تفسير سورة الفاتحة

القطان

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان.
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ : الحمد والمدحُ أخَوانِ لفظاً، ومعناهما الثناء الجميل، وهم هنا بقصد التعظيم والتبجيل في الضّراء والسراء على السواء.
وبعضهم فرقاً بينهما، فيقول: الحمد يكون بعد الإحسان وهو مأمور به دائما لحديث: «من يحمَدِ الناسَ لم يحمد الله».
أما المدح فيكون قبل الاحسان وبعده. وهو منهيٌّ عنه، لحديث «احثُوا في وجوه المدّاحين التراب».
والربّ في كلام العرب له معان ثلاثة: السيد المطاع، والرجل المصْلح للشيء، والمالك للشيء.
فربُّنا جل ثناؤه: السيد المطاع في خلقه، والمصلح أمْرَ خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخَلْق والأمر. ﴿العالمين﴾ : جميع الكائنات في هذا الوجود.
فمعنى ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات والأرض، ومن فيهن وما مبينهن، مما يُعلم وما لا يُعلم، فالثناء المطلق الذي لا يُحَدّ لله سبحانه إنما كان لأنه هو رب العالمين.
﴿الرحمن الرحيم﴾ : الرحن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة، وقد تقدم أنه لايوصف بها الا الله: ﴿الرحمن عَلَّمَ القرآن﴾ [الرحمن: ١٢]،
﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: ٥].
﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن﴾ [الإسراء: ١١٠].
أما الرحيم، فقد كثر استعمالها في القرآن وصفاً فعليا وجاءت بأسلوب ايصال النعمة والرحمة: ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقر: ١٤٣] ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] ﴿وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً﴾ [الأحزاب: ٤٣]. ولا نطيل أكثر من ذلك، وإنما نريد أن نبين هنا نكتة إعادتها وتكرارهما. فنأيأ عن أن يُفهم من لفظه الرب صفة الجبروت والقهر اراد الله تعالى أن يذكِّر الخلق برحمته واحسانه، ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال. فذكَر «الرحمن» أي المفيض للنعم بسعة وتجدُّ لا منتهى لهما، و «الرحيم» الثابتَ له وصف الرحمة، لا تزايله أبدا. بذا عرّفهم أن ربوبيته رحمة واحسان، ليعملوا ان هذه الصفة هي الأصلية التي يرجع اليها معنى بقية الصفات فيتعلقوا به ويُقبلوا على اكتساب مرضاته.
هذا وإن تكرار وصف الله لنفسه بالرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب لهو تأكيد لمعنى أن الدين الذي كتابه القرآن انما تقوم فضائله ونظُمه على الرحمة والحب والإحسان.
وإذا كان الحمد لله والثناء عليه مرجعهما وأساسهما التربية من الله للعالَم فما أجدر المؤمن ان يتخلق بخُلق الله، وان يلتمس الحمد والثناء من هذا السبيل الكريم. فمن حمّله الله مسئولية التربية من إمام أو معلّم أو أحد الزوجين فإن عليه أن يعتبر ما كُلف برعايته أمانةً عنده من المربي الاعظم سبحانه، فلْيمض فيها على سَنَن الرحمة والاحسان لا الجبروت والطغيان. ان ذلك أوفى الىأن يُصلح الله به، وأقربُ ان تناله رحمته.
﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ : قرىء: «مَلك يَوم الدِّين» و «مالكِ يوم الدين» قراءتان يدل مجموعهما على ان المُلك والمِلك في يوم القيامة لله وحده.
1
﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الإنفطار: ١٩] لا يشاركه في ذلك أحدٌ ممن خلق.
وللفظ «الدين» معان كثيرة، منها المكافأة والعقوبة، وهذا المعنى يناسب المقام.
وفي هذا تربية أُخرى للعبد، فإنه إذا آمن بأن هناك يوماً يظهر فيه احسان المحسن، واساءة المسيء، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم العظيم بيد الله تكوّن عنده خُلُق المراقبة، وتوقَّع المحاسبة، فكا ذلك أعظمَ سبيل لإصلاح كل ما يعمل.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ : نخصّك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة. والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلُّل، لذلك لم يستعمل اللفظُ الا في الخضوعِ لله تعالى، لأنهُ مولي أعظم النعم، فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع.
أمرنا الله تعالى أن لا نعبد غيره لأنه هو الإلَه الواحد لا شريك له. وترشدنا عبارة ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة.
أحدهما: أن نعمل الاعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا، لأن طلب المعونة لا يكون الا على عمل يود المرء أن يبذل فيه طاقته، فهو يطلب المعونة على اتمامه.
