تفسير سورة الفاتحة

جهود ابن عبد البر في التفسير

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب جهود ابن عبد البر في التفسير
لمؤلفه ابن عبد البر . المتوفي سنة 463 هـ
سورة الفاتحة
٣- قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا أبو إسماعيل الترمذي قال : حدثنا أبو صالح١ قال : حدثني الليث قال : حدثني محمد ابن العجلان، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :( أيما رجل صلى صلاة بغير قراءة أم القرآن فهي خداج، فهي خداج –غير تمام- قال : قلت : إني لأستطيع أقرأ مع الإمام، قال : اقرأ بها في نفسك، فإن الله يقول قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، وآخرها لعبدي، وله ما سأل ؛ قال :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾، قال : حمدني عبدي، قال :﴿ الرحمان الرحيم ﴾، قال : أثنى علي عبدي، قال :﴿ ملك يوم الدين ﴾، قال : مجدني عبدي، فهذا لي، قال :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾، قال : أخلص العبادة لي واستعانني عليها، فهذه بيني وبين عبدي وله ما سأل، قال :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾، إلى قوله :﴿ ولا الضالين ﴾، هذا لعبدي ولعبدي ما سأل )٢. ( ت : ٢٠/ ١٨٨ ).
٤- قال أبو عمر : أما قوله –صلى الله عليه وسلم- :( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج )، فإن هذا يوجب قراءة فاتحة الكتاب في كل صلاة، وأن الصلاة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج، والخداج : النقص والفساد، من ذلك قولهم : أخدجت الناقة وخدجت : إذا ولدت قبل تمام وقتها، وقبل تمام الخلق، وذلك نتاج فاسد. ( ت : ٢٠/١٩١-١٩٢ ).
٥- أما اختلاف العلماء في هذا الباب، فإن مالكا، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، وداود بن علي، وجمهور أهل العلم، قالوا : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. ( ت : ٢٠/ ١٩٢ ).
١ - هو عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم، أبو صالح مولى جهينة من أهل مصر، وهو كاتب الليث بن سعد، سمع من عبد الله بن لهيعة، والليث بن سعد، ومعاوية بن صالح.. وروى عنه جماعة من الأئمة منهم: أبو عبيد القاسم بن سلام، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعامة الشيوخ المصريين، توفي سنة ٢٢٢هـ انظر تاريخ بغداد: ٩/ ٤٧٨- ٤٨١..
٢ - هو عند الإمام مالك في الموطأ، كتاب الصلاة، باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة: ٥٣. وأخرجه أيضا الإمام مسلم في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة: ١/٢٩٦. وأبو داود في الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب: ١/٢١٦-٢١٧، والترمذي في التفسير: ٤/٢٦٩. والنسائي في الافتتاح، باب البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة ٢/١٣٥- ١٣٦. وابن ماجة في الأدب، باب ثواب القرآن: ٢/١٢٤٣. والإمام أحمد: ٢/٢٤١- ٢٤٢..
البسملة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال ابن عبد البر١ :
١- للعلماء في }بسم الله الرحمن الرحيم }، أقاويل، فجملة مذهب مالك وأصحابه أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا من غيرها، وليست من القرآن إلا في سورة النمل٢، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ؛ في فاتحة الكتاب ولا في غيرها سرا ولا جهرا. قال مالك : ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة من يعرض القرآن عرضا، وقول الطبري في }بسم الله الرحمن الرحيم }، مثل قول مالك سواء في ذلك كله.
وللشافعي في ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾، قولان٣، أحدهما : أنها آية من فاتحة الكتاب دون غيرها من السور التي أثبتت في أوائلها. والقول الآخر : هي آية في أول كل سورة. وكذلك اختلف أصحابه على القولين جميعا.
وقال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأبو عبيد٤ : هي آية من فاتحة الكتاب.
وأما أصحاب أبي حنيفة، فزعموا أنهم لا يحفظون عنه هل هي آية من فاتحة الكتاب أم لا ؟ ومذهبه يقتضي أنها ليست آية من فاتحة الكتاب ؛ لأنه يسر بها في الجهر والسر.
وقال داود : هي آية من القرآن في كل موضع وقعت فيه، وليست من السور، وإنما هي آية مفردة غير ملحقة بالسور. ( ت : ٢٠/ ٢٠٦- ٢٠٧ ).
٢- قال أبو عمر٥ : العلاء بن عبد الرحمان ثقة، روى عنه جماعة من الأئمة، ولم يثبت فيه لأحد حجة، وهو حجة فيما نقل – والله أعلم، وحديثه٦ في هذا الباب يقضي بأن ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾، ليست آية من فاتحة الكتاب، وهو نص في موضع الخلاف لا يحتمل التأويل، وقد أمر الله عند التنازع بالرجوع إلى الله وإلى رسوله -وقد اختلف السلف في هذا الباب، وسلك الخلف سبيلهم في ذلك، واختلفت الآثار فيه. وحديث العلاء هذا قاطع لتعلق المتنازعين، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب- إن شاء الله، والله الموفق للصواب.
١ - سأستغني عن هذه العبارة فيما سيأتي من نصوص، لأن كل قول بعد رقم النص هو لابن عبد البر..
٢ - يشير إلى قوله تعالى: ﴿إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم﴾ الآية: ٣٠. والبسملة هنا جزء من آية وليست آية كاملة..
٣ - قال الحافظ ابن كثير: "وهما غريبان". تفسير ابن كثير: ١/١٧..
٤ - هو القاسم بن سلام أبو عبيد الإمام، سمع سفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم، وأخذ عنه محمد عنه بن إسحاق الصاغاني، ومحمد بن يحيى المروزي، وعلي بن عبد العزيز البغوي وغيرهم. توفي سنة ٢٢٤ هـ، انظر تاريخ بغداد: ١٢/٤٠٣- ٤١٦. وسير أعلام النبلاء: ١٠/ ٤٩٠- ٥٠٩..
٥ - يقصد نفسه..
٦ - هو الحديث الذي أخرجه الإمام مالك، عن العلاء بن عبد الرحمان –أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، هي خداج، هي خداج- غير تمام. قال: فقلت: يا أبا هريرة، إني أكون أحيانا وراء الإمام؟ قال: فغمز ذراعي وقال: إقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: (قال الله – عز وجل-: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي- ولعبدي ما سأل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأوا: يقول العبد: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾، يقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: ﴿الرحمان الرحيم﴾، يقول الله: أثنى علي عبدي، يقول العبد: ﴿ملك يوم الدين﴾، يقول الله مجدني عبدي، يقول العبد: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾، فهذه الآية بيني وبين عبدي- ولعبدي ما سأل؛ يقول العبد: ﴿اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم. غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾، فهؤلاء لعبدي- ولعبدي ما سأل). الموطأ، كتاب الصلاة، باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة: ٥٣..
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).