تفسير سورة الفاتحة

معاني القرآن

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب معاني القرآن
لمؤلفه الأخفش . المتوفي سنة 215 هـ
بِسْمِ اللهِِِِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : " اسم " [ في التسمية ] صلة زائدة، زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرّك، لأن أصل الكلام " بالله " وحذفت الألف من " بسم " من الخط تخفيفاً لكثرة الاستعمال واستغناء عنها بباء الالصاق في اللفظ والخط فلو كتبت " باسم الرحمن " أو " باسم القادر " أو " باسم القاهر " لم تحذف الألف.
والألف في " اسم " ألف وصل، لأنك تقول : " سُمْيّ " وحذفت لأنها ليست من اللفظ.
( اب ) اسمٌ، لأنك تقول إذا صغّرته : " سُمَيّ "، فتذهب الألف. وقوله :﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾، وقوله :﴿ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ﴾ فهذا موصول لأنك تقول : " مُرَيَّة " و " ثُنَيَّا عشر ". و [ قوله ] :﴿ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ﴾ موصول : لأنك تقول : " ثُنَيَّتا عشرةَ "، وقال :﴿ إِذْ أرسلنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا ﴾، وقال :﴿ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ﴾، لأنك تقول في " اثنين " : " ثُنَيِّيّن " وفي " آمرئ " : " مُرَيّءِ " فتسقط الألف. وإنما زيدت لسكون الحرف الذي بعدها لما أرادوا استئنافه فلم يصلوا إلى الابتداء بساكن، فأحدثوا هذه الألف ليصلوا إلى الكلام بها. فإذا اتصل [ الكلام ] بشيء قبله استغنى عن هذه الألف. وكذلك كل ألف كانت في أول فعل أو مصدر، وكان " يَفْعل " من ذلك الفعل ياؤه مفتوحة فتلك ألف وصل نحو قوله :﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ﴿ اهْدِنَا ﴾. لأنك تقول : " يَهْدِي " فالياء مفتوحة. وقوله :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ ﴾ و [ قوله ] :﴿ يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ﴾، وقوله :﴿ عَذَابٌ ( ٤١ ) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ﴾، وأشباه هذا في القرآن كثيرة. والعلة فيه كالعلّة في " اسم "، و " اثنين " وما أشبهه، لأنه لما سكن الحرف الذي في أول الفعل جعلوا فيه هذه الألف ليصلوا إلى الكلام به إذا استأنفوا.
وكل هذه الألفات ( ٢ء ) اللواتي في الفعل إذا استأنفتهنّ مكسورات، فإذا استأنفت قلت ﴿ اهْدِنَا الصّرَاطَ ﴾، ﴿ ابْنِ لِي ﴾، ﴿ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ ﴾، إلا ما كان منه ثالث حروفه مضموما فانك تضم أوله إذا استأنفت، تقول :﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ﴾، وتقول ﴿ اذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً ﴾. وإنما ضمت هذه الألف إذا كان الحرف الثالث مضموماً لأنهم لم يروا بين الحرفين إلا حرفاً ساكنا، فثقل عليهم أن يكونوا في كسر ثم يصيروا إلى الضم. فأرادوا أن يكونا جميعاً مضمومين إذا كان ذلك لا يغير المعنى.
وقالوا في بعض الكلام في " المُنْتِن " : مِنْتِن ". وإنما هي من " " أنتن " فهو " مُنْتِن "، مثل " أكرم " فهو " مُكْرِم ". فكسروا الميم لكسرة التاء. وقد ضم بعضهم التاء فقال " مُنْتُن " لضمة الميم. وقد قالوا في " النَقِد " : " النِقِد " فكسروا النون لكسرة القاف. وهذا ليس من كلامهم إلا فيما كان ثانيه احد الحروف الستة نحو " شعير ". والحروف الستة : الخاء والحاء والعين والغين والهمزة والهاء.
