تفسير سورة الفاتحة

فتح الرحمن في تفسير القرآن

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن.
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ
التفسير:
[١] ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)﴾.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾.
[٢] ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ مبتدأ وخبرٌ، كأنه يخبر أن الله هو المستحقُّ للحمدِ، وهو بمعنى الأمرِ؛ أي: احمدوه، والحمدُ: هو الثناءُ الكاملُ، وهو أعمُّ من الشكر؛ لأن الشكرَ إنما يكون على فعلٍ جميلٍ يُسْدَى إلى الشاكر، والحمدُ المجرَّدُ هو ثناء بصفاتِ المحمود من غير أن يُسْدِيَ شيئًا، واللام في (لله) للاستحقاق، كما يقال: الدارُ لزيدٍ، وهو اسم خاصٌّ لله -عز وجل-، وتقدم تفسيرُه مستوفىً في البسملة، واتفق القراء على تغليظ اللام من اسمِ الله تعالى إذا كان بعدَ فتحةٍ أو ضمةٍ نحو: (شَهِدَ الله) و (رُسُلُ اللهِ)، فإن كان قبلَها كسرةٌ، فلا خلافَ في ترقيقها، نحو (بسمِ اللهِ) و (الحمدُ للهِ)، فإن فُصل هذا الاسمُ مما قبله، وابتُدِئَ به، فتحت همزةُ الوصل، وغُلِّظت اللامُ من أجل الفتحة.
﴿رَبِّ﴾ أي: مالك، كما يقال لمالكِ الدار: ربُّ الدار، ويقالُ لربِّ الشيء إذا ملكَه، ويكونُ بمعنى التربية والإصلاح؛ فالله سبحانَهُ مالكُ العالَمين ومُرَبِّيهم، ولا يقال للمخلوق: هو الربُّ، معرفًا، إنما يقال: ربُّ كذا، مضافًا؛ لأن الألف واللام للتعميم، وهو لا يملك الكل.
﴿الْعَالَمِينَ﴾ أصنافِ الخلائق، فكلُّ موجودٍ سوى الله يقال لجملته: عالَمٌ، واشتقاقه من العَلَم، وهو العلامةُ، سُمُّوا به، لظهور أثر الصنعةِ فيهم، وعَلَمُهم وجودُ الصانعِ -جلَّت قدرتُه-.
...
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣)﴾.
[٣] ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ تقدم تفسيرُهما في البسملة.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)﴾.
[٤] ﴿مَالِكِ﴾ قرأ عاصم والكسائيُّ ويعقوبُ وخلفٌ (مَالِكِ) بألف بعد الميم، والمعنى أن الله تعالى يملك ذلكَ اليومَ أن يأتيَ به كما يملكُ سائرَ الأيام، لكن خصَّصه بالذكر؛ لعظمهِ في جمعه وحوادثه. وقرأ الباقون (مَلِكِ) بغيرِ ألفٍ (١). المعنى: أنه ملكُ الملوكِ في ذلك اليوم، لا مُلْكَ لغيره. وقرأ أبو عمرو (الرَحِيم مَّلِكِ) بإدغام الميم في الميم (٢)، وكذلك يدغم كلَّ حرفين، سواءٌ كانا مثلين، أم جنسين، أم متقاربين، إذا لم ينون الأول نحو: ﴿وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)﴾ [البقرة: ١١٥]، أو يشدّد نحو: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ﴾ [الأعراف: ١٤٢]، أو تاء متكلم نحو: ﴿كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: ٤٠]، أو مخاطَبٍ نحو:
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٠٤)، و"الحُجَّة" لابن خالويه (ص: ٦٢)، و"التيسير" للدَّاني (ص: ١٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٧).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٥)، "معجم القراءات القرآنية" (١/ ٦).
﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ﴾ [يونس: ٩٩]، وشبهِه، وسيُذْكَر كلُّ شيءٍ في محلِّه إن شاءَ الله تعالى.
واختلف الآخذون بوجه الإدغام فيما إذا كان الأول مجزومًا، وذلك في قوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ﴾ [آل عمران: ٨٥]، و ﴿يَخْلُ لَكُمْ﴾ [يوسف: ٩]، و ﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا﴾ [غافر: ٢٨]، وكذلك اختلفوا في ﴿آلَ لُوطٍ﴾ [القمر: ٣٤]، وفي الواو إذا وقع قبلها ضمة، نحو: ﴿هُوَ وَالَّذِينَ﴾ [البقرة: ٢٤٩]، و ﴿هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [آل عمران: ١٨]، واتَّفقوا على إظهارِ ﴿يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ﴾ [لقمان: ٢٣] من أجل الإخفاء قبلُ. ومعنى المثلين: ما اتفقا مخرجًا وصفة، نحو: ﴿فَاضْرِبْ بِهِ﴾ [ص: ٤٤]، و ﴿رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦]، وشبهِه. والجنسين: ما اتفقا مخرجًا، واختلفا صفةً، نحو: ﴿قَالَتْ طَائِفَةٌ﴾ [الأحزاب: ١٣]، ﴿أَثْقَلَتْ دَعَوَا﴾ [الأعراف: ١٨٩]، وشبهه. والمتقاربين: ما تقاربا مخرجًا أو صفةً، نحو: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٠٢]، و ﴿خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ﴾ [النور: ٤٥]، وشبهه.
﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ أي: الجزاء، ومنه قولُهم: كما تدينُ تُدان.
...
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)﴾.
[٥] ﴿إِيَّاكَ﴾ كلمة ضمير خُصَّت بالإضافة إلى المضمر، وتستعمل مقدَّمًا على الفعل، فيقالُ: إياكَ أعني، ولا تُستعمل مؤخَّرًا، ولا منفصلًا، فيقالُ: ما عنيتُ إلا إياك، وتقديمُها اهتمامًا، وشأنُ العرب تقديمُ الأهم.
﴿نَعْبُدُ﴾ أي: نوحِّدك ونُطيعك خاضعين، والعبادةُ: الطاعةُ مع التذلُّل والخضوع، وسُمِّي العبدُ عبدًا؛ لذلَّته وانقياده.
﴿وَإِيَّاكَ﴾ كرَّرها تأكيدًا للاختصاص.
﴿نَسْتَعِينُ﴾ نطلبُ منك المعونة على عبادتك، وعلى جميع أمورنا، تلخيصه: نخصُّك بالعبادة وطلب المعونة، وهذا كله تبًرٍّ من الأصنام.
...
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)﴾.
[٦] ﴿اهْدِنَا﴾ أي: أرشدنا، وهذا الدعاءُ من المؤمنين -مع كونهم على الهداية- بمعنى التثبيت، وبمعنى طلب مزيد الهداية.
﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الطريقَ الواضحَ، وهو الإسلام، أو القرآن.
قرأ قنبلٌ عن ابن كثير، ورويسٌ عن يعقوبَ (السِّرَاطَ) حيثُ وقعَ، وكيف أتى: بالسين، وهو أصلُ اللفظة، وأشمَّ الصادَ الزايَ حيث وقعَ: خلفٌ عن حمزة، وافقه في (الصَّرَاطَ) هنا خاصة: خلَّادٌ عن حمزة (١)، وكلُّها لغات صحيحة، والاختيارُ الصادُ عندَ أكثرِ القراء؛ لموافقة المصحف.
...
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)﴾.
[٧] ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ﴾ الذين مَنَنْتَ.
(١) انظر: "الحجة" لأبي زرعة (ص: ٨٠)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٠٥)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٦٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦) و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١١)، ووقع في "تفسير البغوي": عن أويس، بدل: عن رويس. والذي ذكر قراءة الإشمام (الزراط) أبو زرعة، وابن مجاهد، والبغوي.
45
﴿عَلَيْهِمْ﴾ عليهم بالهداية والتوفيق، وهم كلُّ من ثبته اللهُ على الإيمان من النبيين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين. قرأ حمزةُ ويعقوبُ (عَلَيْهُمْ) بضم الهاء حيث وقع، والباقون بكسرها، ومنهم: ابنُ كثير، وأبو جعفرٍ، وقالونُ بخلاف عنه (عَلَيْهِمُ) بضم الميم وصلتها بواوٍ حالةَ الوصل، والباقون بإسكان الميم في الحالين (١)، فمن ضمَّ الهاءَ، ردَّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الانفراد، ومن كسرَ لأجلِ الياءِ الساكنةِ، والياءُ أختُ الكسرة.
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ يعني: غيرِ صراط الذين غضبتَ عليهم، وهم اليهودُ، والغضبُ من الله تغييرُ النعمة، وغضبُ الله لا يلحقُ عُصاةَ المؤمنين، إنما يلحق الكافرين.
﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ أي: وغيرِ الضالين عن الهدى، وهم النصارى، والضلالُ: الذهابُ عن الصواب في الدين؛ لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب، فقال: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٦٠]، وحكم على النصارى بالضلالة، فقال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ (٧٧)﴾ [المائدة: ٧٧].
ويسن للقارئ أن يقولَ بعد فراغه من قراءة الفاتحة: آمين مفصولًا عنها
(١) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ١٢٤)، و"السبعة" لابن مجاهد (ص: ١٠٨)، و"المحتسب" لابن جني (١/ ٤٣ - ٤٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ١٢).
46
بسكتة، وهو مخفَّف، ويجوز ممدودًا ومقصورًا، ومعناه: اللهمَّ اسمعْ واستجبْ.
روى أبو هريرةَ وغيرُه عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "إذا قالَ الإمامُ: ولا الضَّالِّينَ، فقولوا: آمين، فإنَّ الملائكةَ تقولُ في السماءِ: آمين، فمن وافقَ قولُه قولَ الملائكة، غُفر له ما تقدَّمَ من ذنبِه" (١).
وليس التأمينُ من القرآن بالاتفاق، بدليل أنه لم يثبت بالمصاحف.
واختلف الأئمةُ في الجهر به في الصلاة الجهرية، فعند أبي حنيفة: يخفيه الإمامُ والمأموم، وعند مالك: لا يؤمِّنُ الإمام في الجهرية، وهو الأفضل عنده، وروي عنه: يؤمِّن ويُسِرُّ كالمأمومِ والمنفردِ، وعندَ الشافعيِّ وأحمدَ: يجهرُ به الإمامُ والمأموم، والله أعلم.
...
(١) رواه البخاري (٤٢٠٥)، كتاب: التفسير، باب: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)﴾ [الفاتحة: ٧]، ومسلم (٤١٠)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
47
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).