تفسير سورة الفاتحة

تفسير التستري

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب تفسير التستري المعروف بـتفسير التستري.
لمؤلفه سهل التستري . المتوفي سنة 283 هـ
قال أبو بكر : سئل سهل عن معنى :«بسم الله الرحمن الرحيم » فقال :
الباء بهاء الله عز وجل. والسين سناء الله عز وجل. والميم مجد الله عز وجل. ١
والله : هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه حرف مكنى غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة. ولا ينال فهمه إلا الطاهر من الأدناس، الآخذ من الحلال قواما ضرورة الإيمان.
والرحمن : اسم فيه خاصية من الحرف المكنى بين الألف واللام.
والرحيم : هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع والابتداء في الأصل رحمة لسابق علمه القديم.
قال أبو بكر : أي بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحيم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :«الرحمن الرحيم » اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر٢، فنفى الله تعالى بهما القنوط عن المؤمنين من عباده.
١ - نسب هذا القول إلى النبي عيسى عليه السلام في الفردوس بمأثور الخطاب ١/٢٢٩؛ وانظر مثل هذا القول في تأويل مشكل القرآن ص: ٣٠٩..
٢ - نسب هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنه في عمدة الحفاظ ٢/٨٠ (رحم).
سورة فاتحة الكتاب
[سورة الفاتحة (١) : آية ٢]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)
قال سهل: معنى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [٢] الشكر لله، فالشكر لله هو الطاعة لله، والطاعة لله هي الولاية من الله تعالى كما قال الله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة: ٥٥] ولا تتم الولاية من الله تعالى إلا بالتبري ممن سواه. ومعنى: رَبِّ الْعالَمِينَ [٢] سيد الخلق المربّي لهم، والقائم بأمرهم، المصلح المدبر لهم قبل كونهم، وكون فعلهم المتصرف بهم لسابق علمه فيهم، كيف شاء لما شاء، وأراد وحكم وقدر من أمر ونهي، لا رب لهم غيره.
[سورة الفاتحة (١) : الآيات ٤ الى ٥]
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [٤] أي يوم الحساب، إِيَّاكَ نَعْبُدُ [٥] أي نخضع ونذلّ ونعترف بربوبيتك ونوحّدك ونخدمك، ومنه اشتق اسم العبد. وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [٥] أي على ما كلفتنا بما هو لك، وإليك المشيئة والإرادة فيه، والعلم والإخلاص لك، ولن نقدر على ذلك إلاَّ بالمعونة والتسديد لنا منك، إذ لا حول لنا ولا قوة إلاَّ من عندك. فقيل له: أليس قد هدانا الله إلى الصراط المستقيم؟ قال: بلى، ولكن طلب الزيادة منه كما قال: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: ٣٥] فكان معنى قوله: «اهدنا» : أمددنا منك بالمعونة والتمكين. وقال مرة أخرى: «اهدنا» معناه أرشدنا إلى دين الإسلام الذي هو الطريق إليك بمعونة منك، وهي البصيرة، فإنا لا نهتدي إلاَّ بك، كما قال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [القصص: ٢٢] أي يرشدني قصد الطريق إليه. قال:
وسمعت سهلاً يحكي عن محمد بن سوار عن سفيان عن سالم عن أبي الجعد عن ثوبان قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عزَّ وجلَّ: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. قال: فإذا قال العبد: «الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين» قال تعالى:
حمدني عبدي، فإذا قال: «الرحمن الرحيم» قال الله تعالى: أثنى عَليّ عبدي، وإذا قال: «مالك يَوْمِ الدين» يقول الله: فهذه الآيات لي ولعبدي بعدها ما سأل، وإذ قال: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين اهدنا الصراط المستقيم» إلى آخره يقول الله عزَّ وجلَّ: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» «١».
(١) سنن ابن ماجة: الأدب، باب ثواب القرآن، حديث رقم ٣٧٨٤ وسنن أبي داود: الصلاة، باب القراءة في الفجر، حديث رقم ٨٢١ والترمذي: تفسير القرآن، باب: ومن سورة فاتحة الكتاب، حديث رقم ٢٩٥٣
23
قال سهل: معنى قوله: «مجدني عبدي» أي وصفني بكثرة الإحسان والإنعام، وقال سهل: وروي عن مجاهد «١» أنه قال: آمين اسم من أسماء الله تعالى «٢»، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما حسدتكم النصارى على شيء كما حسدتكم على قولكم آمين «٣». وحكى محمد بن سوار عن ابن عيينة «٤» عن عمرو بن دينار «٥» عن جابر بن عبد الله «٦» رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلاَّ مؤمن، فإذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن الله يرضى على قائلها، ويقبل صلاته، ويجيب دعاءه» «٧». وحكى الزهري «٨» عن ابن المسيب «٩» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذ قال الإمام: «ولا الضالين» قولوا:
آمين، فإن الملائكة يقولون آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» «١٠».
