تفسير سورة الفاتحة

مجاز القرآن

تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب مجاز القرآن
لمؤلفه أبو عبيدة . المتوفي سنة 210 هـ

بِسمِ اللهِ الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ

﴿ بسم الله ﴾ إنما هو بالله لأن اسم الشيء هو الشيء بعينه، قال لبيد :
إلَى الَحوْلِ ثُمَّ اسمُ السَّلامِ عليكما ومن يَبْكِ حَولاً كاملاً فقدِ اعتَذَرْ
﴿ إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ " ٧٥/١٧ " : أي تأليفه ؛ ﴿ فإذَا قَرَأْنَاهُ ﴾ " ٧٥/١٨ " أي إذا جمعناه ؛ ومجازه مجاز قول عَمْرو بن كُلْثوم :
هِجانِ اللَوْن لم تَقْرأ جَنينا ***
أي لم تضمَّ في رحمها، ويقال للتي لم تلد : ما قرأَتْ سَلًى قطّ.
نزل القرآن بلسان عربي مُبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أَعظم القول، ومن زعم أن ﴿ طه ﴾ " ٢٠ " بالنَّبطِيّة فقد أكبر، وإن لم يعلم ما هو، فهو افتتاح كلام وهو اسم للسورة وشعار لها. وقد يوافق اللفظُ اللفظَ ويقاربه ومعناهما واحد، وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها. فمن ذلك الإسْتبْرَق بالعربية، وهو الغليظ من الدِّيباج، والفِرِند، وهو بالفارسية إسْتَبْرَهْ ؛ وكَوْز وهو بالعربية جوز ؛ وأشباه هذا كثير. ومن زعم أن ﴿ حِجَارةً مِنْ سِجِّيلٍ ﴾ " ١٠/٥٤ " بالفارسية فقد أعظم، من قال : إنه سَنْك وكِلْ إنما السجيل الشديد.
والقرآن : اسم كتاب الله، لا يسمَّى به غيرهُ من الكتب، وذلك لأنه جَمَع وضمَّ السور ؛ ومجازه من قوله :﴿ إنَّ علَينا جَمْعَه وقُرْآنَه ﴾ " ٧٥/١٨ "، أي تأليف بعضه إلى بعض، { فإذا قَرَأْنَاهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَه " ؛ وسُمِّى الفرقانَ لأنه يفرق بين الحق والباطل والمؤمن والكافر.
ففي القرآن ما في الكلام العربيّ من الغريب والمعاني، ومن المحتمِل من مجاز ما اختُصِر، ومجاز ما حُذف، ومجاز ما كفَّ عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع ووقع معناه على الاثنين، ومجاز ما جاء لفظه خبر الجميع على لفظ خبر الواحد، ومجاز ما جاء الجميع في موضع الواحد إذا أُشرك بينه وبين آخر مفرد، ومجاز ما خُبّر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للواحد أو للجميع وكُفَّ عن خبر الآخر، ومجاز ما خُبّر عن اثنين أو أكثر من ذلك، فجعل الخبر للأول منهما، ومجاز ما خُبّر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للأخر منهما، ومجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والمَوَات على لفظ خبر الناس ؛ والحيوانُ كل ما أكل من غير الناس وهي الدواب كلُّها، ومجاز ما جاءت مخاطبتهُ مخاطبة الغائب ومعناه مخاطبة الشاهد، ومجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تُركت وحوّلت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، ومجاز ما يزاد من حروف الزوائد ويقع مجازُ الكلام على إلقائهن، ومجاز المضمر استغناءً عن إظهاره، ومجاز المكرر للتوكيد، ومجاز المجمل استغناءً عن كثرة التكرير، ومجاز المقدَّم والمؤخَّر، ومجاز ما يحوّل من خبره إلى خبر غيره بعد أن يكون من سببه، فيجعل خبره للذي من سببه ويترك هو. وكل هذا جائز قد تكلموا به.