وما كان على " فُعِلَ " مما في أوله هذه الألف الزائدة فاستئنافه أيضا مضموم نحو :﴿ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ ﴾ لان أول " فُعِلَ " أبدا مضموم، [ ٢ب ] والثالث من حروفها أيضا مضموم.
وما كان على " أَفعَلُ أنا " فهو مقطوع الألف وإن كان من الوصل، لأن " أَفْعَلُ " فيها ألف سوى ألف الوصل، وهي نظيرة الياء في " يَفْعَل ". وفي كتاب الله عز وجل ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾، و ﴿ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ ﴾و ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾.
وما كان من نحو الألفات اللواتي ليس معهن اللام في أول اسم، وكانت لا تسقط في التصغير فهي مقطوعة تكون في الاستئناف على حالها في الاتصال نحو قوله :﴿ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ ﴾، وقوله ﴿ يَا أَبَانَا ﴾، وقوله، ﴿ إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ﴾، و ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ﴾ ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ ﴾، لأنها إذا صغرت ثبتت الألف فيها، تقول في تصغير " إحدى " : " أُحَيْدى "، و " أحَد " : " أُحَيْد "، و " أَبانا " : " أُبَيُّنا " و كذلك " أُبَيّانِ " و " أُبَيُّونَ ". وكذلك [ الألف في قوله ] ﴿ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ﴾و ﴿ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾، لأنك تقول في " الأنصار " : " أُنَيْصار "، وفي " الأنباءِ " : " أُبَيْناء " و " أُبَيْنُون ".
وما كان من الألفات في أول فعل أو مصدر، وكان " يَفْعل " من ذلك الفعل ياؤه مضمومة، فتلك الألف مقطوعة. تكون في الاستئناف على حالها في الاتصال، نحو قوله ﴿ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾، لأنك تقول : " يُنْزَل ". فالياء مضمومة. و ﴿ رَبَّنَا آتِنَا ﴾ تقطع لان الياء مضمومة، لأنك تقول : " يُؤْتِى ". وقال ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾و ﴿ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ لأنك تقول : " يُؤتِي "، و " يُحْسِن " [ ٣ء ]. وقوله :﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾، و ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ فهذه موصولة لأنك تقول : " يَأتي "، فالياء مفتوحة. وإنما الهمزة التي في قوله :﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾ همزة كانت من الأصل في موضع الفاء من الفعل، ألا ترى أنها ثابتة في " أتيت " وفي " أتى " لا تسقط. وسنفسر لك الهمز في موضعه إن شاء الله. وقوله :﴿ آتِنَا ﴾ يكون من " آتى " و " آتاه الله "، كما تقول : " ذهب " و " أذهبه الله " ويكون على " أَعطنا ". قال ﴿ فَآتِهِمْ عَذَاباً ﴾ على " فَعَل " و " أَفْعَلَهُ غيرُه ".
وأما قوله :﴿ الرحمن الرَّحِيمِ ( ١ ) الْحَمْدُ ﴾ ( ٢ ) فوصلت هذه الأسماء التي في أوائلها الألف واللام حتى ذهبت الألف في اللفظ. وذلك لان كل اسم في أوله ألف ولام زائدتان فالألف تذهب إذا اتصلت بكلام قبلها. وإذا استأنفتها كانت مفتوحة أبدا لتفرق بينها وبين الألف التي تزاد مع غير اللام، ولان هذه الألف واللام هما جميعاً حرف واحد ك " قد " و " بل ". وإنما تعرف زيادتهما بأن تروم ألفا ولاما أخريين تدخلهما عليهما، فان لم تصل الى ذلك عرفت انهما [ ٣ب ] زائدتان ألا ترى أن قولك " الحمدُ للّهِ " وقولك : " العالمين " وقولك " التي " و " الذي " " و الله " لا تستطيع أن تدخل عليهن ألفا ولاما أخريين ؟ فهذا يدل على زيادتهما، فكلما اتصلتا بما قبلهما ذهبت الألف. إلا أن توصل بألف الاستفهام فتترك مخففة، [ و ] لا يخفف فيها الهمزة الأناس من العرب قليل، وهو قوله ﴿ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ﴾ وقوله ﴿ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ وقوله ﴿ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾. وإنما مدت في الاستفهام ليفرق بين الاستفهام والخبر. ألا ترى انك لو قلت وأنت تستفهم : " الرجل قال كذا وكذا " فلم تمددها صارت مثل قولك " الرجل قال كذا وكذا " إذا أخبرت.
