَاءُ فِي بِسْمِ اللَّهِ لِلِاسْتِعَانَةِ، نَحْوَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ، أَيْ بَدَأْتُ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَكَذَا كُلُّ فاعل بدىء فِي فِعْلِهِ بِالتَّسْمِيَةِ كَانَ مضمرا لا بدأ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِعْلًا غَيْرَ بَدَأْتُ وَجَعَلَهُ مُتَأَخِّرًا، قَالَ: تَقْدِيرُهُ بِسْمِ اللَّهِ أَقْرَأُ أَوْ أَتْلُو، إِذِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ مَقْرُوءٌ، وَالتَّقْدِيمُ عَلَى الْعَامِلِ عِنْدَهُ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى ضَرَبْتُ زَيْدًا مَا نَصُّهُ: وَإِذَا قَدَّمْتَ الِاسْمَ فَهُوَ عَرَبِيٌّ جَيِّدٌ كَمَا كَانَ ذَلِكَ، يَعْنِي تَأْخِيرُهُ عَرَبِيًّا جَيِّدًا وَذَلِكَ قَوْلُكَ زَيْدًا ضَرَبْتُ. وَالِاهْتِمَامُ وَالْعِنَايَةُ هُنَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، سَوَاءٌ مِثْلُهُ فِي ضرب زيد عمر، أو ضرب زيدا عمر، وانتهى، وَقِيلَ مَوْضِعُ اسْمٍ رَفْعٌ التقدير ابتدائي بأبت، أَوْ مُسْتَقِرٌّ بِاسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَيُّ التَّقْدِيرَيْنِ أَرْجَحُ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَمَلِ لِلْفِعْلِ، أَوِ الثَّانِي لِبَقَاءِ أحد جزأي الإسناد.
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٨٥.
29
وَالِاسْمُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْعِيَانِ، إِنْ كَانَ مَحْسُوسًا، وَفِي الْأَذْهَانِ، إِنْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ بِبِنْيَتِهِ لِلزَّمَانِ، وَمَدْلُولُهُ هُوَ الْمُسَمَّى، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: (فَالْكُلُّ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ)، وَالتَّسْمِيَةُ جَعْلُ ذَلِكَ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَقَدِ اتَّضَحَتِ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى وَالتَّسْمِيَةِ. فَإِذَا أَسْنَدْتَ حُكْمًا إِلَى اسْمٍ، فَتَارَةً يَكُونُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، نَحْوَ: زَيْدٌ اسْمُ ابْنِكَ، وَتَارَةً لَا يَصِحُّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهِ إِلَّا مَجَازًا، وَهُوَ أَنْ تُطْلِقَ الِاسْمَ وَتُرِيدَ بِهِ مَدْلُولَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ «١»، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ «٢»، وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ «٣».
وَالْعَجَبُ مِنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ، هَلِ الِاسْمُ هُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ، وَابْنُ السَّيِّدِ، وَالسُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرُوا احْتِجَاجَ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَأَطَالُوا فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَأَوَّلَ السُّهَيْلِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلَهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ بِأَنَّهُ أَقْحَمَ الِاسْمَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِقَلْبِكَ وَلِسَانِكَ حَتَّى لَا يَخْلُوَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ مِنَ اللَّفْظِ بِاللِّسَانِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ مُتَعَلِّقُهُ الْمُسَمَّى الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالِاسْمِ، وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مُتَعَلِّقُهُ اللَّفْظُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً بِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ كَاذِبَةٌ غَيْرُ وَاقِعَةٍ عَلَى حَقِيقَةٍ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا إِلَّا الْأَسْمَاءَ الَّتِي اخْتَرَعُوهَا، وَهَذَا مِنَ الْمَجَازِ الْبَدِيعِ.
وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ بِسْمِ هُنَا فِي الْخَطِّ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَوْ كُتِبَتْ بِاسْمِ الْقَاهِرِ أَوْ بِاسْمِ الْقَادِرِ. فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ: تُحْذَفُ الْأَلِفُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تُحْذَفُ إِلَّا مَعَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ إِنَّمَا كَثُرَ فِيهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ الْأَلِفِ.
وَالرَّحْمَنُ صِفَةٌ الله عِنْدَ الْجَمَاعَةِ. وَذَهَبَ الْأَعْلَمُ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، وَزَعَمَ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَمٌ، وإن كان مشتقا من الرَّحْمَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الرَّحِيمِ وَلَا الرَّاحِمِ، بَلْ هُوَ مِثْلُ الدَّبَرَانِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ دَبَرَ صِيغَ لِلْعَلَمِيَّةِ، فَجَاءَ عَلَى بِنَاءٍ لَا يَكُونُ فِي النُّعُوتِ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى عَلَمِيَّتِهِ وَوُرُودِهِ غَيْرَ تَابِعٍ لِاسْمٍ قَبْلَهُ، قَالَ تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «٤» الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ «٥» وَإِذَا ثَبَتَتِ الْعَلَمِيَّةُ امْتَنَعَ النَّعْتُ، فَتَعَيَّنَ الْبَدَلُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ: الْبَدَلُ فِيهِ عِنْدِي مُمْتَنِعٌ، وَكَذَلِكَ عَطْفُ الْبَيَانِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْأَوَّلَ لا يفتقر
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٧٨.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٥.
(٣) سورة الأعلى: ٨٧/ ١.
(٤) سورة الرحمن: ٥٥/ ١.
(٥) سورة يوسف: ١٢/ ٤٠.
30
إِلَى تَبْيِينٍ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ الْأَعْلَامِ كُلِّهَا وَأَبْيَنُهَا، أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ، وَلَمْ يَقُولُوا: وَمَا اللَّهُ، فَهُوَ وَصْفٌ يُرَادُ بِهِ الثَّنَاءُ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَعْلَامِ.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قِيلَ دَلَالَتُهُمَا وَاحِدٌ نَحْوَ نَدْمَانَ وَنَدِيمٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، فَالرَّحْمَنُ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً، وَكَانَ الْقِيَاسُ التَّرَقِّي، كَمَا تَقُولُ: عَالِمٌ نِحْرِيرٌ، وَشُجَاعٌ بَاسِلٌ، لَكِنْ أَرْدَفَ الرَّحْمَنَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولَهَا بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِيَتَنَاوَلَ مَا دَقَّ مِنْهَا وَلَطُفَ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ الرَّحِيمُ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ جِهَةَ الْمُبَالَغَةِ مُخْتَلِفَةٌ، فَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ. فَمُبَالَغَةُ فَعْلَانَ مِثْلَ غَضْبَانَ وَسَكْرَانَ مِنْ حَيْثُ الِامْتِلَاءُ وَالْغَلَبَةُ، وَمُبَالَغَةُ فَعِيلٍ مِنْ حَيْثُ التَّكْرَارُ وَالْوُقُوعُ بِمَحَالِّ الرَّحْمَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى فَعْلَانُ، وَيَتَعَدَّى فَعِيلٌ. تَقُولُ زَيْدٌ رَحِيمُ الْمَسَاكِينِ كَمَا تَعَدَّى فَاعِلًا، قَالُوا زَيْدٌ حَفِيظُ عِلْمِكَ وَعِلْمِ غَيْرِكَ، حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ عَنِ الْعَرَبِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى تَوْكِيدِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، احْتَاجَ أَنَّهُ يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَوْضُوعِ عِنْدَهُ وَاحِدًا لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنِ التَّأْكِيدِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: رحمن الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ.
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرحمن رحمن الدُّنْيَا وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ».
وَإِذَا صَحَّ هَذَا التَّفْسِيرُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَالَ القرطبي: رحمن الْآخِرَةِ وَرَحِيمُ الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لِأَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: بِرَحْمَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِمِائَةِ رَحْمَةٍ. وَقَالَ الْمَزْنِيُّ: بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ. وَقَالَ الْعَزِيزِيُّ:
الرَّحْمَنُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الْأَمْطَارِ، وَنِعَمِ الْحَوَاسِّ، وَالنِّعَمِ الْعَامَّةِ، الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْهِدَايَةِ لَهُمْ وَاللُّطْفِ بِهِمْ، وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: بِرَحْمَةِ النُّفُوسِ وَرَحْمَةِ الْقُلُوبِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لِمَصَالِحِ الْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ. وَقَالَ الصَّادِقُ: خَاصُّ اللَّفْظِ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ فِي الرِّزْقِ، وَعَامُّ اللَّفْظِ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ فِي مَغْفِرَةِ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الرَّحْمَنُ أَمْدَحُ، وَالرَّحِيمُ أَلْطَفُ، وَقِيلَ: الرَّحْمَنُ الْمُنْعِمُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ جِنْسُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَالرَّحِيمُ الْمُنْعِمُ بِمَا يُتَصَوَّرُ جِنْسُهُ مِنَ الْعِبَادِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّحْمَنُ اسْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ، يَخْتَصُّ بِهِ اللَّهُ، وَالرَّحِيمُ إِنَّمَا هُوَ فِي جِهَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «١». وَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ مَجَازٌ عَنْ إِنْعَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَطَفَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَرَقَّ لَهُمْ، أَصَابَهُمْ إِحْسَانُهُ فَتَكُونُ الرَّحْمَةُ إِذْ ذَاكَ صِفَةَ فِعْلٍ؟ وَقَالَ قَوْمٌ:
هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ذَلِكَ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا صِفَةَ ذَاتٍ، وينبني على هذا
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٣.
31
الْخِلَافِ خِلَافٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الذَّاتِيَّةَ وَالْفِعْلِيَّةَ أَهِيَ قَدِيمَةٌ أَمْ صِفَاتُ الذَّاتِ قَدِيمَةٌ وَصِفَاتُ الْفِعْلِ مُحْدَثَةٌ قَوْلَانِ؟ وَأَمَّا الرَّحْمَةُ الَّتِي مِنَ الْعِبَادِ فَقِيلَ هِيَ رِقَّةٌ تَحْدُثُ فِي الْقَلْبِ، وَقِيلَ هِيَ قَصْدُ الْخَيْرِ أَوْ دَفْعُ الشَّرِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَدْفَعُ الشَّرَّ عَمَّنْ لَا يَرِقُّ عَلَيْهِ، وَيُوصِلُ الْخَيْرَ إِلَى مَنْ لَا يَرِقُّ عَلَيْهِ.
وَفِي الْبَسْمَلَةِ مِنْ ضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْحَذْفُ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ فِي بِسْمِ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ، وَالْحَذْفُ قِيلَ لِتَخْفِيفِ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِمْ بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ، بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، فَقُلْتُ إِلَى الطَّعَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي تِسْعِ آيَاتٍ أَيْ أَعْرَسْتُ وَهَلُمُّوا وَاذْهَبْ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيِّ: وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إِظْهَارُهُ وَإِضْمَارُهُ فِي كُلِّ مَا يُحْذَفُ تَخْفِيفًا، وَلَكِنْ فِي حَذْفِهِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَوْطِنٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَدَّمَ فِيهِ سِوَى ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ ذُكِرَ الْفِعْلَ، وَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ فَاعِلِهِ، لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ اللَّهِ مُقَدَّمًا، وَكَانَ فِي حَذْفِهِ مُشَاكَلَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَمَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ يُحْذَفُ لِيَكُونَ اللَّفْظُ فِي اللِّسَانِ مُطَابِقًا لِمَقْصُودِ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ ذِكْرٌ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنَ الْحَذْفِ أَيْضًا حَذْفُ الْأَلِفِ فِي بِسْمِ اللَّهِ وَفِي الرَّحْمَنِ فِي الْخَطِّ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: التَّكْرَارُ فِي الْوَصْفِ، وَيَكُونُ إِمَّا لِتَعْظِيمِ الْمَوْصُوفِ، أَوْ لِلتَّأْكِيدِ، لِيَتَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ. وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ لِحُكْمِ التَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَكَرُوا اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَأَطَالُوا التَّفَارِيعَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلُوا فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ وَمَوْضُوعُ، هَذَا كُتُبُ الْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّعَوُّذِ، وَعَلَى حُكْمِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ بِإِجْمَاعٍ.
وَنَحْنُ فِي كِتَابِنَا هَذَا لَا نَتَعَرَّضُ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، إِلَّا إِذَا كَانَ لَفْظُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، أَوْ يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُهُ مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِ الرَّحِيمِ بِالْحَمْدِ، فَقَرَأَ قَوْمٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَيَقِفُونَ عَلَيْهَا وَيَبْتَدِئُونَ بِهَمْزَةٍ مَقْطُوعَةٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَرِّ الْمِيمِ وَوَصْلِ الْأَلِفِ مِنَ الْحَمْدِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ إِنَّهُ يَقْرَأُ الرَّحِيمَ الْحَمْدُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَصِلَةِ الْأَلِفِ، كَأَنَّكَ سَكَّنْتَ الْمِيمَ وَقَطَعْتَ الْأَلِفَ، ثُمَّ أَلْقَيْتَ حَرَكَتَهَا عَلَى الميم وحذفت ولم تر، وهذه قِرَاءَةً عَنْ أَحَدٍ.