بِسمِ اللهِ الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ

أُمُّ الكتاب
مجاز تفسير ما في سورة ﴿ الحمد ﴾ وهي ﴿ أم الكتاب ﴾ لأنه يبُدأ بكتابتها في المصاحف قبل سائر القرآن، ويبدأ بقراءتها قبل كلّ سورة في الصلاة ؛ وإنما سُمِّيت سورةً لا تُهمز، لأن مجازها من سُور البناء أي منزلة ثم منزلة، ومَن همزها جعلها قطعةً من القرآن، وسميت السورة لأنها مقطوعة من الأخرى، فلما قرن بعضها إلى بعض سُمِّى قرآنا. قال النَّابغة :
ألم تر أَن الله أعطاك سورةً ترى كلَّ مَلْك دونَها يتَذبذبُ
أي منزلة، وبعضُ العرب يهمز سورة، ويذهب إلى { أسأرتُ ". نقول : هذه ليست من تلك.
فمجاز تفسير قوله ﴿ بسم الله ﴾ مضمر، مجازه كأنك قلت : بسم الله قبل كل شيء وأول كل شيء ونحو ذلك، قال عبد الله بن رَوَاحة :
بسم الإله وبه بَدِينا ولو عبَدْنا غيرَه شَقِينا
يقال : بدأتُ وبدَيت، وبعضهم يقول : بدِينا لغة.
﴿ الرَّحْمَن ﴾ مجازه ذو الرحمة، و﴿ الرَّحِيم ﴾ مجازه الراحم، وقد يقدّرون اللفظين من لفظ واحد والمعنى واحد، وذلك لاتّساع الكلام عندهم، وقد فعلوا مثل ذلك فقالوا : ندمان ونديم، قال بُرْج بن مُسْهِر الطائيّ، جاهلي :
ونَدْمانٍ يزيد الكأسَ طِيباً سَقيتُ وقد تغوَّرت النجومُ
وقال النُعْمان بن نَضْلَة، عَدويُّ من عَدي قُريش :
فإن كنتَ نَدْماني فبالأكبر أسْقِني ولا تَسقِني بالأصغر المُتَثلْمِ
وقال بُرَيق الهذليّ عدَوَيّ من عَدي قريش :
رُزينا أبا زيدٍ ولا حيَّ مِثْلَه وكان أبو زيد أخي ونديميِ
وقال حَسّان بن ثابت :
﴿ رَبِّ العَالمِين ﴾ " ٢ " أي المخلوقين، قال لبيد بن ربيعة :
لا أخدِشُ الخَدْش ولا يَخْشَى نَدِيمي إذا انتشيتُ يَدِي
ما إن رأيتُ ولا سمع تُ بمثلهم في العالمَينا
وواحدهم عالَم، وقال العجّاج :
فَخِنْدِفٌ هامةُ هذا العالِمَ ***
﴿ مَالِك يَوْمِ الدِّين ﴾ ﴿ ٤ ﴾ نصب على النِّداء، وقد تُحذف ياء النداء، مجازه : يا مالك يوم الدين، لأنه يخاطب شاهداً، ألا تراه يقول :﴿ إيّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ﴿ ٥ ﴾ فهذه حجة لمن نصب، ومن جره قال : هما كلامان.
﴿ الدِّين ﴾ ﴿ ٤ ﴾ الحساب والجزاء، يقال في المثل :﴿ كما تَدين تُدان ﴾، وقال ابن نُفيل
واعلمْ وأَيقِن أنّ مُلككَ زائل واعلم بأنَّ كما تَدِين تُدانُ
ومجازُ مَن جرّ ﴿ مَالِك يَوْمِ الدِّين ﴾ أنه حدّث عن مخاطبة غائب، ثم رجع فخاطب شاهداً فقال :﴿ إيَّاكَ نَعْبُد وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا ﴾ " ٥-٦ "، قال عَنْترة بن شَدّاد العَبْسِيّ :
شَطّتْ مَزَارَ العاشقين فأصبحتْ عَسِراً علىَّ طِلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ
وقال أبو كبير الهذليّ :
يا لَهْفَ نفسي كان جِدّةُ خالدٍ وبَياضُ وَجْهك للتُّراب الأَعْفرِ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤:﴿ مَالِك يَوْمِ الدِّين ﴾ ﴿ ٤ ﴾ نصب على النِّداء، وقد تُحذف ياء النداء، مجازه : يا مالك يوم الدين، لأنه يخاطب شاهداً، ألا تراه يقول :﴿ إيّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ﴿ ٥ ﴾ فهذه حجة لمن نصب، ومن جره قال : هما كلامان.
﴿ الدِّين ﴾ ﴿ ٤ ﴾ الحساب والجزاء، يقال في المثل :﴿ كما تَدين تُدان ﴾، وقال ابن نُفيل
واعلمْ وأَيقِن أنّ مُلككَ زائل واعلم بأنَّ كما تَدِين تُدانُ
ومجازُ مَن جرّ ﴿ مَالِك يَوْمِ الدِّين ﴾ أنه حدّث عن مخاطبة غائب، ثم رجع فخاطب شاهداً فقال :﴿ إيَّاكَ نَعْبُد وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا ﴾ " ٥-٦ "، قال عَنْترة بن شَدّاد العَبْسِيّ :
شَطّتْ مَزَارَ العاشقين فأصبحتْ عَسِراً علىَّ طِلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ

وقال أبو كبير الهذليّ :
يا لَهْفَ نفسي كان جِدّةُ خالدٍ وبَياضُ وَجْهك للتُّراب الأَعْفرِ


ومجاز ﴿ إيّاك نَعْبُد ﴾ : إذا بُدئ بكناية المفعول قبل الفعل جاز الكلام، فإن بدأتَ بالفعل لم يجز، كقولك : نعبد إياك، قال العجّاج :
إيّاك أدعو فتقَّبلْ مَلَقِى ***
ولو بدأتَ بالفعل لم يَجز كقولك : أدعو إيّاك، محالٌ، فإن زدتَ الكناية في آخر الفعل جاز الكلام : أدعوك إياك.
﴿ الصِّرَاط ﴾ " ٦ " : الطريق، المنهاج الواضح، قال :
فصدّ عن نَهْج الصِّراط القَاصِدِ ***
وقال جرير :
أميرُ المؤمنين على صراطٍ إذا أعوجَّ المواردُ مستقيمِ
والموارد : الطرق، ما وردتَ عليه من ماء، وكذلك القَرِىُّ وقال :
وَطِئنا أرضهم بالخَيْل حتى تركناهم أذلَّ من الصراطِ
﴿ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهم وَلاَ الضَّالِّين ﴾ " ٧ " مجازها : غير المغضوب عليهم والضالين، و﴿ لا ﴾ من حروف الزوائد لتتميم الكلام، والمعنى إلقاؤها، وقال العجاج :
في بئرِ لا حُورٍ سَرَى وما شَعَرْ
أي في بئر خور أي هلكة، وقال أبو النجم :
فما ألوم البيضَ ألا تَسخَرا لمّا رأين الشَّمَطَ القَفَنْدَرا
القَفَندر : القبيح الفاحش، أي فما ألوم البيض أن يسخرن، وقال :
ويَلْحَيْننَى في اللَهْو أَلاّ أُحبّه ولِلَّهو داعٍ دائبٌ غير غافلِ
والمعنى : ويَلحَيْنَنى في اللهو أن أحبه. وفي القرآن آية أخرى :﴿ ما مَنَعَك أَلاّ تَسْجُدَ ﴾ " ٧١١ " مجازها : ما منعك أن تسجد. ﴿ ولا الضَّالِّين ﴾ :﴿ لا ﴾ تأكيدٌ لأنه نفيٌ، فأُدخلت ﴿ لا ﴾ لتوكيد النفي، تقول : جئت بلا خير ولا بركة، وليس عندك نفع ولا دَفع.
قال أبو خِراش :
فإنكِ لو أبصرتِ مَصْرَعَ خالدٍ بجنب السِّتار بين أظْلَمَ فالحَزْمِ
إذاً لرأيتِ النَّابَ غيرَ رَزِيّةٍ ولا البَكْرَ لأضطمَّتْ يداكِ على غُنْم
سورة الفاتحة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفاتحةِ) أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم، خصَّ الله بها نبيَّه ﷺ من دون الأنبياء، فلم يُؤتَها أحدٌ قبلَه، وهي من أوائل السُّور التي نزلت في مكَّةَ المكرَّمة، وهي (القرآنُ العظيمُ) الذي أُوتيَهُ النبيُّ ﷺ، بها افتُتح الكتاب؛ ولهذا سُمِّيت بـ(الفاتحةِ)، وقد حُقَّ لها أن تكونَ فاتحةً لهذا الكتاب العظيم؛ فقد اشتملت على مقاصدِ الدِّين، وعلى كلِّ أنواع التوحيد (الرُّبوبية، والألوهية، والأسماء والصفات)؛ فجاءت أُمًّا للكتاب، وأصلًا له، وجامعةً لمقاصدِه. ولعظيمِ شأنها، وعظيم ما اشتملت عليه؛ فإنه يُفترض على كُلِّ مسلمٍ أن يقرَأَها كُلَّ يومٍ (17) مرةً في الصلوات المفروضات؛ فلا تصحُّ صلاةُ عبدٍ إلا بها، وكان ﷺ يقطِّعُها آيةً آية؛ وهذا أدعى للتدبُّر.

