تفسير سورة الفاتحة

تفسير الشافعي

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب تفسير الشافعي
لمؤلفه الشافعي . المتوفي سنة 204 هـ
قوله عز وجل ﴿ بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ { ١ ﴾ } :
١- قال الشافعي : يتعوذ١ فيقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يقرا مرتلا بأم القرآن ويبتدئها ب ﴿ بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ ﴾، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرا بأم القرآن ؛ وعدها آية٢. ( مختصر المزني : ١٤. )
ــــــــــــ
٢- قال الشافعي :﴿ بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ ﴾ الآية السابعة، فإن تركها، أو بعضها، لم تجزه الركعة التي تركها فيها.
قال الشافعي : وبلغني أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح القراءة ب ﴿ بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ ﴾ ٣. ( الأم : ١/١٠٧. ون معرفة السنن والآثار : ١/٥١٠ و ١/٥١٥. )
ــــــــــــ
قال الشافعي : أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز٤، عن ابن جُريج٥ قال : أخبرني أَبي، عن سعيد ابنِ جُبير٦ ﴿ وَلَقَدَ ـاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ اَلْمَثَانِى ﴾٧ قال : هي أم القرآن. قال أبي : وقرأها عَلَيَّ سعيد بن جبير حتى ختمها، ثم قال :﴿ بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ ﴾ الآية السابعة. قال سعيد : فقرأها عَلَيَّ ابن عباس كما قرأتها عليك ثم قال :﴿ بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ ﴾ الآية السابعة. قال ابن عباس : فَذَخَرَهَا٨ لكم، فما أخرجها لأحد قبلكم٩.
١ - أي المصلي..
٢ - قال ابن العربي: اتفق الناس على أنها آية من كتاب الله تعالى في سورة النمل، واختلفوا في كونها في أول كل سورة، فقال مالك وأبو حنيفة: ليست في أوائل السور بآية، وإنما هي استفتاح ليُعْلم بها مبتدأها. وقال الشافعي: هي آية في أول الفاتحة قولا واحدا؛ وهل تكون آية في أول كل سورة؟ اختلف قوله في ذلك... ويكفيك أنها ليست بقرآن للاختلاف فيها، والقرآن لا يختلف فيه، فإن إنكار القرآن كفر. أحكام القرآن: ١/٥-٦. ون عيون المجالس: ١/٢٩٢. وتهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك: ٢/١٥٠-١٥١..
٣ - كنز العمال: ٨/١١٩ (ر٢٢١٨٥) والراوي هو ابن عمر وليس ابن عباس. والحديث الذي رواه ابن عباس (ر٢٢١٨٣) وفيه: عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فجهر ب ﴿بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ﴾. وعن عمرو بن دينار: أن ابن عباس وابن عمر كانا يفتتحان ب ﴿بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ﴾ (ر٢٢١٨٠). ورواه أحمد في مسند ابن عباس..
٤ - عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد. عن: أبيه، وابن جريج، وأيمن بن نابل. وعنه: كثير بن عبيد، والزبير بن بكار. قال أحمد: ثقة يغلو في الإرجاء. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. ت سنة ٢٠٦هـ. الكاشف: ٢/٢٠٠. ون التهذيب: ٥/٢٨٣. وقال في التقريب: صدوق يخطئ وكان مرجئا. وتعقبه صاحب التحرير: ٢/٣٧٩ فقال: بل ثقة، أخطا في أحاديث كما يخطئ الناس، وهو من أثبت الناس في ابن جريج، وإنما نقم عليه الإرجاء، فضعفه بعضهم بسبب ذلك، وقد أطلق توثيقه: أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو داود، والنسائي، والخليلي. وقال ابن عدي: وعامة ما أنكر عليه الإرجاء..
٥ - عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، أبو الوليد، وأبو خالد القرشي مولاهم المكي الفقيه، أحد الأعلام. عن: مجاهد، وعطاء، وابن أبي مُلَيْكَةَ. وعنه: القطان، وروح، وحجاج. قال ابن عيينة: سمعته يقول: ما دون العلم تدويني أحد، ت سنة ١٥٠هـ. وكان يبيح المتعة ويفعلها. الكاشف: ٢/٢٠٤. ون التهذيب: ٥/٣٠٣. وقال في التقريب: ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل..
٦ - سعيد بن جُبير الوَالِبِي، مولاهم أبو محمد، وأبو عبد الله، أحد الأعلام. عن: ابن عباس، وعبد الله بن مغفل. وعنه: الأعمش، وأبو بِشر، وأمم. قتل في شعبان شهيدا سنة ٩٥هـ. الكاشف: ١/٣١٠. ون التهذيب: ٣/٣٠٦. وقال في التقريب: ثقة ثبت فقيه..
٧ - الحجر: ٨٧..
٨ - فَذَخَرَها لكم: أي اختصكم بها تفضلا منه سبحانه وتكرما..
٩ - رواه الشافعي في المسند (ر٢٢٢). والبيهقي في كتاب الصلاة باب: الدليل على أن ﴿ بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ﴾ آية تامة من الفاتحة ٢/٤٥، وروى كذلك في نفس الصفحة: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: « الحمد لله رب العالمين سبع آيات إحداهن بِسْمِِ اِللهِ اِلرَّحْمَنِ اِلرَّحِيمِ. وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب ». وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إذا قرأتم الحمد لله فاقرأوا بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ، إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني، و بِسْمِِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ إحداها »..
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).