الْحَمْدُ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، وَنَقِيضُهُ الذَّمُّ، وَلَيْسَ مَقْلُوبَ مَدَحَ، خِلَافًا لِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، إِذْ هُمَا فِي التَّصْرِيفَاتِ مُتَسَاوِيَانِ، وَإِذْ قَدْ يَتَعَلَّقُ
32
الْمَدْحُ بِالْجَمَادِ، فَتَمْدَحُ جَوْهَرَةً وَلَا يُقَالُ تَحْمَدُ، وَالْحَمْدُ وَالشُّكْرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَوِ الْحَمْدُ أَعَمُّ، وَالشُّكْرُ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِهِ، وَالْحَمْدُ ثَنَاءٌ بِأَوْصَافِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ أَعَمُّ، فَالْحَامِدُ قِسْمَانِ: شَاكِرٌ وَمُثْنٍ بِالصِّفَاتِ.
لِلَّهِ اللَّامُ: لِلْمِلْكِ وَشِبْهِهِ، وَلِلتَّمْلِيكِ وَشِبْهِهِ، وَلِلِاسْتِحْقَاقِ، وَلِلنَّسَبِ، وَلِلتَّعْلِيلِ، وَلِلتَّبْلِيغِ، وَلِلتَّعَجُّبِ، وَلِلتَّبْيِينِ، وَلِلصَّيْرُورَةِ، وَلِلظَّرْفِيَّةِ بِمَعْنَى فِي أَوْ عِنْدَ أَوْ بَعْدُ، وَلِلِانْتِهَاءِ، وَلِلِاسْتِعْلَاءِ مِثْلُ: ذَلِكَ الْمَالُ لِزَيْدٍ، أَدُومُ لَكَ مَا تَدُومُ لِي، وَوَهَبْتُ لَكَ دِينَارًا، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «١»، الْجِلْبَابُ لِلْجَارِيَةِ، لِزَيْدٍ عَمٌّ، لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ «٢»، قُلْتُ لَكَ، وَلِلَّهِ عَيْنًا، مَنْ رَأَى، مَنْ تَفَوَّقَ، هَيْتَ، لَكَ «٣»، لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً»
، الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ «٥»، كُتِبَ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ، لِدُلُوكِ الشَّمْسِ، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ «٦»، يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ «٧».
رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّبُّ: السَّيِّدُ، وَالْمَالِكُ، وَالثَّابِتُ، وَالْمَعْبُودُ، وَالْمُصْلِحُ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الصَّاحِبِ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ:
فَدَنَا لَهُ رَبُّ الْكِلَابِ بِكَفِّهِ بِيضٌ رِهَافٌ رِيشُهُنَّ مُقَزَّعُ
وَبَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الْخَالِقِ الْعَالِمِ لَا مُفْرِدَ لَهُ، كَالْأَنَامِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعِلْمِ أَوِ الْعَلَامَةِ، وَمَدْلُولُهُ كُلُّ ذِي رُوحٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ النَّاسُ، قَالَهُ الْبَجَلِيُّ، أَوِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ، قَالَهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ، أَوِ الثَّقَلَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ بَنُو آدَمَ، قَالَهُ أَبُو مُعَاذٍ، أَوْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَهُ الصَّادِقُ، أَوِ الْمُرْتَزِقُونَ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، أَوْ كُلُّ مَصْنُوعٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، أَوِ الرَّوحَانِيُّونَ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَنُقِلَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَعْدَادٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَالَمِينَ وَفِي مَقَارِّهَا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّحِيحِ. والجمهور قرأوا بِضَمِّ دَالِّ الْحَمْدِ، وَأَتْبَعَ إبراهيم بن أبي عبلة مِيمَهُ لَامَ الْجَرِّ لِضَمَّةِ الدَّالِ، كَمَا أَتْبَعَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَسْرَةَ الدَّالِ لِكَسْرَةِ اللَّامِ، وَهِيَ أَغْرَبُ، لِأَنَّ فِيهِ إِتْبَاعُ حَرَكَةِ مُعْرَبٍ لِحَرَكَةِ غَيْرِ إِعْرَابٍ، وَالْأَوَّلُ بِالْعَكْسِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْبَاعُ فِي مَرْفُوعٍ أَوْ مَنْصُوبٍ، وَيَكُونُ الْإِعْرَابُ إِذْ ذَاكَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مقدرا منع من
(١) سورة النمل: ١٦/ ٧٢.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٠٥. [.....]
(٣) سورة يوسف: ١٢/ ٢٣.
(٤) سورة القصص: ٢٨/ ٨.
(٥) سورة الأنبياء: ٢١/ ٤٧.
(٦) سورة الأعراف: ٧/ ٥٧.
(٧) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠٧.
33
ظُهُورِهِ شَغْلَ الْكَلِمَةِ بِحَرَكَةِ الْإِتْبَاعِ، كَمَا فِي الْمَحْكِيِّ وَالْمُدْغَمِ. وَقَرَأَ هَارُونُ الْعَتَكِيُّ، وَرُؤْبَةُ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الْحَمْدَ بِالنَّصْبِ. وَالْحَمْدُ مَصْدَرٌ مُعَرَّفٌ بِأَلْ، إِمَّا لِلْعَهْدِ، أَيِ الْحَمْدُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَكُمْ لِلَّهِ، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، كالدينار خَيْرٌ مِنَ الدِّرْهَمِ، أَيْ: أَيُّ دِينَارٍ كَانَ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَيِّ دِرْهَمٍ كَانَ، فَيَسْتَلْزِمُ إِذْ ذَاكَ الْأَحْمِدَةَ كُلَّهَا، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَحْمِدَةِ كُلِّهَا بِالْمُطَابَقَةِ. وَالْأَصْلُ فِي الْحَمْدِ لَا يُجْمَعُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: جَمْعَهُ عَلَى أَحْمَدَ كَأَنَّهُ رَاعَى فِيهِ جَامِعُهُ اخْتِلَافَ الْأَنْوَاعِ، قَالَ:
وَأَبْلَجَ مَحْمُودِ الثَّنَاءِ خَصَصْتُهُ بِأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلَ أَحْمُدِي
وَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى، وَلِهَذَا أَجْمَعَ عَلَيْهَا السَّبْعَةُ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَمْدِ وَاسْتِقْرَارِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْحَمْدَ مُسْتَقِرٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ حَمْدُهُ وَحَمْدُ غَيْرِهِ. وَمَعْنَى اللَّامُ فِي لِلَّهِ الِاسْتِحْقَاقُ، وَمَنْ نَصَبَ، فَلَا بُدَّ مِنْ عَامِلٍ تَقْدِيرُهُ أَحْمَدُ اللَّهَ أَوْ حَمِدْتُ اللَّهَ، فَيَتَخَصَّصُ الْحَمْدُ بِتَخْصِيصِ فَاعِلِهِ، وَأَشْعَرَ بِالتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَيَكُونُ فِي حَالَةِ النَّصْبِ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي حُذِفَتْ أَفْعَالُهَا، وَأُقِيمَتْ مَقَامَهَا، وَذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ، نَحْوَ شُكْرًا لَا كُفْرًا. وَقَدَّرَ بَعْضُهُمُ الْعَامِلَ لِلنَّصْبِ فِعْلًا غَيْرَ مُشْتَقٍّ مِنَ الْحَمْدِ، أَيْ أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوِ الْزَمُوا الْحَمْدَ لِلَّهِ، كَمَا حَذَفُوهُ مِنْ نَحْوِ اللَّهُمَّ ضَبْعًا وَذِئْبًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. وَفِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ، كَمَا قَالَ أَعْنِي لِلَّهِ، وَلَا تَكُونُ مُقَوِّيَةً لِلتَّعْدِيَةِ، فَيَكُونُ لِلَّهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَصْدَرِ لِامْتِنَاعِ عَمَلِهِ فِيهِ. قَالُوا سُقْيًا لِزَيْدٍ، وَلَمْ يَقُولُوا سُقْيًا زَيْدًا، فَيُعْمِلُونَهُ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ، بَلْ صَارَ عَلَى عَامِلٍ آخَرَ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَطَائِفَةٌ رَبِّ الْعالَمِينَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وَهِيَ فَصِيحَةٌ لَوْلَا خَفْضُ الصِّفَاتِ بَعْدَهَا، وَضَعُفَتْ إِذْ ذَاكَ. عَلَى أَنَّ الْأَهْوَازِيَّ حَكَى فِي قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِنَصْبِ الثَّلَاثَةِ، فَلَا ضَعْفَ إِذْ ذَاكَ، وَإِنَّمَا تَضْعُفُ قِرَاءَةُ نَصْبِ رَبٍّ، وَخَفْضِ الصِّفَاتِ بَعْدَهَا لِأَنَّهُمْ نَصُّوا أَنَّهُ لَا إِتْبَاعَ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي النُّعُوتِ، لَكِنَّ تَخْرِيجَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الرَّحْمَنُ بَدَلًا، وَلَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَعْلَمِ، إِذْ لَا يُجِيزُ فِي الرَّحْمَنِ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، وَحَسَّنَ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ، كَوْنُهُ وَصْفًا خَاصًّا، وَكَوْنُ الْبَدَلِ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَكَأَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ جُمْلَةٍ أُخْرَى، فَحَسُنَ النَّصْبُ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ نَصَبَ رَبِّ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ نَحْمَدُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ مُرَاعَاةُ التَّوَهُّمِ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْعَطْفِ، وَلَا يَنْقَاسُ فِيهِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ
34
نَصَبَهُ عَلَى الْبَدَلِ فَضَعِيفٌ لِلْفَصْلِ بِقَوْلِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَرَبُّ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ عَلَى أَحَدِ وُجُوهِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، أَوِ اسْمُ فَاعِلٍ حُذِفَتْ أَلِفُهُ، فَأَصْلُهُ رَابٌّ، كَمَا قَالُوا رَجُلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ، وَأَطْلَقُوا الرَّبَّ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَفِي غَيْرِهِ قُيِّدَ بِالْإِضَافَةِ نَحْوَ رَبِّ الدَّارِ. وَأَلْ فِي الْعَالَمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَجَمْعُ الْعَالَمِ شَاذٌّ لِأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، وَجَمْعُهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ أَشَذُّ لِلْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ الَّتِي لِهَذَا الْجَمْعِ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ «١»، وَقِرَاءَةُ حَفْصٍ بِكَسْرِ اللَّامِ تُوَضِّحُ ذَلِكَ.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي الْبَسْمَلَةِ، وَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ رَبِّ الْعالَمِينَ صِفَاتُ مَدْحٍ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُمَا عَلَمٌ لَمْ يَعْرِضْ فِي التَّسْمِيَةِ بِهِ اشْتَرَاكٌ فَيُخَصَّصُ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْوَصْفِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الرَّبُّ بِمَعْنَى السَّيِّدِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَالِكِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ، كَانَ صِفَةَ فِعْلٍ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا التَّصْرِيفُ فِي الْمَسُودِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْعَابِدِ بِمَا أَرَادَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِالرَّحْمَانِيَّةِ وَالرَّحِيمِيَّةِ، لِيَنْبَسِطَ أَمَلُ الْعَبْدِ فِي الْعَفْوِ إِنْ زَلَّ، وَيَقْوَى رَجَاؤُهُ إِنْ هَفَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ بِمِعْنَى الثَّابِتِ، وَلَا بِمَعْنَى الصَّاحِبِ، لِامْتِنَاعِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْعَالَمِينَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُصْلِحِ، كَانَ الْوَصْفُ بِالرَّحْمَةِ مُشْعِرًا بِقِلَّةِ الْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ لِلشَّخْصِ عَلَى إِصْلَاحِ حَالِ الشَّخْصِ رَحْمَتُهُ لَهُ. وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ وَالْوَصْفِ أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ لِلْمَرْبُوبِينَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ. وَخَفَضَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْجُمْهُورُ، وَنَصَبَهُمَا أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ السَّمَيْفَعِ وَعِيسَى بْنُ عَمْرٍو، وَرَفَعَهُمَا أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجُونِيُّ، فَالْخَفْضُ عَلَى النَّعْتِ، وَقِيلَ فِي الْخَفْضِ إِنَّهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ لِلْقَطْعِ. وَفِي تَكْرَارِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَتَأْكِيدُ أَمْرِهِمَا، وَجَعَلَ مَكِّيٌّ تَكْرَارَهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ، قَالَ: إِذْ لَوْ كَانَتْ آيَةً لَكُنَّا قَدْ أَتَيْنَا بِآيَتَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ إِلَّا بِفَوَاصِلَ تَفْصِلُ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ. قَالَ: والفصل بينهما بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَا فَصْلٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ مُؤَخَّرٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْدِيمُ تَقْدِيرُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّ مُجَاوَرَةَ الرَّحْمَةِ بِالْحَمْدِ أَوْلَى، وَمُجَاوَرَةَ الْمَلِكِ بِالْمُلْكِ أَولَى. قَالَ: وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَكَلَامُ مَكِّيٍّ مَدْخُولٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَلَوْلَا جَلَالَةُ قَائِلِهِ نَزَّهْتُ كِتَابِي هَذَا عَنْ ذِكْرِهِ. وَالتَّرْتِيبُ الْقُرْآنِيُّ جَاءَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بصفة الربوبية وصفة
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٢٢.
35
الرَّحْمَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا مِلْكُهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ، وَالثَّانِي الْعِبَادَةُ. فَنَاسَبَ الرُّبُوبِيَّةَ للملك، وَالرَّحْمَةَ الْعِبَادَةُ. فَكَانَ الْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ، وَالثَّانِي لِلثَّانِي. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ الْوَقْفَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَقْسَامِهِ، فَقِيلَ تَامٌّ وَكَافٌّ وَقَبِيحٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كُتُبًا مُرَتَّبَةً عَلَى السور، ككتاب أبي عمر، والداني، وَكِتَابِ الْكِرْمَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ حَظٌّ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ.
