تفسير سورة الفاتحة

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ
﴿ بِسمِ ﴾ الباء للاستعانة أو المصاحبة، ففحواه متبركاً أو مستعيناً، باسم الله أقرأ أو أبتدى، والأول من التقديرين أولى، إذ في التبرك تعظيم ليس في جعله آلة غير مقصودة بالذات وفي﴿ ٱقْرَأْ ﴾[العلق: ١]، رعاية لمقتضى المقام وعموم للجميع ولا يختص بالابتداء وتأخير التقدير للاختصاص وتقديم الباء والاسم لا يقدح في الابتداء باسم الله، إذ المراد ما صدق عليه اسم الله، والباء آلة وبهذا أن تَرْجِيْحُ ﴿ بِسمِ ٱللهِ ﴾ على " بالله " مع قطع النظر عن الفرق بين اليمين والتيمن، وأن التَيَمُّن باسمه -تعالى- لا بذاته، ثم التبرك بالألفاظ إجراؤها على اللسان واحضار معانيها بالبال وبالمعاني وبالعكس. ﴿ ٱللهِ ﴾ أي: الذات المستجمع لجميع صفات الكمال، عربيٌّ مرتجل جامد، وعند الزمخشري أنه اسم جنس صار عَلَماً من أَلهَ بمعنى: تَحَيَّر أو غيره. ﴿ ٱلرَّحْمٰنِ ﴾: المتفضل بإرادة الخير لكل الخلق. ﴿ ٱلرَّحِيـمِ ﴾: مُرِيْدُهُ للمؤمنين، وأصل الرحمة: رِقة قَلْبٍ تقتضي التَّفّضُّل، و إطلاقها على الله -تعالى- باعتبار الغاية كنظائرها من الصفات و " الرحمن " لزيادة بنائه أبلغ من الرحيم وإِما كَمَّاً بشُمُوْل الرحمة للدارين، أو بكثرة المرحومين، وإما كيفا، بجلالتها ورقتها و إرادته -تعالى- الخير لذَاتهِ والشر لخير في ضمنه، وقَدَّمَ " الرحمن " والقياس الترقي لزيادة شبه بالله اختصاصاً. *مسألة: التسمية آيةٌ من الفاتحة عند أكثر العلماء، خلافاً لأبي حنيفة ومالك كما ثبت في الحديث، ويكتفي بالأحادِي في وجوب العملي ورواية الصحيحين عن أنس -أنه- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون القرآن بالحمد لله رب العالمين لا تنهض حجة على الشافعي، إذ معناه الابتداء بهذه السورة وهذه الكلمات اسمها، وروي عن أنس ثلاث روايات أُخر تعارضها. وروى البيهقي الجهر بها عنه -صلى الله عليه وسلم- وعن عمر وأبن عمر وابن عباس وابن الزبير، وتواتر ذلك عن علي -رضي الله عنه- طول عمره، وأيضاً رواية الجهر ثبوتية فيُقَدَّم رواية. ﴿ ٱلْحَمْدُ ﴾: أي: كل أفراده أو ماهيته وحقيقته وهو لغة: الوصف على الجميل الاختياري هو أو أثره تعظيماً. وعرفاً: فعل يُنْبئُ عن تعظيم المنعم، لإنعامه، [وأما الحمد العرفي والشكر العرفي صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه فيما أعطاه لأجله كما فَصَّلَهُ الشارع] واصطلاحاً: اظهار الصفات الكمالية قولاً أو فعلاً أو حالاً، [منه: حمده -تعالى- ذاته بإيجاد كل موجود].