وثانيهما: قصْر الاستعانة بالله عليه وحده.
وليس في هذا ما ينافي بين الناس.
﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى﴾ [المائدة: ٢].
فان هذا التعاون في دائرة الحدود البشري لا يخرج عنها.
قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن. وسرُّها هذه الكلمة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فالقسم الأول من الآية تبرؤ من الشِرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، وتفويضٌ إلى الله تعالى.
﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ : هداه الله هُدًى وهِدَايةً الى الإيمان أرشدهخ، وهداه الى الطريق وهداه الطريق وللطريق بيّنة له وعرّفه به. والهداية دلالة بلطف، كما يقول الراغب الاصفهاني، والصراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
والصراط المستقيم هنا هو جملة ما يوصِل الناس الى سعادة الدناي والآخرة من عقائد وآداب وأحكام من جهتي العلم، وهو سبيل الاسلام الذي ختم الله به الرسالاتِ وجعل القرآن دستوره الشامل، ووكل الى الرسول الكريم تبليغه وبيانه. فالشريعة الاسلامية في جميع أمورها من عقيدة، واخلاق، وتشريع، وفي صلة الانسان بالحياة، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقة المسلمين بالأمم تأخذ الطريق الصائب، لا إفراط ولا تفريط. هذا هو الصراط المستقيم.
وهداية الله تعالى لا تحصى، نذكر منها:
أولاً: الهداية التي تعم كل مكلَّف بحيث يهتدي الى مصالحه، كالعقل والفطنة والمعارف الضرورية كما قال تعالى ﴿الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠].
ثانياً: نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ [البلد: ١٠]، وقوله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ [فصلت: ١٧].
ثالثاً: الهداية بإرسال الرسل وانزال الكتب: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الآنبياء: ٧٣]، وقوله: ﴿إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
2
[الإسراء: ٩].
رابعاً: الكشف عن كثير من أسرار الأشياء كما هي، بالوحي والالهام والرؤيا الصادقة. وهذا القسم يختص بنيله الأولياء. والى ذلك اشار سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠].
وقال ابن تيمية: «كل عبد مضطرٌّ دائا الى مقصود هذا الدعاء، أي هداية الصراط المستقيم. فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول الى السعادة الا بها، فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم، واما من الضالين». وهذا الاهتداء لا يحصل غلا بهدى الله ﴿مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً﴾ [الكهف: ١٧].
وقد بين الله تعالى هذا الصراط المستقيم بقوله: ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾.
اختلف المفسرون في بيان: الذين أنعم اللهُ عليهم، والمغضوبِ عليهم، والضآلِّين وكتبوا وطوّلوا في ذلك. وأحسن ما قيل في ذلك ان الآية دلّت على أن الناس ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: أهل الطاعة ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون﴾ [البقرة: ٣٥]، وهؤلاء هم الذين انعم الله عليهم.
الفرقة الثانية: الكافرون: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ [البقرة: ٦٧]، وهؤلاء هم أهل النقمة المغضوب عليهم.
الفرقة الثالثة: هم المنافقون الحائرون، المترددون بين إيمانهم الظاهر وكفكرهم الباطني ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً﴾ [البقرة: ١٠] فهم ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤]. وهؤلاء هم الضالّون المتحيرون.
وقد فصّل الله تعالى هذه افرق الثلاثة في أول سورة البقرة كما سيأتي ان شاء الله.
القراءات:
قرأ ابنُ كَثير برواية قنبل، والكسائي عن طريق رويس «السراط» بالسين في الموضعَين، وقرأ الباقون «الصراط» بالصاد، وهي لغة قريش.
هذه هي سورة الفاتحة، وقد تكفّل نصفُها الاول ببيان الحقيقة التي هي أساس هذا الوجود: تقرير ربوبية الله للعاملين ورحمته ورحمانيته، وتفرُّده بالسلطان يوم الدين؛ وتكفّل نصفها الثاني ببيان أساس الخطة العلمية في الحياة، سواء في العبادات أو المعاملات.
فالعبادة لله، الاستعانة به، والهداية منه بالتزام طريق الله، والبعد عن طريق الجادين والضالين المتحدّين.
هذا والمتتبع للقرآن جميعه، الواقف على مقاصده معارفه، يرى أنه جاء تفصيلاً لما أجملته هذه السورة الكريمة.
بهذا كانت «فاتحة الكتاب» و «أمَّ القرآن» و «السبع المثاني» والسورة الوحيدة التي طُلبت من المؤمنين في كل ركعة من كل صلاة.
3
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).