وليس سائر ألفات الوصل هكذا. قال﴿ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ﴾، وقال ﴿ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾. فهذه الألفات مفتوحة مقطوعة، لأنها ألف استفهام، وألف الوصل التي كانت في " اصطفى " [ و " افترى " ] قد ذهبت، حيث اتصلت الصاد [ والفاء ] بهذه الألف التي قبلها للاستفهام. وقال من قرأ هذه الآية ﴿ كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ ﴾ ﴿ أَتَّخَذْنَاهُمْ ﴾ فقطع ألف " أَتخذناهم " فإنما جعلها ألف استفهام وأذهب ألف الوصل التي كانت بعدها، لأنها إذا اتصلت بحرف قبلها ذهبت. وقد قرئ هذا الحرف موصولا، وذلك إنهم حملوا قوله ﴿ أَمْ زَاغَتْ [ ٤ء ] عَنْهُمُ الأَبْصَار ﴾على قوله ﴿ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ ﴾ ﴿ أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَار ﴾.
وما كان من اسم في أوله ألف ولام تقدر أن تدخل عليهما ألفا ولاما أخريين، فالألف من ذلك مقطوعة تكون في الاستئناف على حالها في الاتصال، نحو قوله ﴿ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ ﴾ لأنك لو قلت " الإِله " فأدخلت عليها ألفا ولاما جاز ذلك. وكذلك " أَلواح " و إلهام " و " إلقاء " مقطوع كله، لأنه يجوز إدخال ألف ولام أخريين. فأما " إلى " فمقطوعة ولا يجوز إدخال الألف واللام عليها لأنها ليست باسم، وإنما تدخل الألف واللام على الاسم. ويدلك على أن الألف واللام في " إلى " ليستا بزائدتين انك إنما وجدت الألف واللام تزادان في الأسماء، ولا تزادان في غير الأسماء، مثل " إلى " و " أَلاَّ ". ومع ذلك تكون ألف " إلى " مكسورة وألف اللام الزائدة لا تكون مكسورة.
وأما قوله ﴿ الْحَمْدُ للَّهِ ﴾ [ ٢ ] فرفعه على الابتداء. وذلك أن كل اسم ابتدأته لم توقع عليه فعلا من بعده فهو مرفوع، وخبره إن كان هو هو فهو أيضا مرفوع، نحو قوله ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ﴾ وما أشبه ذلك. وهذه الجملة تأتي على جميع ما في القرآن من المبتدأ فافهمها. فإنما رفع [ ٤ب ] المبتدأ ابتداؤك إياه، والابتداء هو الذي رفع الخبر في قول بعضهم [ و ] كما كانت " أنَّ " تنصب الاسم وترفع الخبر فكذلك رفع الابتداء الاسم والخبر. وقال بعضهم : " رفع المبتدأ خبره " وكل حسن، والأول أقيس.
وبعض العرب يقول ﴿ الْحَمْدَ للَّهِ ﴾ فينصب على المصدر، وذلك أن أصل الكلام عنده على قوله " حَمْداً لله " يجعله بدلا من اللفظ بالفعل، كأنه جعله مكان " أَحْمَدُ " ونصبه على " أَحْمَدُ " حتى كأنه قال : " أَحْمَدُ حَمْداً " ثم ادخل الألف واللام على هذه.