مالِكِ قَرَأَ مَالِكِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ بِالْخَفْضِ، عَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ، وَيَعْقُوبُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَشَرَةِ إِلَّا طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَقِرَاءَةُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ:
أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالتَّابِعِينَ مِنْهُمْ: قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ. وَقَرَأَ مَلِكِ عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ بِالْخَفْضِ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَزَيْدٌ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالْمِسْوَرُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَرَأَ مَلْكِ عَلَى وَزْنِ سَهْلٍ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَرَوَاهَا الْجُعْفِيُّ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهِيَ لُغَةُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. وَقَرَأَ مَلِكِي بِإِشْبَاعِ كَسْرَةِ الْكَافِ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ وَرْشٍ، عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ مِلْكِ عَلَى وَزْنِ عِجْلٍ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطِيَّةُ، ونسبها ابن عطية إلى أَبِي حَيَاةَ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: قَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو نَوْفَلٍ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ مَلِكَ يَوْمَ الدِّينِ، بِنَصْبِ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ أَبِي حَيَاةَ، انْتَهَى. وَقَرَأَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ الْكَافَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَائِشَةُ، وَمُورِقٌ الْعِجْلِيِّ. وَقَرَأَ مَلَكَ فِعْلًا مَاضِيًا أَبُو حَيَاةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجُبَيْرُ بْنُ مَطْعِمٍ، وَأَبُو عَاصِمٍ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، وَأَبُو الْمَحْشَرِ عَاصِمُ بْنُ مَيْمُونٍ الْجَحْدَرِيُّ، فَيَنْصِبُونَ الْيَوْمَ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ هَذِهِ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَالْحَسَنِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَرَأَ مَالِكَ بِنَصْبِ الْكَافِ الْأَعْمَشُ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ قَاضِي الْهِنْدِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، وَأَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ الشَّامِيِّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ الْيَمَانِ مَلِكًا بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ مَالِكٌ بِرَفْعِ الْكَافِ وَالتَّنْوِينِ عَوْنٌ الْعُقَيلِيِّ، وَرُوِيَتْ عَنْ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَبِنَصْبِ الْيَوْمِ. وَقَرَأَ مَالِكُ يَوْمِ بِالرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حَيَاةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِخِلَافٍ عَنْهُ، وَنَسَبَهَا صَاحِبُ اللَّوَامِحِ إِلَى أَبِي رَوْحٍ عَوْنِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ الْعُقَيلِيِّ، سَاكِنِ الْبَصْرَةِ. وَقَرَأَ مَلِيكِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ أُبَيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو رَجَاءَ الْعُطَارِدِيُّ. وَقَرَأَ مَالِكِ بِالْإِمَالَةِ الْبَلِيغَةِ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَبَيْنَ بَيْنَ قُتَيْبَةُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَجَهِلَ النَّقْلَ، أَعْنِي فِي قِرَاءَةِ الْإِمَالَةِ، أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ
36
فَقَالَ: لَمْ يُمِلْ أَحَدٌ من القراء أَلِفَ مَالِكٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ بِمَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ أَثَرٌ مُسْتَفِيضٌ. وذكر أيضا أنه قرىء فِي الشَّاذِّ مَلَّاكِ بِالْأَلِفِ وَالتَّشْدِيدِ لِلَّامِ وَكَسْرِ الْكَافِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قِرَاءَةً، بَعْضُهَا رَاجِعٌ إِلَى الْمَلْكِ، وَبَعْضُهَا إِلَى الْمِلْكِ، قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى الْمَلْكِ، وَهُوَ الرَّبْطُ، وَمِنْهُ مَلْكُ الْعَجِينِ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا يَرَى قائما مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
وَالْإِمْلَاكُ رَبْطُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَمِنْ مُلَحِ هَذِهِ الْمَادَّةِ أَنَّ جَمِيعَ تَقَالِيبِهَا السِّتَّةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي اللِّسَانِ، وَكُلُّهَا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَبَيْنَهَا كُلِّهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهَذَا يُسَمَّى بِالِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ غَيْرُ أَبِي الْفَتْحِ. وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يَأْنَسُ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَتِلْكَ التَّقَالِيبُ: مَلَكَ، مَكَلَ، كَمْكَلَ، لَكَمَ، كَمُلَ، كَلَمَ. وَزَعَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ تَقْلِيبَ كَمْكَلَ مُهْمَلٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ بِدَلِيلِ مَا أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَمَّا رَآنِي قَدْ حَمَمْتُ ارْتِحَالَهُ تَمَلَّكَ لَوْ يُجْدِي عَلَيْهِ التَّمَلُّكُ
وَالْمُلْكُ هُوَ الْقَهْرُ وَالتَّسْلِيطُ عَلَى مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الطَّاعَةُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقٍ وَبِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ. وَالْمَلْكُ هُوَ الْقَهْرُ عَلَى مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الطَّاعَةُ، وَمَنْ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقٍ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ مَلَكَ مِنَ الْمُلْكِ، بِضَمِّ الْمِيمِ، وَمَالِكِ مِنَ الْمِلْكِ، بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، وَزَعَمُوا أَنَّ ضَمَّ الْمِيمِ لُغَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ لِي فِي هَذَا الْوَادِي مُلْكٌ وَمِلْكٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
يَوْمِ، الْيَوْمُ هُوَ الْمُدَّةُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَتَرْكِيبُهُ غَرِيبٌ، أَعْنِي وُجُودَ مَادَّةٍ تَكُونُ فَاءُ الْكَلِمَةِ فِيهَا يَاءً وَعَيْنُهَا وَاوًا لَمْ يَأْتِ مِنْ ذَلِكَ سِوَى يَوْمٍ وَتَصَارِيفِهِ وَيُوحُ اسْمٌ لِلشَّمْسِ، وَبَعْضُهُمْ زَعَمَ أَنَّهُ بُوجٌ بِالْبَاءِ، وَالْمُعْجَمَةِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَسْفَلَ. الدِّينِ الْجَزَاءُ دَنَاهُمْ كَمَا دَانُوا، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْحِسَابُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ «١»، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْقَضَاءُ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ «٢»، وَالطَّاعَةُ فِي دِينِ عَمْرٍو، وَحَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ فَدَكٌ، قَالَهُ أَبُو الْفَضْلِ وَالْعَادَةُ، كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحويرث
(١) سورة التوبة: ٩/ ٣٦، وسورة الروم: ٣٠/ ٣٠.
(٢) سورة النور: ٢٤/ ٢.
37
قَبْلَهَا، وَكَنَّى بِهَا هُنَا عَنِ الْعَمَلِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْمِلَّةُ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «١» إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «٢»، وَالْقَهْرُ، وَمِنْهُ الْمَدِينُ لِلْعَبْدِ، وَالْمَدِينَةُ لِلْأُمَّةِ، قَالَهُ يَمَانُ بْنُ رِئَابٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ: وَإِنْ أَطَاعَ وَعَصَى وَذَلَّ وَعَزَّ وَقَهَرَ وَجَارَ وَمَلَكَ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ: دِنْتُهُ بفعله دينا ودينا بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا جَازَيْتُهُ. وَقِيلَ: الدَّينُ الْمَصْدَرُ، وَالدِّينُ بِالْكَسْرِ الِاسْمُ، وَالدِّينُ السِّيَاسَةُ، وَالدَّيَّانُ السَّايَسُ. قَالَ ذُو الْإِصْبَعِ عَنْهُ: وَلَا أَنْتَ دَيَّانِي فَتَخْزُوَنِي، وَالدِّينُ الْحَالُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَأَلْتُ أَعْرَابِيًّا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: لَوْ لَقِيتَنِي عَلَى دِينٍ غَيْرَ هَذَا لَأَخْبَرْتُكَ، وَالدِّينُ الدَّاءُ عَنِ اللِّحْيَانِي وَأَنْشَدَ:
يَا دِينُ قَلْبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا وَمَنْ قَرَأَ بِجَرِّ الْكَافِ فَعَلَى مَعْنَى الصِّفَةِ، فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ مِلْكٍ عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَوْ إِسْكَانِهَا، أَوْ مَلِيكٌ بِمَعْنَاهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ مَعْرِفَةً بِمَعْرِفَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ مَالِكِ أَوْ مَلَّاكِ أَوْ مَلِيكِ مُحَوَّلَيْنِ مِنْ مَالِكٍ لِلْمُبَالَغَةِ بِالْمَعْرِفَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ فِعْلًا مَاضِيًا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْيَوْمَ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنَّهُ تَكُونُ إِضَافَتُهُ غَيْرَ مَحْضَةٍ فَلَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ صِفَةً، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُوصَفُ بِالنَّكِرَةِ وَلَا بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، لِأَنَّ الْبَدَلَ بِالصِّفَاتِ ضَعِيفٌ. وَحَلُّ هَذَا الْإِشْكَالِ هُوَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ، إِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ، جَازَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّفُ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، إِذْ يَكُونُ مَنْوِيًّا فِيهِ الِانْفِصَالُ مِنَ الْإِضَافَةِ، وَلِأَنَّهُ عَمِلَ النَّصْبَ لَفْظًا. الثَّانِي: أَنْ يَتَعَرَّفَ بِهِ إِذَا كَانَ مَعْرِفَةً، فَيَلْحَظُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْصُوفَ صَارَ مَعْرُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ، وَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِالزَّمَانِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ غَرِيبُ النَّقْلِ، لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَتَنْقِيبٌ عَنْ لَطَائِفِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَزَعَمَ يُونُسُ وَالْخَلِيلُ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةَ الَّتِي صَارَتْ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ قَدْ يَجُوزُ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ أَنْ يَكُنَّ مَعْرِفَةً، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، انْتَهَى. وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ بَابَ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَقَطْ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ نَحْوَ حَسَنِ الْوَجْهِ. وَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ وَنَوَّنَ أَوْ لَمْ يُنَوِّنْ فَعَلَى الْقَطْعِ إِلَى الرَّفْعِ. وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الْقَطْعِ إِلَى النَّصْبِ، أَوْ عَلَى النِّدَاءِ وَالْقَطْعُ أَغْرَبُ لِتَنَاسُقِ الصِّفَاتِ، إِذْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْقَطْعِ عَنْهَا. وَمَنْ قَرَأَ مَلَكَ فِعْلًا مَاضِيًا فَجُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَمَنْ أَشْبَعَ كَسْرَةَ الْكَافِ فَقَدْ قَرَأَ بِنَادِرٍ أَوْ بِمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَإِضَافَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْمُلْكِ
(١) سورة المائدة: ٥/ ٣.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٩.
38
إِلَى يَوْمِ الدِّينِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ، إِذْ مُتَعَلِّقُهُمَا غَيْرَ الْيَوْمِ. وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، لَا عَلَى مَعْنَى فِي، خِلَافًا لِمَنْ أَثْبَتَ الْإِضَافَةَ بِمَعْنَى فِي، وَيُبْحَثُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا فِي النَّحْوِ، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمِلْكِ كَانَ مِنْ بَابِ.