(١) مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي (٢١- ١٠٤ هـ) : تابعي، مفسر، من أهل مكة، شيخ القراء والمفسرين أخذ التفسير عن ابن عباس. تنقل في الأسفار، واستقر في الكوفة. (الحلية ٣/ ٢٧٩).
(٢) خطّأ أبو علي الفارسي من قال في (آمين) : إنه اسم من أسماء الله عزّ وجلّ. (سفر السعادة ص ١٣٤)، وقال السخاوي في سفر السعادة: (وأما ما روي... عن مجاهد أنه اسم من أسماء الله عزّ وجلّ فإن تأويله أن (آمين) لما تضمن الضمير الذي هو مصروف إلى الله عزَّ وجلَّ قيل: إنه اسم الله عزَّ وجلَّ على هذا التقدير، لا أن الكلمة اسم من أسمائه عزّ وجلّ دون الضمير). وانظر عمدة الحفاظ ١/ ١٢٦ (أمن).
(٣) في فيض القدير ٥/ ٤٤١: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين)، وفيه أيضا: (وأخرجه ابن ماجة مختصرا عن عائشة بلفظ: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين).
(٤) سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي، أبو محمد (١٠٧- ١٩٨ هـ) : محدث الحرم المكي، من الموالي ولد بالكوفة، وسكن مكة، وتوفي بها. كان حافظا ثقة، واسع العلم. حج سبعين سنة. (الحلية ٧/ ٢٧٠).
(٥) عمرو بن دينار الجمحي بالولاء، أبو محمد الأشرم (٤٦- ١٢٦ هـ) : فقيه، كان مفتي أهل مكة، فارسي الأصل، مولده بصنعاء، ووفاته بمكة. (الأعلام ٥/ ٧٧).
(٦) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري السلمي (١٦- ٧٨ هـ) : صحابي، من المكثرين في الرواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وروى عنه جماعة من الصحابة. غزا تسع عشرة غزوة. (الأعلام ٢/ ١٠٤).
(٧) القراءة خلف الإمام ص ١١- ٣٠.
(٨) الزهري: محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري القرشي (٥٨- ١٢٤ هـ) : أول من دون الحديث وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء. تابعي، من أهل المدينة. كان يحفظ ٢٢٠٠ حديث. (الأعلام ٧/ ٩٧).
(٩) سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي (١٣- ٩٤ هـ) : سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة.
جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع. (الحلية ٢/ ١٦١).
(١٠) صحيح البخاري: كتاب التفسير، حديث رقم ٤٢٠٥.
24
فقيل له : أليس قد هدانا الله إلى الصراط المستقيم ؟ قال : بلى، ولكن طلب الزيادة منه كما قال :﴿ ولدينا مزيد ﴾ [ ق : ٣٥ ] فكان معنى قوله :«اهدنا » : أمددنا منك بالمعونة والتمكين. وقال مرة أخرى :«اهدنا » معناه أرشدنا إلى دين الإسلام الذي هو الطريق إليك بمعونة منك، وهي البصيرة، فإنا لا نهتدي إلا بك، كما قال :﴿ عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ﴾ [ القصص : ٢٢ ] أي يرشدني قصد الطريق إليه.
قال : وسمعت سهلا يحكي عن محمد بن سوار عن سفيان عن سالم عن أبي الجعد عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« يقول الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. قال : فإذا قال العبد :«الحمد لله رب العالمين » قال تعالى : حمدني عبدي، فإذا قال :«الرحمن الرحيم » قال الله تعالى : أثنى علي عبدي، وإذا قال :«مالك يوم الدين » يقول الله : فهذه الآيات لي ولعبدي بعدها ما سأل، وإذا قال :«إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم » إلى آخره يقول الله عز وجل : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل »١.
قال سهل : معنى قوله :«مجدني عبدي » أي وصفني بكثرة الإحسان والإنعام.
١ - سنن ابن ماجة: الأدب، باب ثواب القرآن، حديث رقم ٣٧٨٤؛ وسنن أبي داود: الصلاة، باب القراءة في الفجر، حديث رقم ٨٢١؛ والترمذي: تفسير القرآن، باب: ومن سورة فاتحة الكتاب، حديث رقم ٢٩٥٣..
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).