وقد قال بعض العرب ﴿ الْحَمْدِ للَّهِ ﴾ فكسره، وذلك أنه جعله بمنزلة الأسماء التي ليست بمتمكنة، وذلك أن الأسماء التي ليست بمتمكنة تحرّك أواخرها حركة واحدة لا تزول علتها نحو " حَيْثُ " جعلها بعض العرب مضمومة على كل حال، وبعضهم يقول " حَوْثُ " و " حَيْثَ " ضم وفتح. ونحو " قَبْلُ " و " بَعْدُ " جعلتا مضمومتين على كل حال. وقال الله تبارك وتعالى ﴿ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴾ فهما مضموتان إلا أن تضيفهما، فإذا أضفتهما صرفتهما. قال ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ﴾ و ﴿ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ و ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾ وقال ﴿ من قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ﴾ وذلك أن قوله ﴿ أَن نَّبْرَأَهَا ﴾ اسم أضاف إليه ﴿ قَبْل ﴾ [ ٥ء ] وقال ﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ ﴾. وذلك أن قوله ﴿ أَن نَّزغَ ﴾ اسم هو بمنزلة " النَزْغ "، لأن " أنْ " الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة اسم، فأضاف إليها " بَعْد ". وهذا في القرآن كثير.
ومن الأسماء التي ليست بمتمكنة قال الله عز وجل ﴿ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي ﴾ و ﴿ هَا أَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ ﴾ مكسورة على كل حال. فشبهوا " الحمدَ " وهو اسم متمكن في هذه اللغة بهذه الأسماء التي ليست بمتمكنة، كما قالوا " يا زيدُ ". وفي كتاب الله ﴿ يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ﴾ هو في موضع النصب، لان الدعاء كلّه في موضع نصب، ولكن شبه بالأسماء التي ليست بمتمكنة فترك على لفظ واحد، يقولون : " ذهب أَمسِ بما فيه " و " لَقِيتهُ أمسِ يا فتى "، فيكسرونه في كل موضع في بعض اللغات. وقد قال بعضهم : " لَقِيتهُ الأمسِّ الأحدث "
وقد قرأها قوم ﴿ مالكَ ﴾ نصب على الدعاء وذلك جائز، يجوز فيه النصب والجرّ، [ وقرأها قوم ﴿ مَلْك ﴾ ] إلا أن " المَلْك " اسم ليس بمشتق من فعل نحو قولك : " مَلْك ومُلوك " وأما " المالك " فهو الفاعل كما تقول : " مَلَك فهو مالِكٌ " مثل " قهر فهو قاهر ".
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ( ٥ ) فلأنه إذا قال " الحمدُ لِمالِكِ يومِ الدين " فإنه ينبغي أن يقول " إيّاهُ نعبد " فإنما هذا على الوحي. وذلك أن الله تبارك وتعالى خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " قل يا محمد " : " الحمدُ لله " وقل : " الحمدُ لمالكِ يومِ الدين " وقل يا محمد :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾.
وأما قوله ﴿ إيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ( ٥ ) ولم يقل " أنت نعبد " [ ف ] لان هذا موضع نصب. وإذا لم يقدر في موضع النصب على الكاف أو الهاء وما أشبه ذلك من الإضمار الذي يكون للنصب جعل " أِيّاك " أو " إيَّاهُ " أو نحو ذلك مما يكون في موضع نصب. قال :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى ﴾ لان هذا موضع نصب، تقول : " إني أَو زيداً منطلق ". و ﴿ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾. هذا في موضع نصب. كقولك : " ذهب القوم إلا زيدا ". [ و ] إنما صارت ﴿ إِيَّاكَ ﴾ [ في ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ]في موضع نصب من اجل ﴿ نَعْبُدُ ﴾ وكذلك :
﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ( ٥ ) أيضاً. وإذا كان موضع رفع جعلت فيه " أنت " و " أنتما " و " أنتم "، و " هو " و " هي " وأشباه ذلك.