طَبَّاخِ سَاعَاتِ الْكَرَى زَادَ الْكَسِلْ وَظَاهِرُ اللُّغَةِ تَغَايُرُ الْمَلِكِ وَالْمَالِكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ هَمَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْفَرِهِ وَالْفَارِهِ، فَإِذَا قُلْنَا بِالتَّغَايُرِ فَقِيلَ مَالِكٌ أَمْدَحُ لِحُسْنِ إِضَافَتِهِ إِلَى مَنْ لَا تَحْسُنُ إِضَافَةُ الْمَلِكِ إِلَيْهِ، نَحْوَ مَالِكِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالطَّيْرِ، فَهُوَ أَوْسَعُ لِشُمُولِ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِوَجْهِهِ مَلِكِ الْمُلُوكِ ومالك العفر
قاله الْأَخْفَشُ، وَلَا يُقَالُ هُنَا مِلْكُ، وَلِقَوْلِهِمْ مَالِكُ الشَّيْءِ لِمَنْ يَمْلِكُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَلِكًا لَا مَالِكًا نَحْوَ مِلِكِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَلِزِيَادَتِهِ فِي الْبِنَاءِ، وَالْعَرَبُ تُعَظِّمُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْبِنَاءِ، وَلِلزِّيَادَةِ فِي أَجْزَاءِ الثَّانِي لِزِيَادَةِ الْحُرُوفِ، وَلِكَثْرَةِ مَنْ عَلَيْهَا مِنَ الْقُرَّاءِ، وَلِتُمَكِّنَ التَّصَرُّفَ بِبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَتَمْلِيكٍ، وَلِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ إِذَا تَصَرَّفَ بِجَوْرٍ أَوِ اعْتِدَاءٍ أَوْ سَرَفٍ، وَلِتَعَيُّنِهِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِعَدَمِ قُدْرَةِ المملوك عَلَى انْتِزَاعِهِ مِنَ الْمَلِكِ، وَلِكَثْرَةِ رَجَائِهِ فِي سَيِّدِهِ بِطَلَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلِوُجُوبِ خِدْمَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ يَطْمَعُ فِيهِ، وَالْمَلِكَ يَطْمَعُ فِيكَ، وَلِأَنَّ لَهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً، وَالْمَلِكُ لَهُ هَيْبَةً وَسِيَاسَةً. وَقِيلَ مَلِكٌ أَمْدَحُ وَأَلْيَقُ إِنْ لَمْ يُوصَفْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى لِإِشْعَارِهِ بِالْكَثْرَةِ وَلِتَمَدُّحِهِ بِمَالِكِ الْمُلْكِ، وَلَمْ يَقُلْ مَالِكُ الْمُلْكِ، وَلِتُوَافِقَ الِابْتِدَاءَ وَالِاخْتِتَامَ فِي قَوْلِهِ مَلِكِ النَّاسِ «١»، وَالِاخْتِتَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَشْرَفِ الْأَسْمَاءِ، وَلِدُخُولِ الْمَالِكِ تَحْتَ حُكْمِ الْمِلْكِ، وَلِوَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالْمُلْكِ فِي مَوَاضِعَ، وَلِعُمُومِ تَصَرُّفِهِ فِيمَنْ حَوَتْهُ مملكته، وقصر المالك عَلَى مِلْكِهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَلِعَدَمِ احْتِيَاجِ الْمِلْكِ إِلَى الْإِضَافَةِ، أَوْ مَالِكٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الإضافة إلى مملوك، ولكونه أَعْظَمُ النَّاسِ، فَكَانَ أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِكِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حَكَى ابْنُ السَّرَّاجِ عَمَّنِ اخْتَارَ قِرَاءَةَ مَلِكِ كُلِّ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَقِرَاءَةُ مَالِكِ تَقْرِيرٌ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا، لِأَنَّ فِي التَّنْزِيلِ تَقَدَّمَ الْعَامُّ، ثُمَّ ذُكِرَ الْخَاصُّ مِنْهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «٢»، فَالْخَالِقُ يَعُمُّ، وَذُكِرَ الْمُصَوِّرُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الصَّنْعَةِ وَوُجُوهِ الْحِكْمَةِ، وَمِنْهُ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «٣»، بَعْدَ قَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «٤»، وَإِنَّمَا كَرَّرَهَا تَعْظِيمًا لَهَا، وَتَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ اعتقادها،
(١) سورة الناس: ١١٤/ ٢.
(٢) سورة الحشر: ٥٩/ ٢٤.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٤.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٣. [.....]
39
وَالرَّدِّ عَلَى الْكَفَرَةِ الْمُلْحِدِينَ، وَمِنْهُ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، ذِكْرُ الرَّحْمَنِ الَّذِي هُوَ عَامٌّ، وَذِكْرُ الرَّحِيمِ بَعْدَهُ لِتَخْصِيصِ الرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «١»، انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّبَّ يَتَصَرَّفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْمِلْكِ، كَقَوْلِهِ:
وَمِنْ قَبْلُ رَبَّيْتِنِي فَصَفَتْ رُبُوبُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ، فَتَنْعَكِسُ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ قَرَأَ مَلَكَ. وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ مَالِكُ أَوْ مَلِكُ زَمَانٍ مُمْتَدٍّ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الْحِسَابُ وَيَسْتَقِرَّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا، وَأَهْلُ النَّارِ فِيهَا، وَمُتَعَلَّقُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْأَمْرُ، كَأَنَّهُ قَالَ مَالِكُ أَوْ مَلِكُ الْأَمْرِ فِي يَوْمِ الدِّينِ. لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ، جَازَ أَنْ يَتَّسِعَ فَيَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ أَوِ الْمَالِكُ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الظَّرْفِ اسْتِيلَاءٌ عَلَى الْمَظْرُوفِ. وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَالِكَ الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا وَالْأَمْكِنَةِ وَمَنْ حَلَّهَا وَالْمِلْكُ فِيهَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْيَوْمِ بِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَالْأَهْوَالِ الْجِسَامِ مِنْ قِيَامِهِمْ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِشْفَاعِ لِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ وَاسْتِقْرَارِهِمَا فِيمَا وَعَدَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ يَوْمٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى اللَّهِ جَمِيعُ مَا مَلَّكَهُ لِعِبَادِهِ وَخَوَّلَهُمْ فِيهِ وَيَزُولُ فِيهِ مِلْكُ كُلِّ مَالِكٍ قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «٢»، وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «٣». قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: إِنْ مَعْنَى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِنَّهُ يَمْلِكُ مَجِيئَهُ وَوُقُوعَهُ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى الْيَوْمِ عَلَى قَوْلِهِ إِضَافَةٌ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَ ظَرْفًا اتَّسَعَ فِيهِ، وَمَا فُسِّرَ بِهِ الدِّينُ مِنَ الْمَعَانِي يَصِحُّ إِضَافَةُ الْيَوْمِ إِلَيْهِ إِلَى مَعْنَى كُلٍّ مِنْهَا إِلَّا الْمِلَّةَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْحِسَابِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «٤»، والْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «٥». وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْحِسَابِ مَدِينِينَ مُحَاسَبِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ دَلَالَةٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالْحِسَابِ، وَلَمَّا اتَّصَفَ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ، انْبَسَطَ الْعَبْدُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ، فَنَبَّهْ بِصِفَةِ الْمَلِكِ أَوِ الْمَالِكِ لِيَكُونَ مِنْ عَمَلِهِ عَلَى وَجَلٍ، وَأَنَّ لِعَمَلِهِ يَوْمًا تَظْهَرُ لَهُ فِيهِ ثَمَرَتُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
إِيَّاكَ، إِيَّا تَلْحَقُهُ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ وَكَافُ الْمُخَاطَبِ وَهَاءُ الغائب وفروعها، فيكون
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٣.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٩٥.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ٩٤.
(٤) سورة غافر: ٤٠/ ١٧.
(٥) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٨.
40
ضَمِيرَ نَصْبٍ مُنْفَصِلًا لَا اسْمًا ظَاهِرًا أُضِيفَ خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَهَلِ الضَّمِيرُ هُوَ مَعَ لَوَاحِقِهِ أَوْ هُوَ وَحْدَهُ؟ وَاللَّوَاحِقُ حُرُوفٌ، أَوْ هُوَ وَاللَّوَاحِقٌ أَسْمَاءٌ أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهَا، أَوِ اللَّوَاحِقُ وَحْدَهَا، وَإِيَّا زَائِدَةٌ لِتَتَّصِلَ بِهَا الضَّمَائِرُ، أَقْوَالٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَأَمَّا لُغَاتُهُ فَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَبِهَا قَرَأَ الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ، وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَبِهَا قَرَأَ عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ، عَنْ أُبَيٍّ، وَبِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ هَاءً، وَبِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ هَاءً، وَبِذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ السَّوَّارِ الْغَنَوِيُّ، وَذَهَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِلَى أَنَّ إِيَّا مُشْتَقٌّ ضَعِيفٌ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَاتِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ.
وَإِذَا قِيلَ بِالِاشْتِقَاقِ، فَاشْتِقَاقُهُ مِنْ لَفْظِ، آوِ مِنْ قَوْلِهِ:
فَآوِ لِذِكْرَاهَا إِذَا مَا ذَكَرْتَهَا فَتَكُونُ مِنْ بَابِ قُوَّةٍ، أَوْ مِنَ الْآيَةِ فَتَكُونُ عَيْنُهَا يَاءً كَقَوْلِهِ:
لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ إِيَّائِهِ قَوْلَانِ، وَهَلْ وَزْنُهُ افْعَلْ وَأَصْلُهُ إِأْوَوْ أَوْ إِأْوَى أَوْ فَعِيلٌ فَأَصْلُهُ إِوْيَوْ أَوْ إِوْيَي أَوْ فَعُولٌ، وَأَصْلُهُ إِوْوَوْ أَوْ إِوْيَى أَوْ فعلى، فأصله أووى أواويا، أَقَاوِيلُ كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَالْكَلَامُ عَلَى تَصَارِيفِهَا حَتَّى صَارَتْ إِيَّا تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِضَافَةُ إِيَّا لِظَاهِرٍ نَادِرٌ نَحْوُ: وَإِيَّا الشَّوَابِّ، أَوْ ضَرُورَةٌ نَحْوُ: دَعْنِي وَإِيَّا خَالِدٍ، وَاسْتِعْمَالُهُ تَحْذِيرًا معروف فيحتمل ضَمِيرًا مَرْفُوعًا يَجُوزُ أَنْ يُتْبَعَ بِالرَّفْعِ نَحْوَ: إِيَّاكَ أَنْتَ نَفْسَكَ.
نَعْبُدُ، الْعِبَادَةُ: التَّذَلُّلُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوِ التَّجْرِيدُ، قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ، وَتَعَدِّيهِ بِالتَّشْدِيدِ مُغَايِرٌ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّخْفِيفِ، نَحْوَ: عَبَّدْتُ الرَّجُلَ ذَلَّلْتُهُ، وَعَبَدْتُ اللَّهَ ذَلَلْتُ لَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو مِجْلِزٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ: إِيَّاكَ يُعْبَدُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ نَعْبُدْ بِإِسْكَانِ الدَّالِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ: نَعْبُدُ بِكَسْرِ النُّونِ.
نَسْتَعِينُ، الِاسْتِعَانَةُ، طَلَبُ الْعَوْنِ، وَالطَّلَبُ أَحَدُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مَعْنًى، وَهِيَ: الطَّلَبُ، وَالِاتِّحَادُ، وَالتَّحَوُّلُ، وَإِلْقَاءُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ وَعَدُّهُ كَذَلِكَ، وَمُطَاوَعَةُ أَفْعَلَ وَمُوَافَقَتُهُ، وَمُوَافَقَةُ تَفَعَّلَ وَافْتَعَلَ وَالْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ وَعَنْ فَعَلَ مِثْلُ ذَلِكَ اسْتَطْعَمَ، وَاسْتَعْبَدَهُ، وَاسْتَنْسَرَ وَاسْتَعْظَمَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَاسْتَشْلَى مُطَاوِعُ أَشْلَى، وَاسْتَبَلَّ مُوَافِقٌ مُطَاوِعٌ أَبَلَّ، وَاسْتَكْبَرَ مُوَافِقُ تَكَبَّرَ، وَاسْتَعْصَمَ مُوَافِقُ
41
اعْتَصَمَ، وَاسْتَغْنَى مُوَافِقُ غِنًى، وَاسْتَنْكَفَ وَاسْتَحْيَا مُغْنِيَانِ عَنِ الْمُجَرَّدِ، وَاسْتَرْجَعَ، وَاسْتَعَانَ حَلَقَ عَانَتَهُ، مُغْنِيَانِ عَنْ فَعَلَ، فَاسْتَعَانَ طَلَبَ الْعَوْنَ، كَاسْتَغْفَرَ، وَاسْتَعْظَمَ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَقَدْ جَاءَ فِيهِ وِيَّاكَ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ وَاوًا، فَلَا أَدْرِي أَذَلِكَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَمْ عَنِ الْعَرَبِ، وَهَذَا عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا فَرُّوا إِلَيْهِ فِي نَحْوِ أَشَاحَ فِيمَنْ هَمَزَ لِأَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ إِلَى الْهَمْزَةِ، وَاسْتِثْقَالًا لِلْكَسْرَةِ عَلَى الْوَاوِ. وُفِي وَيَّاكَ فَرُّوا مِنَ الْهَمْزَةِ إِلَى الْوَاوِ، وَعَلَى لُغَةِ مَنْ يَسْتَثْقِلُ الْهَمْزَةَ جُمْلَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ شَبَهِ التَّهَوُّعِ، وَبِكَوْنِ اسْتَفْعَلَ أَيْضًا لِمُوَافَقَةِ تَفَاعَلَ وَفَعَلَ. حَكَى أَبُو الْحَسَنِ بْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ: تَمَاسَكْتُ بِالشَّيْءِ وَمَسَكْتُ بِهِ وَاسْتَمْسَكَ بِهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيِ احْتَبَسْتُ بِهِ، قَالَ وَيُقَالُ: مَسَكْتُ بِالشَّيْءِ وَأَمْسَكْتُ وَتَمَسَّكْتُ، احْتَبَسْتُ، انْتَهَى. فَتَكُونُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ حِينَئِذٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ لِزِيَادَةِ مُوَافَقَةِ تَفَاعَلَ وَتَفَعَّلَ. وَفَتْحُ نُونِ نَسْتَعِينُ قَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَهِيَ الْفُصْحَى. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، بِكَسْرِهَا، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ، وَتَمِيمٍ، وَأَسَدٍ، وَرَبِيعَةَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ فِي هَذَا الْفِعْلِ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ: هِيَ لُغَةُ هَذِيلٍ، وَانْقِلَابُ الْوَاوِ أَلِفًا فِي اسْتَعَانَ وَمُسْتَعَانٍ، وَيَاءً فِي نَسْتَعِينُ وَمُسْتَعِينٍ، وَالْحَذْفُ فِي الِاسْتِعَانَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ، وَيُعَدَّى اسْتَعَانَ بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ. إِيَّاكَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِلِ إِلَّا لِلتَّخْصِيصِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي تَقْدِيرِهِ بِسْمِ اللَّهِ أَتْلُوا، وَذَكَرْنَا نَصَّ سِيبَوَيْهِ هُنَاكَ. فَالتَّقْدِيمُ عِنْدَنَا إِنَّمَا هُوَ لِلِاعْتِنَاءِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْمَفْعُولِ. وَسَبَّ أَعْرَابِيٌّ آخَرَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ: إِيَّاكَ أَعْنِي، فَقَالَ لَهُ: وَعَنْكَ أُعْرِضُ، فَقَدَّمَا الْأَهَمَّ، وَإِيَّاكَ الْتِفَاتٌ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الْغَيْبَةِ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى نسق وَاحِدٍ لَكَانَ إِيَّاهُ. وَالِانْتِقَالُ مِنْ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ لِلْخِطَابِ أَوِ التَّكَلُّمِ، وَمِنَ الْخِطَابِ لِلْغَيْبَةِ أَوِ التَّكَلُّمِ، وَمِنَ التَّكَلُّمِ لِلْغَيْبَةِ أَوِ الْخِطَابِ. وَالْغَيْبَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالظَّاهِرِ، وَتَارَةً بِالْمُضْمَرِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ وَاحِدًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِإِيَّاكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؟ وَقَالُوا فَائِدَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ إِظْهَارُ الْمَلَكَةِ فِي الْكَلَامِ، وَالِاقْتِدَارِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَزِيدًا عَلَى هَذَا، وَهُوَ إِظْهَارُ فَائِدَةٍ تخص كل موضع مَوْضِعٍ، وَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ يَقَعُ لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَفَائِدَتُهُ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ الْمُتَّصِفِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمُلْكِ وَالْمَلِكِ لِلْيَوْمِ الْمَذْكُورِ، أَقْبَلَ الْحَامِدُ مُخْبِرًا بِأَثَرِ ذِكْرِهِ الْحَمْدَ الْمُسْتَقِرَّ لَهُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ وَغَيْرُهُ يَعْبُدُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ. وَكَذَلِكَ أَتَى بِالنُّونِ الَّتِي تَكُونُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَكَمَا أَنَّ الْحَمْدَ يَسْتَغْرِقُ الْحَامِدِينَ،