ترتيبها المصحفي
1
نوعها
مكية
ألفاظها
29
ترتيب نزولها
5
العد المدني الأول
7
العد المدني الأخير
7
العد البصري
7
العد الكوفي
7
العد الشامي
7

أُطلِقَ على هذه السُّورةِ الكريمة أسماءٌ كثيرة؛ منها:

* (الفاتحةُ)، أو (فاتحة الكتاب):

دلَّ على ذلك حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما: أن جِبْريلَ قال للنبي ﷺ: «أبشِرْ بنُورَينِ أُوتِيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطِيتَه». أخرجه مسلم (806).

* (أمُّ الكتاب)، أو (أمُّ القرآن):

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسَّبْعُ المَثَاني». أخرجه أبو داود (١٤٥٧).

* (السَّبْعُ المَثَاني):

دلَّ على ذلك حديثُ النبي ﷺ، قالَ: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}: هي السَّبْعُ المَثَاني والقُرْآنُ العظيمُ الذي أُوتِيتُهُ». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* سورة (الصَّلاة):

فعن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6-7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ». أخرجه مسلم (395).

* سورة (الرُّقْية):

دلَّ عليه حديثُ النبي ﷺ أنه قال: «وما أدراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ». أخرجه البخاري (5736).

وثمَّةَ أسماءٌ أخرى، أوصلها السيوطيُّ إلى (25) اسمًا. ينظر: "الإتقان في علوم القرآن" (1 /52، 53).

* أفضَلُ سورةٍ في القرآن الكريم:

فعن أبي سعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: «كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ ﷺ، فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أُصلِّي، فقال: «ألَمْ يقُلِ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْۖ} [الأنفال: 24]»، ثم قال لي: «لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجدِ»، ثم أخَذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ، قلتُ له: ألَمْ تقُلْ: لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القرآنِ؟! قال: «{اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}؛ هي السَّبْعُ المَثَاني والقرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه»». أخرجه البخاري (٤٤٧٤).

* خُصَّ بها النبيُّ ﷺ دون غيرِه من الأنبياء:

لِما رواه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: «بينما جِبْريلُ قاعدٌ عند النبيِّ ﷺ، سَمِع نَقِيضًا مِن فوقِه، فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ مِن السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزَل منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَكٌ نزَل إلى الأرضِ، لم يَنزِلْ قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنُورَينِ أُوتيتَهما، لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةِ الكتابِ، وخواتيمِ سورةِ البقرةِ، لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَهُ». أخرجه مسلم (806).