وأما قوله ﴿ اهْدِنَا الصّرِاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ ( ٦ ) فيقول : " عَرِّفْنا ". وأهل الحجازِ يقولون : " هديتُه الطريقَ " أي : عَرَّفته، وكذلك " هديتُه البيتَ " في لغتهم. وغيرهم يُلّحق به " إلى ".
ثم قال :﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ ( ٧ ) نصب على البدل. و﴿ أَنْعَمْتَ ﴾ مقطوع الألف لأنك تقول " يُنعِم " فالياء مضمومة فافهم. وقوله :
﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ ( ٧ ) هؤلاء صفة ﴿ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ لان " الصراطَ " مضاف إليهم، فهم جرّ للإضافة. وأجريت عليهم " غيرَ " صفة أو بدلا. و " غَيْرٌ " و " مِثْلٌ " قد تكونان من صفة المعرفة التي بالألف واللام، نحو قولك : " إني لأَمرّ بالرجلِ غيرِكَ وبالرجلِ مثلِكَ فما يشتمني "، و " غيرٌ " و " مثلٌ " إنما تكونان صفة للنكرة، ولكنهما [ ٨ء ] قد احتيج إليهما في هذا الموضع فأجريتا صفة لما فيه الألف واللام، والبدل في " غير " أجود من الصفة، لان " الذي " و " الذين " لا تفارقهما الألف واللام، وهما أشبه بالاسم المخصوص من " الرجل " وما أشبهه.
و " الصراط " فيه لغتان، السين والصاد، إلا أنا نختار الصاد لان كتابها على ذلك في جميع القرآن.
وقد قال العرب " هم فيها الجَمّاءَ الغفيرَ " فنصبوا، كأنهم لم يدخلوا الألف واللام، وان كانوا قد اضهروهما كما أجروا " مثلك " و " غيرَك " كمجرى ما فيه الألف واللام وان لم يكونا في اللفظ. وإنما يكون هذا وصفا للمعرفة التي تجيء في معنى النكرة. ألا ترى انك إذا قلت : " إنّي لأَمرُّ بالرجلِ مِثلك " إنما تريد " برجلٍ مثلِك ". لأنك لا تحدّ له رجلا بعينه ولا يجوز إذا حددت له ذلك، إلا أن تجعله بدلا ولا يكون على الصفة. ألا ترى أنه لا يجوز " مررت بزيدٍ مثلِك " إلا على البدل. ومثل ذلك : " إنّي لأَمُرُّ بالرجلِ من أهل البصرة " ولو قلت : " إنّي لأَمُرُ بزيدٍ من أهل البصرة " لم يجز إلا أن تجعله في موضع حال. فكذلك ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾.
وقد قرأ قوم ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ جعلوه على الاستثناء [ ٨ب ] الخارج من أول الكلام. ولذلك تفسير سنذكره إن شاء الله، وذلك انه إذا استثنى شيئا ليس من أول الكلام في لغة أهل الحجاز فانه ينصب [ و ] * يقول " ما فيها أحدٌ إلاّ حماراً "، وغيرهم يقول : " هذا بمنزلة ما هو من الأول " فيرفع. فذا يجرّ ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ﴾ في لغته. وان شئت جعلت " غيرَ " نصبا على الحال لأنها نكرة والأول معرفة، وإنما جرّ لتشبيه " الذي ب " الرجل ". وليس هو على الصفة بحسن ولكن على البدل نحو ﴿ بِالنَّاصِيَةِ ﴾﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ ﴾.
ومن العرب من يقول :
" هِيّاك " بالهاء ويجعل الألف من " إيّاك " هاء فيقول " هِيّاك نعبد " كما تقول : " إيهِ " و " هِيهِ " وكما تقول : " هَرَقت " و " أَرَقْتُ ".
وأهل الحجاز يؤنثون " الصراطَ " كما يؤنثون " الطريقَ " و " الزُقاقَ " و " السبيل " و " السوقَ " و " الكَلاّءَ ". وبنو تميم يذكّرون هذا كله. وبنو أسد يؤنثون " الهُدى ".
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).