42
كَذَلِكَ الْعِبَادَةُ تَسْتَغْرِقُ الْمُتَكَلِّمَ وَغَيْرَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّكَ تَذْكُرُ شَخْصًا مُتَّصِفًا بِأَوْصَافٍ جَلِيلَةٍ، مُخْبِرًا عَنْهُ إِخْبَارَ الْغَائِبِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّخْصُ حَاضِرًا مَعَكَ، فَتَقُولُ لَهُ: إِيَّاكَ أَقْصِدُ، فَيَكُونُ فِي هَذَا الْخِطَابِ مِنَ التَّلَطُّفِ عَلَى بُلُوغِ الْمَقْصُودِ مَا لَا يَكُونُ فِي لَفْظِ إِيَّاهُ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِلدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ اهْدِنَا. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَلِكَ مُنَادًى، فَلَا يَكُونُ إِيَّاكَ الْتِفَاتًا لِأَنَّهُ خِطَابٌ بَعْدَ خِطَابٍ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ بَعْدَ النِّدَاءِ الْغَيْبَةُ، كَمَا قَالَ:
يَا دارمية بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ
وَمِنَ الْخِطَابِ بَعْدَ النِّدَاءِ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دارمي عَلى الْبِلَى وَلَا زَالَ مُنْهَلًا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ
وَدَعْوَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَبْيَاتِ امْرِئِ الْقَيْسِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةَ الْتِفَاتَاتٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ هُمَا الْتِفَاتَانِ:
الْأَوَّلُ: خُرُوجٌ مِنَ الْخِطَابِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ:
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بِالْإِثْمِدِ وَنَامَ الْخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ كَلَيْلَةِ ذِي الْعَائِرِ الْأَرْمَدِ
الثَّانِي: خُرُوجٌ مِنْ هَذِهِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي. وَخَبَّرْتُهُ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ وَتَأْوِيلُ كَلَامِهِ أَنَّهَا ثَلَاثٌ خَطَأٌ وَتَعْيِينُ. أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ أَشَدُّ خَطَأً لِأَنَّ هَذَا الِالْتِفَاتَ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ لَا مِنَ التَّقَادِيرِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَإِضْمَارُ قُولُوا قَبْلَ الْحَمْدِ لِلَّهِ، وَإِضْمَارُهَا أَيْضًا قَبْلَ إِيَّاكَ لَا يَكُونُ مَعَهُ الْتِفَاتٌ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ. وَقَدْ عَقَدَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْبَدِيعِ بَابًا لِلِالْتِفَاتِ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِهِمْ كَلَامًا فِيهِ ابْنُ الْأَثِيرِ الْجَزَرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ إِيَّاكَ يُعْبَدُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشْكِلَةٌ، لِأَنَّ إِيَّاكَ ضَمِيرُ نَصْبٍ وَلَا نَاصِبَ لَهُ وَتَوْجِيهُهَا أَنَّ فِيهَا اسْتِعَارَةً وَالْتِفَاتًا، فَالِاسْتِعَارَةُ إِحْلَالُ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتَ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَخْبَرَ عَنْهُ إِخْبَارَ الْغَائِبِ لَمَّا كَانَ إِيَّاكَ هُوَ الْغَائِبَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَقَالَ يُعْبَدُ، وَغَرَابَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ كَوْنُهُ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
43
وَإِلَى قَوْلِ أَبِي كَثِيرٍ الْهُذَلِيِّ:
أَأَنْتَ الْهِلَالِيُّ الَّذِي كُنْتَ مَرَّةً سَمِعْنَا بِهِ وَالْأَرْحَبِيُّ الْمُغَلِّبُ
يَا لَهْفَ نَفْسِيَ كان جلدة خَالِدٍ وَبَيَاضُ وَجْهِكَ للتُّرَابِ الْأَعْفَرِ
وَفُسِّرَتِ الْعِبَادَةُ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِأَنَّهَا التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، وَهُوَ أَصْلُ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ أَوِ الطَّاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ «١»، أَوِ التَّقَرُّبُ بِالطَّاعَةِ أَوِ الدُّعَاءِ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي، أَيْ عَنْ دُعَائِي، أَوِ التَّوْحِيدِ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أَيْ لِيُوَحِّدُونِ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَقُرِنَتِ الِاسْتِعَانَةُ بِالْعِبَادَةِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ جِهَتِهِ. وَقُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ لِتَقْدِيمِ الْوَسِيلَةِ قَبْلَ طَلَبِ الْحَاجَةِ لِتَحْصُلَ الْإِجَابَةُ إِلَيْهَا، وَأَطْلَقَ الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ لِتَتَنَاوَلَ كُلَّ مَعْبُودٍ بِهِ وَكُلَّ مُسْتَعَانٍ عَلَيْهِ.
وَكَرَّرَ إِيَّاكَ لِيَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ سِيقَا فِي جُمْلَتَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودَةٌ، وَلِلتَّنْصِيصِ عَلَى طَلَبِ الْعَوْنِ مِنْهُ بِخِلَافِ لَوْ كَانَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا بِطَلَبِ لعون، أَيْ وَلِيَطْلُبَ الْعَوْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنَ مِمَّنْ يَطْلُبُ..
وَنُقِلَ عَنِ الْمُنْتَمِينَ لِلصَّلَاحِ تَقْيِيدَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرِفَةِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: نَعْبُدُ قَالُوا رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ، وَفِي نَسْتَعِينُ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَمَقَامُ الْعِبَادَةِ شَرِيفٌ، وَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ «٢» اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «٣»، والكناية به عَنْ أَشْرَفِ الْمَخْلُوقِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ «٤»
، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا «٥»
، وَقَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ عِيسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ «٦»
، وَقَالَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي «٧»
فَذَكَرَ الْعِبَادَةَ عَقِيبَ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْعِبَادَةُ فَرْعُهُ. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ. رَدٌّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الصَّانِعِ، فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِمَوْجُودٍ حَاضِرٍ.
اهْدِنَا، الْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ وَالدَّلَالَةُ وَالتَّقَدُّمُ وَمِنْهُ الْهَوَادِي أَوِ التَّبْيِينُ، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «٨»
أو الإلهاء أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «٩»
، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معناه ألهم
(١) سورة يس: ٣٦/ ٦٠.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٩٩.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢١.
(٤) سورة الإسراء ١٧/ ١.
(٥) سورة الأنفال: ٨/ ٤١.
(٦) سوة مريم: ١٩/ ٣٠.
(٧) سورة طه: ٢٠/ ١٤.
(٨) سورة فصلت: ٤١/ ١٣.
(٩) سورة طه: ٢٠/ ٥٠. [.....]
44
الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا إِلَى مَنَافِعِهَا، أَوِ الدُّعَاءُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أَيْ دَاعٍ وَالْأَصْلُ فِي هَدَى أَنْ يَصِلَ إِلَى ثَانِي مَعْمُولِهِ بِاللَّامِ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «١»
أَوْ إِلَى لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «٢»
ثُمَّ يَتَّسِعُ فِيهِ فَيُعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ اهْدِنَا الصِّراطَ، وَنَا ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ مُعْظَمُ نَفْسِهِ. وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَجَرٍّ.
الصِّراطَ الطَّرِيقَ، وَأَصْلُهُ بِالسِّينِ مِنَ السَّرْطِ، وَهُوَ اللَّقْمُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الطَّرِيقُ لَقْمًا، وَبِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ قرأ قبل وَرُوَيْسٌ، وَإِبْدَالُ سِينِهِ صَادًا هِيَ الْفُصْحَى، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَبِهَا كُتِبَتْ فِي الْإِمَامِ، وَزَايًا لُغَةٌ رَوَاهَا الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَإِشْمَامُهَا زَايًا لُغَةُ قَيْسٍ وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ بِخِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ عَنْ رُوَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو علي:
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، السين وَالصَّادُ وَالْمُضَارَعَةُ بَيْنَ الزَّايِ وَالصَّادِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ الْعُرْيَانُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَهَا بِزَايٍ خَالِصَةٍ. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ:
مَا حَكَاهُ الْأَصْمَعِيُّ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَطَأٌ مِنْهُ إِنَّمَا سَمِعَ أَبَا عَمْرٍو يَقْرَؤُهَا بِالْمُضَارَعَةِ فَتَوَهَّمَهَا زَايًا، وَلَمْ يَكُنِ الْأَصْمَعِيُّ نَحْوِيًّا فَيُؤْمَنَ عَلَى هَذَا. وَحَكَى هَذَا الْكَلَامَ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِمَامِيَّةِ: الصِّرَاطُ بِالصَّادِ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ، وَعَامَّةُ الْعَرَبِ يَجْعَلُونَهَا سِينًا، وَالزَّايُ لُغَةٌ لِعُذْرَةَ، وَكَعْبٍ، وَبَنِي الْقَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ بَيْنَ الزَّايِ وَالصَّادِ تَكَلُّفُ حَرْفٍ بَيْنَ حَرْفَيْنِ، وَذَلِكَ صَعْبٌ عَلَى اللِّسَانِ، وَلَيْسَ بِحَرْفٍ يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَلَا هُوَ مِنْ حروف المعجم. لست أَدْفَعُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، إِلَّا أَنَّ الصَّادَ أَفْصَحُ وَأَوْسَعُ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَتَذْكِيرُهُ أَكْثَرُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ: أَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَ الصِّرَاطَ كَالطَّرِيقِ، وَالسَّبِيلِ وَالزُّقَاقِ وَالسُّوقِ، وَبَنُو تَمِيمٍ يُذَكِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَيُجْمَعُ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى سُرُطٍ، نَحْوِ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَفِي الْقِلَّةِ قِيَاسُهُ أَسْرِطَةٌ، نَحْوُ حِمَارٍ وَأَحْمِرَةٍ، هَذَا إِذَا كَانَ الصِّرَاطُ مُذَكَّرًا، وَأَمَّا إِذَا أُنِّثَ فَقِيَاسُهُ أَفْعُلٌ نَحْوُ ذِرَاعٍ وَأَذْرُعٍ وَشِمَالٍ وَأَشْمُلٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالضَّحَّاكُ، وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنِ الْحَسَنِ: اهْدِنَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، بِالتَّنْوِينِ مِنْ غَيْرِ لَامِ التَّعْرِيفِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ «٣».
الْمُسْتَقِيمَ، اسْتَقَامَ: اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ مِنَ الزَّوَائِدِ، وهذا أحد معاني
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٩.
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ٥٢.
(٣) سورة الشورى: ٤٢/ ٥٢- ٥٣.
45
اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ قَامَ، وَالْقِيَامُ هُوَ الِانْتِصَابُ وَالِاسْتِوَاءُ مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاجٍ.
صِراطَ الَّذِينَ اسْمٌ مَوْصُولٌ، وَالْأَفْصَحُ كَوْنُهُ بِالْيَاءِ فِي أَحْوَالِهِ الثَّلَاثَةِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَجْعَلُهُ بِالْوَاوِ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، وَاسْتِعْمَالُهُ بِحَذْفِ النُّونِ جَائِزٌ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ، إِلَّا إِنْ كَانَ لِغَيْرِ تَخْصِيصٍ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَسُمِعَ حَذْفُ أَلْ منه فقالوا: لذين، وَفِيمَا تُعَرَّفُ بِهِ خِلَافٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ، وَيُخَصُّ الْعُقَلَاءُ بِخِلَافِ الَّذِي، فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى ذِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ.