﴿ للَّهِ ﴾ أي مختصٌ به، أَمَّا عَلَى الأول فلأنه لا اختيار لغيره -تعالى- وأَمَّا على الأخيرين فلاستناد كل الممكنات إليه -تعالى- ابتداء، إذ المذامّ لا ترجع إليه، إذ لا ذمّ في الإفاضة بل في الاتصاف بالمذموم، على أنه إنما خلقه لخير في ضمنه كَمَا مَرّ. ﴿ رَبِّ ﴾ [أصله بمعنى التربية] وهو لغة: تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً أطلق عليه -تعالى- للمبالغة.﴿ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ جمع عالم، وَهُوَ كُلُّ ما يعلم به، وهو كل ما سواه، وأَفَادَ بجَمْعِه شُمُوْله لكل جنس تحتَهُ، وباللام استغراقه لكُلِّ جنس، وأفراده، أو المراد الإنسان لأنه عالم أصغر بل أعظَمُ فإنه مختصر الحَضْرة الإلهية وجوداً وحياةً وعلماً وقدرةً و إرادةً وسمعاً وبصراً وكلاماً، ومُخْتصر العالم فإنه في الطبائع كالعناصر وبالتركيب كالمعادن وبالغذاء والتوليد كالنبات وبالحس والتوهم والتخيل والتلذذ والتألم كالحيوان، وبالجرأة كالسبع وبالمكر كالشيطان وبالمعرفة كالملك وباجتماع الحكم فيه كاللَّوح وبثبوت صور الأشياء في القلوب بكلياته كالقلم الأعلى ولهذَا سوَّى بَيْنهٌمَا في آيةِ:﴿ وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾[الذاريات: ٢١] وانما جمع العقلاء تغليباً لهم أو لأنهم المقصودون وترتب الحمد عليه ظاهر وَلَو على إيجاد الشر لتَضَمُّنهِ الخير كَمَا مَرَّ. ﴿ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴾ تَأْكِيْد لاستحقاقه الحمد، أو الأول لتسكين هيبة اسم الله، والثاني لتجريه بالمخوفين بيوم الدين، هذا إذا وجبت التسمية كما مر. ﴿ مَـٰلِكِ ﴾ من المِلْك - بالكسر- المتصرف في الأعيان المملوكة و " مَلِك " من المُلْك -بالضم: المتصرف بالأمر والنهي في كل المأمورين، والثَّاني المختار لتوافق الفاتحة الخاتمة و للزوم التكرار بـ مالك لأن الرب بمعناه، ولأنه أعم حياطة وأقدر، لأأنه قرأة أهل الحرمين وهم أعرف بلغتهم لأن السِبعة كلها متواترة وهم ما قرؤا إلَّا ما سَمِعُوا. إلَّا أنْ يُقَال: كل الروايات وصلت إليهم وهم ما اختاروا للرواية إلا ما كان أفصح - والله أعلم. ﴿ يَوْمِ ﴾ أي: وَقْت. ﴿ ٱلدِّينِ ﴾ أي: الجزاء أي: هو مالكه مستمراً، ولا يرد عدم استمرار يوم الدين لأنه مالك الأشياء أَزلاً وأبداً، ولا يتغير بوجودها إلَّا تعلق ملكه. والإضافة لتعظيم المضاف إليه أو المضاف، وَ لظُهُوْر تفرده بنفوذ الأمر فيه، وآثر الأسماء الخمس لأن العبادة تقتضي الإلهيّة والاستعانة للربوية، والاستهداء للرحمانية والاستغاثة للرحيمية والإنعام للمالكية عند الاستعانة كالغضب عند الإخلال بها، ثُمَّ لمَّا تَميَّز عنده بهذه الصفات فكأنه صار مُشَاهداً، وقال: يَا مَنْ هَذِه صفاته: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ أي نَخُصُّك بالعبادة أي: أقصى غاية التذلل تعظيماً وبوسيلتها. ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ أى: نَخُصُّك بطلب المعونة في أداء العبادات أو كل المهمات، ويبين الأول أو الفرد الأعظم من الثاني في قوله: ﴿ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾ الغير المعوج، أي الإسلام، أي: ثبتنا عليه، أو زدنا الهداية، والهداية: دلالة بلطف، وتستعمل في الشر تَهكُّماً، وأجناسها خمسة مترتبة: وهي إضافة قُوىً يتمكن بها من الاهتداء، ونصب الدلائل وإرسال الرسل والكشف والتوفيق، والأخير هو الممنوع عن نحو الظالمين أينما وقع في القرآن. ﴿ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي: النبيين واقرانهم، والإنعام: إيصال النعمة إلى أولى النطق، والنعمة: ما يستلذ به دنيوية أو أخوية، والدنيوية مَوْهبية وكسبية، والمَوْهبية: روحانية وجسمانية والكسبية: تزكية النفس أو تزيين البدن والأخروية رضوانه -تعالى- والمواد هو وما يكون وصلة إليه. ﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ بإرادة انتقامهم كاليهود أو الفُسَّاق. والغضب: ثوران النفس لإرادة الانتقام فالمراد غايته. ﴿ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ المائلين عن الحق كالنصارى أو الكفرة. والضَّلالُ: سُلُوْكُ طَريقٍ لا تُوصِّلُ إلى المطلوب، وهو كثير الصواب، والصواب واحد إذ الصواب من الشيء يجري مجرى القرطاس من المرمى. ويستحب لقارئها بعد سكتة قول " آمين " أي: استجب أو افعل.
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).