أَنْعَمْتَ، النِّعْمَةُ: لِينُ الْعَيْشِ وَخَفْضُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْجَنُوبِ النُّعَامَى لِلِينِ هُبُوبِهَا، وَسُمِّيَتِ النَّعَامَةُ لِلِينِ سَهْمِهَا: نَعِمَ إِذَا كَانَ فِي نِعْمَةٍ، وَأَنْعَمْتُ عَيْنَهُ أَيْ سَرَرْتُهَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بَالَغَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ، أَيْ وَالْهَمْزَةُ فِي أَنْعَمَ بِجَعْلِ الشيء صاحب ما صيغ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى التَّفَضُّلِ، فَعُدِّيَ بِعَلَى، وَأَصْلُهُ التَّعْدِيَةُ بِنَفْسِهِ. أَنْعَمْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ صَاحِبَ نِعْمَةٍ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي لِأَفْعَلَ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مَعْنًى، هَذَا أَحَدُهَا. وَالتَّعْدِيَةُ، وَالْكَثْرَةُ، وَالصَّيْرُورَةُ، وَالْإِعَانَةُ، وَالتَّعْرِيضُ، وَالسَّلْبُ، وَإِصَابَةُ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ، وَبُلُوغُ عَدَدٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، وَمُوَافَقَةُ ثُلَاثِيٍّ، وَإِغْنَاءٌ عَنْهُ، وَمُطَاوَعَةُ فِعْلٍ وَفِعْلٍ، وَالْهُجُومُ، وَنَفْيُ الْغَرِيزَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ، وَالدُّعَاءُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ، وَالْوُصُولُ، وَالِاسْتِقْبَالُ، وَالْمَجِيءُ بِالشَّيْءِ وَالتَّفْرِقَةُ، مِثْلَ ذَلِكَ، أَدْنَيْتُهُ وَأَعْجَبَنِي الْمَكَانَ، وَأَغَدَّ الْبَعِيرُ وَأَحْلَيْتُ فُلَانًا، وَأَقْبَلْتُ فُلَانًا، وَاشْتَكَيْتُ الرَّجُلَ، وَأَحْمَدْتُ فُلَانًا، وَأَعْشَرْتُ الدَّرَاهِمَ، وَأَصْبَحْنَا، وَأَشْأَمَ الْقَوْمُ، وَأَحْزَنَهُ بِمَعْنَى حَزَّنَهُ، وَأَرْقَلَ، وَأَقْشَعَ السَّحَابُ مُطَاوِعُ قَشَعَ الرِّيحُ السَّحَابَ، وَأَفْطَرَ مُطَاوِعُ فَطَّرْتُهُ، وَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِمْ، وَأَسْتَرِيحُ، وَأَخْطَيْتُهُ سَمَّيْتُهُ مُخْطِئًا، وَأَسْقَيْتُهُ، وَأَحْصَدَ الزَّرْعُ، وَأَغْفَلْتُهُ وَصَلَتْ غَفْلَتِي اليه، وافقته اسْتَقْبَلْتُهُ بِأُفٍّ هَكَذَا مِثْلُ هَذَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَفْعَلَ فَعَلَ، وَمُثِّلَ الِاسْتِقْبَالُ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ: أَسْقَيْتُهُ أَيِ اسْتَقْبَلْتُهُ بِقَوْلِكَ سُقْيًا لَكَ، وَكَثَّرْتُ جِئْتُ بِالْكَثِيرِ، وَأَشْرَقَتِ الشَّمْسُ أَضَاءَتْ، وَشَرَقَتْ طَلَعَتْ. التَّاءُ الْمُتَّصِلَةُ بِأَنْعَمَ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ الْمُذَكَّرِ الْمُفْرَدِ، وَهِي حَرْفٌ فِي أَنْتَ، وَالضَّمِيرَانِ فَهُوَ مُرَكَّبٌ.
عَلَيْهِمْ، عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، إِلَّا إِذَا جُرَّتْ بِمَنْ، أَوْ كَانَتْ فِي نَحْوِ هَوِّنْ عَلَيْكَ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا إِذَا جُرَّتِ اسْمُ ظَرْفٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّهَا فِي حُرُوفِ الْجَرِّ، وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا وَمَعْنَاهَا الِاسْتِعْلَاءُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَزَيْدٌ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى عَنْ، وَبِمَعْنَى الْبَاءِ، وَبِمَعْنَى فِي، وَلِلْمُصَاحِبَةِ، وَلِلتَّعْلِيلِ، وَبِمَعْنَى مِنْ، وَزَائِدَةٌ،
46
مِثْلَ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «١»
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «٢»
، بَعْدَ عَلَى كَذَا حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ»
، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ «٤»
، حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ «٥».
أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ الْعِضَاهِ تَرُوقُ
أَيْ تَرُوقُ كُلُّ أَفْنَانِ الْعِضَاهِ. هُمْ ضَمِيرُ جَمْعٍ غَائِبٍ مُذَكَّرٍ عَاقِلٍ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَجَرٍّ. وَحَكَى اللُّغَوِيُّونَ فِي عَلَيْهِمْ عَشْرَ لُغَاتٍ ضَمُّ الْهَاءِ، وَإِسْكَانُ الْمِيمِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ. وَكَسْرُهَا وإسكان الميم، وهي قراءة الْجُمْهُورِ. وَكَسْرُ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وياء بعدها، وهي قراءة الْحَسَنِ. وَزَادَ ابْنُ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ فَائِدٍ. وَكَذَلِكَ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَمْرِو بْنِ فَائِدٍ. وَكَسْرُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْمِيمِ وَوَاوٌ بَعْدَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَقَالُونَ بِخِلَافٍ عَنْهُ. وَكَسْرُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْمِيمِ بِغَيْرِ وَاوٍ وَضَمُّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَوَاوٌ بَعْدَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَالْخَفَّافِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَكَذَلِكَ بِدُونِ وَاوٍ وَضَمِّ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بِيَاءٍ بَعْدَهَا. كَذَلِكَ بِغَيْرِ يَاءٍ. وقرىء بِهِمَا، وَتَوْضِيحُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ بِالْخَطِّ وَالشَّكْلِ: عَلَيْهُمْ، عَلَيْهِمْ، عَلَيْهِمُوا، عَلَيْهِمُ، عَلَيْهِمِي، عَلَيْهِمِ، عَلَيْهُمُ، عَلَيْهُمِي، عَلَيْهُمِ، عَلَيْهُمُوا. وَمُلَخَّصُهَا ضَمُّ الْهَاءِ مَعَ سُكُونِ الْمِيمِ، أَوْ ضَمُّهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ، أَوْ كَسْرُهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ وَكَسْرُ الْهَاءِ مَعَ سُكُونِ الْمِيمِ، أَوْ كَسْرُهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ، أَوْ ضَمُّهَا بِإِشْبَاعٍ، أَوْ دُونَهُ، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. اهْدِنَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الطَّلَبُ وَالرَّغْبَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ لِنَحْوِ هَذِهِ الصِّيغَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَحْمَلًا، وَأَصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى الطَّلَبِ، لَا عَلَى فَوْرٍ، وَلَا تَكْرَارٍ، وَلَا تَحَتُّمٍ، وَهَلْ مَعْنَى اهْدِنَا أَرْشِدْنَا، أَوْ وَفِّقْنَا، أَوْ قَدِّمْنَا، أَوْ أَلْهِمْنَا، أَوْ بَيِّنْ لَنَا أَوْ ثَبِّتْنَا؟ أَقْوَالٌ أَكْثَرُهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَآخِرُهَا عَنْ عَلِيٍّ وَأُبَيٍّ. وَقَرَأَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بَصِّرْنَا الصِّرَاطَ،
وَمَعْنَى الصِّرَاطِ الْقُرْآنُ، قَالَهُ عَلِيٌّ
وَابْنُ عَبَّاسٍ: وذكر الْمَهْدَوِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوِ الْإِيمَانِ وَتَوَابِعِهِ، أَوِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، أَوِ السَّبِيلِ الْمُعْتَدِلِ، أَوْ طَرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ، أَوْ طَرِيقِ الْحَجِّ، قَالَهُ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، أَوِ السُّنَنِ، قَالَهُ عُثْمَانُ، أَوْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٣.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٧٧.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١٨٥.
(٥) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٥- ٦.
47
طَرِيقِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ، أَوْ طَرِيقِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ، أَوْ جِسْرِ جَهَنَّمَ، قَالَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ.
وَرُوِيَ عَنِ الْمُتَصَوِّفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أَقْوَالٌ، مِنْهَا: قَوْلُ بَعْضِهِمْ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْغَيْبُوبَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لِئَلَّا يَكُونَ مَرْبُوطًا بِالصِّرَاطِ، وَقَوْلُ الْجُنَيْدِ إِنَّ سُؤَالَ الْهِدَايَةِ عِنْدَ الْحَيْرَةِ مِنْ إِشْهَارِ الصِّفَاتِ الْأَزَلِيَّةِ، فَسَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى أَوْصَافِ الْعُبُودِيَّةِ لِئَلَّا يَسْتَغْرِقُوا فِي الصِّفَاتِ الْأَزَلِيَّةِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ يَنْبُو عَنْهَا اللَّفْظُ، وَلَهُمْ فِيمَا يَذْكُرُونَ ذَوْقٌ وَإِدْرَاكٌ لَمْ نَصِلْ نَحْنُ إِلَيْهِ بَعْدُ. وَقَدْ شُحِنَتِ التَّفَاسِيرُ بِأَقْوَالِهِمْ، وَنَحْنُ نُلِمُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّا إِنَّمَا تَرَكْنَا ذِكْرَهَا لِكَوْنِنَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهَا. وَقَدْ رَدَّ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الْقُرْآنُ أَوِ الْإِسْلَامُ وَشَرَائِعُهُ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْقُرْآنُ وَلَا الْإِسْلَامُ، يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمِلَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْمُخْتَصَّةَ بِتَكَالِيفَ لم تكن تقدمتها. وهذه الرَّدُّ لَا يَتَأَتَّى لَهُ إِلَّا إِذَا صَحَّ أَنَّ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمْ مُتَقَدِّمُونَ، وَسَتَأْتِي الْأَقَاوِيلُ فِي تَفْسِيرِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَاتِّصَالُ نَا بِاهْدِ مُنَاسِبٌ لِنَعْبُدَ وَنَسْتَعِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ الْمُتَكَلِّمُ أَنَّهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَسْتَعِينُونَهُ سَأَلَ لَهُ وَلَهُمُ الْهِدَايَةَ إِلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، لِأَنَّهُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَيْهِ تَصِحُّ مِنْهُمُ الْعِبَادَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى السَّبِيلِ الْمُوَصِّلَةِ لِمَقْصُودِهِ لَا يَصِحُّ لَهُ بُلُوغَ مَقْصُودِهِ؟ وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا دُونَ تَعْرِيفٍ.
وَقَرَأَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: صِرَاطَ مُسْتَقِيمٍ بِالْإِضَافَةِ،
أَيِ الدِّينَ الْمُسْتَقِيمَ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ يَكُونُ صِرَاطَ الَّذِينَ بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ نَكِرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الصَّادِقِ وَقِرَاءَاتِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ بَدَلَ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةِ صِرَاطَ الَّذِينَ بَدَلُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وهما بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَجِيءَ بِهَا لِلْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ كَانَ فِيهِ بَعْضُ إِبْهَامٍ، فَعَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ لِيَكُونَ الْمَسْئُولُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ، قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَصَارَ بِذَلِكَ الْبَدَلُ فِيهِ حَوَالَةً عَلَى طَرِيقٍ مِنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَثْبَتُ وَأَوْكَدُ، وَهَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ نَحْوِ هَذَا الْبَدَلِ، وَلِأَنَّهُ عَلَى تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَيَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ التَّأْكِيدِ، فَكَأَنَّهُمْ كَرَّرُوا طَلَبَ الْهِدَايَةِ.
وَمِنْ غَرِيبِ الْقَوْلِ أَنَّ الصِّرَاطَ الثَّانِيَ لَيْسَ الْأَوَّلَ، بَلْ هُوَ غَيْرُهُ، وَكَأَنَّهُ قرىء فِيهِ حَرْفُ الْعَطْفِ، وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ.
قِيلَ هُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَالْفَهْمُ عَنْهُ، قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
، وَقِيلَ الْتِزَامُ الْفَرَائِضِ وَاتِّبَاعُ السُّنَنِ، وَقِيلَ هُوَ مُوَافَقَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ فِي إِسْبَاغِ النِّعْمَةِ. قَالَ
48
تَعَالَى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَقَرَأَ: صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ. وَالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ أَوْ أُمَّةُ مُوسَى وَعِيسَى الَّذِينَ لَمْ يُغَيِّرُوا، أو النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ، أَوِ الْمُسْلِمُونَ، قَالَهُ وَكِيعٌ، أَقْوَالٌ، وَعَزَا كَثِيرًا مِنْهَا إِلَى قَائِلِهَا ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْجُمْهُورُ أَرَادَ صِرَاطَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، انْتَزَعُوا ذَلِكَ مِنْ آيَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هم الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مُؤْمِنُو بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْحَابُ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يُبَدِّلُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَنْبِيَاءُ خَاصَّةً. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، انْتَهَى. مُلَخَّصًا وَلَمْ يُقَيِّدِ الْأَنْعَامَ لِيَعُمَّ جَمِيعَ الْأَنْعَامِ، أَعْنِي عُمُومَ الْبَدَلِ. وَقِيلَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِهِمْ لِلسَّعَادَةِ، وَقِيلَ بِأَنْ نَجَّاهُمْ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَقِيلَ بِالْهِدَايَةِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَرُوِيَ عَنِ الْمُتَصَوِّفَةِ تَقْيِيدَاتٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ قَيْدٍ. وَاخْتُلِفَ هَلْ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلَى الْكَافِرِ؟ فَأَثْبَتَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَنَفَاهَا غَيْرُهُمْ.
وَمَوْضِعُ عَلَيْهِمْ نَصْبٌ، وَكَذَا كُلُّ حَرْفِ جَرٍّ تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ، غَيْرَ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ. وَبِنَاءُ أَنْعَمْتُ لِلْفَاعِلِ اسْتِعْطَافٌ لِقَبُولِ التَّوَسُّلِ بِالدُّعَاءِ فِي الْهِدَايَةِ وَتَحْصِيلِهَا، أَيْ طَلَبْنَا مِنْكَ الْهِدَايَةَ، إِذْ سَبَقَ إِنْعَامُكَ، فَمِنْ إِنْعَامِكَ إِجَابَةُ سُؤالِنَا وَرَغْبَتِنَا، كَمِثْلِ أَنْ تَسْأَلَ مِنْ شَخْصٍ قَضَاءَ حَاجَةٍ ونذكره بِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ الْإِحْسَانُ بِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آكَدُ فِي اقْتِضَائِهَا وَأَدْعَى إلى قضائها. وَانْقِلَابُ الْفَاعِلِ مَعَ الْمُضْمَرِ هِيَ اللُّغَةُ الشُّهْرَى، وَيَجُوزُ إِقْرَارُهَا مَعَهُ عَلَى لُغَةٍ، وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ طَلَبُ اسْتِمْرَارِ الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ من أنعم الله عليهم، لِأَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ، لَكِنْ يَسْأَلُ دَوَامَهَا وَاسْتِمْرَارَهَا.
غَيْرِ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ دَائِمًا وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُؤَنَّثَ جَازَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ، وَتَأْنِيثُهُ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَمَدْلُولُهُ الْمُخَالَفَةُ بِوَجْهٍ مَا، وَأَصْلُهُ الْوَصْفُ، وَيُسْتَثْنَى بِهِ وَيَلْزَمُ الْإِضَافَةَ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، وَإِدْخَالُ أَلْ عَلَيْهِ خَطَأٌ وَلَا يَتَعَرَّفُ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ. وَمَذْهَبُ ابْنِ السَّرَّاجِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُغَايِرُ وَاحِدًا تَعَرَّفَ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَا إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، قَدْ يُقْصَدُ بِهَا التَّعْرِيفُ، فَتَصِيرُ مَحْضَةً، فَتَتَعَرَّفُ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ بِمَا تُضَافُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْرِفَةً، وَتَقْرِيرُ هَذَا كُلِّهِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَزَعَمَ الْبَيَانِيُّونَ أَنَّ غير أَوْ مِثْلًا فِي بَابِ
49
الْإِسْنَادِ إِلَيْهِمَا مِمَّا يَكَادُ يَلْزَمُ تَقْدِيمُهُ، قَالُوا نَحْوَ قَوْلِكَ غَيْرُكَ يُخْشَى ظُلْمَهُ، وَمِثْلُكَ يَكُونُ لِلْمَكْرُمَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يُقْصَدُ فِيهِ بِمِثْلٍ إِلَى إِنْسَانٍ سِوَى الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الصِّفَةِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَمُوجَبِ الْعُرْفِ أَنْ يَفْعَلَ مَا ذُكِرَ، وَقَوْلُهُ:
غَيْرِي بِأَكْثَرِ هَذَا النَّاسُ يَنْخَدِعُ غَرَضُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَنْخَدِعُ وَيَغْتَرُّ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَسْتَقِيمُ فِيهِمَا إِذَا لَمْ يُقَدَّمَا نَحْوَ:
يَكُونُ لِلْمَكْرُمَاتِ مِثْلُكَ، وَيَنْخَدِعُ بِأَكْثَرِ هَذَا النَّاسُ غَيْرِي، فَأَنْتَ تَرَى الْكَلَامَ مَقْلُوبًا عَلَى جِهَتِهِ.
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، الْغَضَبُ: تَغَيُّرُ الطَّبْعِ لِمَكْرُوهٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَرَتِهِ. لَا حَرْفٌ يَكُونُ لِلنَّفْيِ وَلِلطَّلَبِ وَزَائِدًا، وَلَا يَكُونُ اسْمًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ. وَلَا الضَّالِّينَ، وَالضَّلَالُ: الْهَلَاكُ، وَالْخَفَاءُ ضَلَّ اللَّبَنُ فِي الْمَاءِ، وَقِيلَ أَصْلُهُ الْغَيْبُوبَةُ فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي، وَضَلَلْتُ الشَّيْءَ جَهِلْتُ الْمَكَانَ الَّذِي وَضَعْتُهُ فِيهِ، وَأَضْلَلْتُ الشَّيْءَ ضَيَّعْتُهُ، وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَضَلَّ غَفَلَ وَنَسِيَ، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما، والضلال سلوك سبيل غَيْرَ الْقَصْدِ، ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ سَلَكَ غَيْرَ جَادَّتِهَا، وَالضَّلَالُ الْحَيْرَةُ، وَالتَّرَدُّدُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِحَجَرٍ أَمْلَسٍ يُرَدِّدُهُ الْمَاءُ فِي الْوَادِي ضَلْضَلَهُ، وَقَدْ فُسِّرَ الضَّلَالُ فِي الْقُرْآنِ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِتَفْصِيلِ الْأُمُورِ وَبِالْمَحَبَّةِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ، وَالْجَرُّ فِي غَيْرِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَرَوَى الْخَلِيلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ النَّصْبَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. فَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ غَيْرًا أَصْلُ وَضْعِهِ الْوَصْفُ، وَالْبَدَلُ بِالْوَصْفِ ضَعِيفٌ، أَوْ عَلَى النَّعْتِ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ تَعَرَّفَتْ بِمَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ، إِذْ هُوَ مَعْرِفَةٌ عَلَى مَا نَقَلَهُ سِيبَوَيْهِ، فِي أَنَّ كُلَّ مَا إِضَافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ قَدْ تَتَمَحَّضُ فَيَتَعَرَّفُ إِلَّا فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، أَوْ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّرَّاجِ، إِذْ وَقَعَتْ غَيْرُ عَلَى مَخْصُوصٍ لَا شَائِعٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أُرِيدَ بِهِمُ الْجِنْسُ لَا قَوْمَ بِأَعْيَانِهِمْ. قَالُوا كَمَا وَصَفُوا الْمُعَرَّفَ بَأَلِ الْجِنْسِيَّةِ بِالْجُمْلَةِ، وَهَذَا هَدْمٌ لِمَا اعْتَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَلَا أَخْتَارَ هَذَا الْمَذْهَبَ وَتَقْرِيرُ فَسَادِهِ فِي النَّحْوِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْوَجْهُ أَوْ مِنَ الَّذِينَ قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الَّذِي لَا مَوْضِعَ لَهُ لَا يَجُوزُ، أَوْ
50
عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، إِذْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللفظ السابق، ومنعه القراء مِنْ أَجْلِ لَا فِي قَوْلِهِ وَلَا الضَّالِّينَ، وَلَمْ يُسَوِّغْ فِي النَّصْبِ غَيْرَ الْحَالِ، قَالَ لِأَنَّ لَا، لَا تُزَادُ إِلَّا إِذَا تَقَدَّمَ النَّفْيُ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ
وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ جَعْلَ لَا صِلَةً، أَيْ زائدة مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «١»
وَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لَا تسخرا وقول الأحوص:
ويلجئني فِي اللَّهْوِ أَنْ لَا أحبه واللهو دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلٍ
قَالَ الطَّبَرِيُّ أَيْ أَنْ تَسْخَرَ وَأَنْ أُحِبَّهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ إِرَادَةُ أَنْ لَا أُحِبَّهُ، فَلَا فِيهِ مُتَمَكِّنَةٌ، يَعْنِي فِي كَوْنِهَا نَافِيَةً لَا زَائِدَةً، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا عَلَى زِيَادَتِهَا بِبَيْتٍ أَنْشَدَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَهُوَ:
أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يمنع الجود قائله
وَزَعَمُوا أَنَّ لَا زَائِدَةٌ، وَالْبُخْلَ مَفْعُولٌ بِأَبَى، أَيْ أَبَى جُودُهُ الْبُخْلَ، وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، بَلِ الْأَظْهَرُ أَنَّ لَا مَفْعُولٌ بِأَبَى، وَأَنَّ لَفْظَةَ لَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَصَارَ إِسْنَادًا لَفْظِيًّا، وَلِذَلِكَ قَالَ:
وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ، فَجَعَلَ نَعَمْ فَاعِلَةً بِقَوْلِهِ اسْتَعْجَلَتْ، وَهُوَ إِسْنَادٌ لَفْظِيٌّ، وَالْبُخْلُ بَدَلٌ مِنْ لَا أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ انْتَصَبَ غَيْرُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي وَعَزَى إِلَى الْخَلِيلِ، وَهَذَا تَقْدِيرٌ سَهْلٌ، وَعَلَيْهِمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالْمَغْضُوبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي إِقَامَةِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَقَامَ الْفَاعِلِ، إِذَا حُذِفَ خِلَافٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. وَمِنْ دَقَائِقِ مَسَائِلِهِ مَسْأَلَةٌ يُغْنِي فِيهَا عَنْ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ ذُكِرَتْ فِي النحو، وَلَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ، لِأَنَّ غَيْرَ فِيهِ النَّفْيَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَا الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وَعَيَّنَ دُخُولَهَا الْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لِمُنَاسَبَةِ غَيْرَ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ بِتَرْكِهَا عَطْفُ الضَّالِّينَ عَلَى الَّذِينَ. وَقَرَأَ عُمَرُ وَأُبَيٌّ وَغَيْرِ الضَّالِّينَ، وَرُوِيَ عَنْهُمَا فِي الرَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ النَّصْبُ وَالْخَفْضُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمْ غَيْرُ الضَّالِّينَ، وَالتَّأْكِيدُ فِيهَا أَبْعَدُ، وَالتَّأْكِيدُ فِي لَا أَقْرَبُ، وَلِتَقَارُبِ مَعْنَى غَيْرِ مِنْ مَعْنَى لَا، أَتَى الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَسْأَلَةٍ لِيُبَيِّنَ بِهَا تَقَارُبَهُمَا فَقَالَ: وَتَقُولُ أَنَا زَيْدًا غَيْرُ
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٢.
51
ضَارِبٍ، مَعَ امْتِنَاعِ قَوْلِكَ أَنَا زَيْدًا مِثْلُ ضَارِبٍ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ أَنَا زَيْدًا لَا ضَارِبٌ، يُرِيدُ أَنَّ الْعَامِلَ إِذَا كَانَ مَجْرُورًا بِالْإِضَافَةِ فَمَعْمُولُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُضَافِ، لَكِنَّهُمْ تَسَمَّحُوا فِي الْعَامِلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ غَيْرُ، فَأَجَازُوا تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَى غَيْرِ إِجْرَاءً لِغَيْرِ مَجْرَى لَا، فَكَمَا أَنَّ لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ غَيْرُ. وَأَوْرَدَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ مُقَرَّرَةٌ مَفْرُوغٌ مِنْهَا، لِيُقَوِّيَ بِهَا التَّنَاسُبَ بَيْنَ غَيْرِ وَلَا، إِذْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا خِلَافًا. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، بَنَاهُ عَلَى جَوَازِ أَنَا زَيْدًا لَا ضَارِبٌ، وَفِي تَقْدِيمِ مَعْمُولِ مَا بَعْدَ لَا عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَكَوْنُ اللَّفْظِ يُقَارِبُ اللَّفْظَ فِي الْمَعْنَى لَا يَقْضِي لَهُ بِأَنْ يُجْرَى أَحْكَامُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ تَرْكِيبٌ إِلَّا بِسَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنَا زَيْدًا غَيْرُ ضَارِبٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَرَدُّوهُ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ فِي غَيْرِ الْمَغْضُوبِ مَحْذُوفًا، قَالَ التَّقْدِيرُ غير صراط المغضوب عليهم، وَأَطْلَقَ هَذَا التَّقْدِيرَ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِجَرِّ غَيْرَ وَلَا نَصْبِهِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِنَصْبِ غَيْرَ، فَيَكُونُ صِفَةً لِقَوْلِهِ الصِّرَاطَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِتَقَدُّمِ الْبَدَلِ عَلَى الْوَصْفِ، وَالْأَصْلُ الْعَكْسُ، أَوْ صِفَةٌ لِلْبَدَلِ، وَهُوَ صِرَاطَ الَّذِينَ، أَوْ بَدَلًا مِنَ الصِّرَاطِ، أَوْ مِنْ صِرَاطَ الَّذِينَ، وَفِيهِ تَكْرَارُ الْإِبْدَالِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَمْ أَقِفْ عَلَى كَلَامِ أَحَدٍ فِيهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي بَدَلِ النِّدَاءِ، أَوْ حَالًا مِنَ الصِّرَاطِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي.
وَقَرَأَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: وَلَا الضَّأْلِينَ، بِإِبْدَالِ الْأَلِفِ هَمْزَةً فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ دَأْبَةٌ وَشَأْبَةٌ فِي كِتَابِ الْهَمْزِ، وَجَاءَتْ مِنْهُ أُلَيْفَاظٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْقَاسُ هَذَا الْإِبْدَالُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً تُوجِبُ الْقِيَاسَ، نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَاسُ النَّحْوِيُّونَ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ:
سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقْرَأُ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، فَظَنَنْتُهُ قَدْ لَحَنَ حَتَّى سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ دَأْبَةً وَشَأْبَةً. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ قَوْلُ كُثَيِّرٍ:
إِذَا مَا الْعَوَالِي بِالْعَبِيطِ احْمَأَرَّتِ وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَلِلْأَرْضِ إِمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّتِ بَيَاضًا وَإِمَا بِيضُهَا فَادَّهْأَمَّتِ
وَعَلَى مَا قَالَ أَبُو الْفَتْحِ إِنَّهَا لُغَةٌ، يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَاسَ ذَلِكَ، وَجُعِلَ الْإِنْعَامُ فِي صِلَةِ الَّذِينَ، وَالْغَضَبُ فِي صِلَةِ أَلْ، لِأَنَّ صِلَةَ الَّذِينَ تَكُونُ فِعْلًا فَيَتَعَيَّنُ زَمَانُهُ، وَصِلَةُ أَلْ تَكُونُ اسْمًا فَيَنْبَهِمُ زَمَانُهُ، وَالْمَقْصُودُ طَلَبُ الْهِدَايَةِ إِلَى صِرَاطِ مَنْ ثَبَتَ إِنْعَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَحَقَّقَ
52
ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَتَى بِالْفِعْلِ مَاضِيًا وَأَتَى بِالِاسْمِ فِي صِلَةِ أَنَّ لِيَشْمَلَ سَائِرَ الْأَزْمَانِ، وَبِنَاهِ لِلْمَفْعُولِ، لِأَنَّ مَنْ طُلِبَ مِنْهُ الْهِدَايَةُ وَنُسِبَ الْإِنْعَامُ إِلَيْهِ لَا يُنَاسِبُ نِسْبَةَ الْغَضَبِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَقَامُ تَلَطُّفٍ وَتَرَفُقٍ وَتَذَلُّلٍ لِطَلَبِ الْإِحْسَانِ، فَلَا يُنَاسِبُ مُوَاجَهَتَهُ بِوَصْفِ الِانْتِقَامِ، وَلِيَكُونَ الْمَغْضُوبُ تَوْطِئَةً لِخَتْمِ السُّورَةِ بِالضَّالِّينَ لِعَطْفِ مَوْصُولٍ عَلَى مَوْصُولٍ مِثْلَهُ لِتَوَافُقِ آخِرِ الْآيِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِنْعَامِ، الْإِنْعَامُ الدِّينِيُّ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ غُضِبَ عَلَيْهِ وَضَلَّ.
وَقِيلَ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وَالضَّالُّونَ النَّصَارَى، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَإِذَا صَحَّ هَذَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ فِي الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ قُيُودٌ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، بِتَرْكِ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي أَوْقَاتِ الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ، وَلَا الضَّالِّينَ، بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ مِنَ الْعَاصِي لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِالْعَبْدِ قَبْلَ خَلْقِهِ وَقَبْلَ صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ إِحْلَالُ الْعُقُوبَةِ بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَقَدَّمَ الْغَضَبَ عَلَى الضَّلَالِ، وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ مِنْ نَتِيجَةِ الضَّلَالِ ضَلَّ عَنِ الْحَقِّ فَغَضِبَ عَلَيْهِ لِمُجَاوَرَةِ الْإِنْعَامِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ قَرِينَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْعَامَ يُقَابَلُ بِالِانْتِقَامِ، وَلَا يُقَابِلُ الضَّلَالُ الْإِنْعَامَ فَالْإِنْعَامُ إِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَالِانْتِقَامُ إِيصَالُ الشَّرِّ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَبَيْنَهُمَا تَطَابُقٌ مَعْنَوِيٌّ، وَفِيهِ أَيْضًا تَنَاسُبُ التَّسْجِيعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا الضَّالِّينَ، تَمَامُ السُّورَةِ، فَنَاسَبَ أَوَاخِرَ الْآيِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ الْغَضَبُ، وَمُتَعَلِّقُهُ لَمَا نَاسَبَ أَوَاخِرَ الْآيِ. وَكَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ الَّتِي لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِحُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ مُغَايَرَةِ جَمْعِ الْوَصْفَيْنِ، الْغَضَبِ عَلَيْهِ، وَالضَّلَالِ لِمَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ فُسِّرَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. فَالتَّقْدِيمُ إِمَّا لِلزَّمَانِ أَوْ لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ أَقْدَمُ وَأَشَدُّ عَدَاوَةً مِنَ النصارى.
وقد أنجز فِي غُضُونِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ لَا يَهْتَدِي إِلَى اسْتِخْرَاجِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ تَوَغَّلَ فِي فَهْمِ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَرُزِقَ الْحَظَّ الْوَافِرَ مِنْ عِلْمِ الْأَدَبِ، وَكَانَ عَالِمًا بِافْتِنَانِ الْكَلَامِ، قَادِرًا عَلَى إِنْشَاءِ النِّثَارِ الْبَدِيعِ وَالنِّظَامِ. وَأَمَّا مَنْ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجَسَا طَبْعُهُ حَتَّى عَنِ الْفِقْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْأَدَبِ، فَسَمْعُهُ عَنْ هَذَا الْفَنِّ مَسْدُودٌ، وَذِهْنُهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا الْمَقْصُودِ. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ أَنْوَاعٌ:
53
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: حُسْنُ الِافْتِتَاحِ وَبَرَاعَةُ الْمَطْلَعِ، فَإِنْ كَانَ أَوَّلُهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ عَدَّهَا مِنْهَا، فَنَاهِيكَ بِذَلِكَ حُسْنًا إِذْ كَانَ مَطْلَعُهَا، مُفْتَتَحًا بِاسْمِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمْدُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَوَصْفُهُ بماله مِنَ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ أَحْسُنُ مَا افْتُتِحَ بِهِ الْكَلَامُ، وَقُدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ النَّثْرَ وَالنِّظَامَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ الِافْتِتَاحُ بِالْحَمْدِ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ، وَالْمَطَالِعُ تَنْقَسِمُ إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَالْحَسَنُ إِلَى ظَاهِرٍ وَخَفِيٍّ عَلَى مَا قُسِّمَ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْمُبَالَغَةُ فِي الثَّنَاءِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ أَلْ فِي الْحَمْدِ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي مَرَّ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَلْوِينُ الْخِطَابِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ «١»
وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الِاخْتِصَاصُ بِاللَّامِ الَّتِي فِي لِلَّهِ، إِذْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، إِذْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهَا وَبِالْإِضَافَةِ فِي مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ لِزَوَالِ الْأَمْلَاكِ وَالْمَمَالِكِ عَنْ سِوَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَتَفَرُّدِهِ فِيهِ بِالْمُلْكِ وَالْمِلْكِ، قَالَ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «٢»
، وَلِأَنَّهُ لَا مُجَازِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْأَعْمَالِ سِوَاهُ. النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْحَذْفُ، وَهُوَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ الْحَمْدَ ظَاهِرٌ، وَتَقَدَّمَ، هَلْ يُقَدَّرُ مِنْ لَفْظِ الْحَمْدِ أَوْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ؟ وَمِنْهُ حَذْفُ الْعَامِلِ الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خَبَرٌ عَنِ الْحَمْدِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَدَّرُ بِكَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ، قَالَ: وَمِنْهُ حَذْفُ صِرَاطٍ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ، التَّقْدِيرُ غَيْرِ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَغَيْرِ صِرَاطِ الضَّالِّينَ، وَحَذْفُ سُورَةٍ إِنْ قَدَّرْنَا الْعَامِلَ فِي الْحَمْدِ إِذَا نَصَبْنَاهُ، اذْكُرُوا أَوِ اقرأوا، فتقديره اقرأوا سُورَةَ الْحَمْدِ، وَأَمَّا مَنْ قَيَّدَ الرَّحْمَنَ، وَالرَّحِيمَ، وَنَعْبُدُ، وَنَسْتَعِينُ، وَأَنْعَمْتُ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، وَالضَّالِّينَ، فَيَكُونُ عِنْدَهُ فِي سُورَةِ مَحْذُوفَاتٍ كَثِيرَةٍ. النَّوْعُ السَّادِسُ:
التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ نَعْبُدُ، وَنَسْتَعِينُ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، وَالضَّالِّينَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. النَّوْعُ السَّابِعُ: التَّفْسِيرُ، وَيُسَمَّى التَّصْرِيحُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ، وَذَلِكَ فِي بَدَلِ صِرَاطَ الَّذِينَ مِنَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. النَّوْعُ الثَّامِنُ: الِالْتِفَاتُ، وَهُوَ فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا. النَّوْعُ التَّاسِعُ: طَلَبُ الشَّيْءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولَهُ بَلْ دَوَامَهُ، وَذَلِكَ فِي اهْدِنَا. النَّوْعُ الْعَاشِرُ: سَرْدُ الصِّفَاتِ لِبَيَانِ خُصُوصِيَّةٍ فِي الْمَوْصُوفِ أَوْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ. النَّوْعُ الْحَادِي عَشَرَ: التَّسْجِيعُ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّسْجِيعِ الْمُتَوَازِي، وَهُوَ اتِّفَاقُ الْكَلِمَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فِي الْوَزْنِ وَالرَّوِيِّ، قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ... اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَسْتَعِينُ وَلَا الضَّالِّينَ، انْقَضَى كَلَامُنَا عَلَى تفسير الفاتحة.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢.
(٢) سورة غافر: ٤٠/ ١٦.
54
وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَنْ يُقَالَ لَهَا أُمُّ الْكِتَابِ، وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يُقَالَ لَهَا أُمُّ الْقُرْآنِ، وَجَوَّزَهُ الْجُمْهُورُ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ إِلَّا مَا شَذَّ فِيهِ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ خِلَافَهُ. عَدَّ الْجُمْهُورُ الْمَكِّيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آيَةً، وَلَمْ يَعُدُّوا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَسَائِرُ العادين، ومنهم كَثِيرٍ مِنْ قُرَّاءِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ لَمْ يَعُدُّوهَا آيَةً، وَعَدُّوا صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آيَةً، وَشَذَّ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، فَجَعَلَ آيَةً إِيَّاكَ نَعْبُدُ، فَهِيَ عَلَى عَدِّهِ ثَمَانِ آيَاتٍ، وَشَذَّ حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّهَا سِتُّ آيَاتٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «١»
هُوَ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لَيْسَتْ آيَةً، وَشَذَّ ابْنُ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: إِنَّهَا آيَةٌ فِي كُلِّ سُورَةٍ، وَلَا أَدْرِي مَا الْمَلْحُوظُ فِي مِقْدَارِ الْآيَةِ حَتَّى نَعْرِفَ الْآيَةَ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ عَدَدَ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ، وَذَكَرُوا سَبَبَ نُزُولِهَا مَا لَا يُعَدُّ سَبَبَ نُزُولٍ.
وَذَكَرُوا أَحَادِيثَ فِي فَضْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَذَكَرُوا لِلتَّسْمِيَةِ أيضا نزول مَا لَا يُعَدُّ سَبَبًا، وَذَكَرُوا أَنَّ الْفَاتِحَةَ تُسَمَّى الْحَمْدَ، وَفَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَأُمَّ الْكِتَابِ، وَالسَّبْعَ الْمَثَانِي، وَالْوَاقِيَةَ، وَالْكَافِيَةَ، وَالشِّفَاءَ، وَالشَّافِيَةَ، وَالرُّقْيَةَ، وَالْكَنْزَ، وَالْأَسَاسَ، وَالنُّورَ، وَسُورَةَ الصَّلَاةِ، وَسُورَةَ تَعْلِيمِ الْمَسْأَلَةِ، وَسُورَةَ الْمُنَاجَاةِ، وَسُورَةَ التَّفْوِيضِ. وَذَكَرُوا أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ الْفَاتِحَةِ، وَالْكَلَامِ عَلَى هَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ التَّذْيِيلَاتِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَعْيِينِ مُبْهَمٍ أَوْ سَبَبِ نُزُولٍ أَوْ نَسْخٍ بِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ يَضْطَرُّ إِلَيْهِ عِلْمُ التَّفْسِيرُ. وَكَذَلِكَ تَكَلَّمُوا عَلَى آمِينَ وَلُغَاتِهَا، وَالِاخْتِلَافِ فِي مَدْلُولِهَا، وَحُكْمِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَيْسَتْ مِنَ القرآن، فلذلك أضربنا عن الْكَلَامِ عَلَيْهَا صَفْحًا، كَمَا تَرَكْنَا الْكَلَامَ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ أَطَالَ الْمُفَسِّرُونَ كُتُبَهُمْ بِأَشْيَاءَ خَارِجَةٍ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ حَذَفْنَاهَا مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، إذا كَانَ مَقْصُودُنَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْخُطْبَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(١) سُورَةُ الحجر: ١٥/ ٨٥.
55
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).