* لا تصحُّ الصلاةُ إلا بها:

لِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرأْ فيها بأُمِّ القرآنِ، فهي خِدَاجٌ - ثلاثًا - غيرُ تمامٍ»، فقيل لأبي هُرَيرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}، قال اللهُ تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، قال: مجَّدني عبدي، (وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ اْلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اْلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا اْلضَّآلِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». أخرجه مسلم (395).

* مِن أعظَمِ ما يَرقِي به المؤمنُ نفسَه سورةُ (الفاتحة):

فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: «أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ أتَوْا على حيٍّ مِن أحياءِ العرَبِ، فلم يَقْرُوهم، فبينما هم كذلك، إذ لُدِغَ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم مِن دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكم لم تَقْرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعَلوا لنا جُعْلًا! فجعَلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاءِ، فجعَلَ يقرأُ بـ(أمِّ القرآنِ)، ويَجمَعُ بُزاقَهُ ويتفُلُ، فبرَأَ، فأتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذُه حتى نسألَ النبيَّ ﷺ، فسألوه، فضَحِكَ، وقال: «وما أدراك أنَّها رُقْيةٌ؟! خُذوها، واضرِبوا لي بسَهْمٍ»». أخرجه البخاري (5736).

* تعلَّقتْ هذه السُّورةُ بشكلٍ يومي بقراءة النبيِّ ﷺ في صلواته:

فقد كان يقطِّعُ آياتِها آيةً آية؛ كما وصَفتْ لنا أمُّ سلمةَ رضي الله عنها قراءةَ النبي ﷺ، فقالت: «قراءةُ رسولِ اللَّهِ ﷺ: {بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ١ اْلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ ٢ اْلرَّحْمَٰنِ اْلرَّحِيمِ ٣ مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}؛ يقطِّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً». أخرجه أبو داود (٤٠٠١).

اشتمَلتْ هذه السُّورةُ على عدَّةِ موضوعات هي أصولٌ عظيمة للقرآن الكريم، ملخِّصةٌ لِما فيه؛ بيانها كما يلي:

أولًا: الألوهيَّة.

ثانيًا: اليوم الآخر.

ثالثًا: توحيد العبادة، والاستعانةِ بالله وحدَه (توحيد الرُّبوبية).

رابعًا: الهداية إلى الصراط المستقيم، والالتزام به، وبيان هذا الصراط.

وفي ذلك يقول السعديُّ - رحمه الله -: «فقد تضمَّنتْ - أي الفاتحةُ - أنواعَ التَّوحيد الثَّلاثة:

توحيد الرُّبوبية؛ يؤخذ من قوله: {رَبِّ اْلْعَٰلَمِينَ}.

وتوحيد الألوهيَّة: وهو إفرادُ الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: {اْللَّهِ}، ومِن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وتوحيد الأسماء والصفات: وهو إثباتُ صفات الكمال لله تعالى، التي أثبَتها لنفسه، وأثبتها له رسولُه ﷺ؛ مِن غير تعطيلٍ، ولا تمثيل، ولا تشبيه؛ وقد دل على ذلك: لفظُ: {اْلْحَمْدُ}.

وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}، وأنَّ الجزاءَ يكون بالعدل.

وتضمَّنتْ إخلاصَ الدِّين لله تعالى - عبادةً واستعانة - في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وتضمَّنتْ إثباتَ النُّبوة في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنِعٌ بدون الرسالة.

وتضمَّنتْ إثباتَ القَدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً.

وتضمَّنتِ الردَّ على جميع أهل البِدَع والضَّلال في قوله: {اْهْدِنَا اْلصِّرَٰطَ اْلْمُسْتَقِيمَ}؛ لأنه معرفةُ الحقِّ، والعملُ به، وكلُّ مبتدِع وضالٍّ فهو مخالِف لذلك». "تيسير الكريم الرَّحمن" للسعدي (ص17).

بسببِ ما لهذه السورةِ من فضائلَ عظيمة، جاءت مقاصدُها جامعةً لأمور الدِّين كلِّه؛ فكانت مقاصدُها على النحو الآتي:

أولًا: الثناء على الله ثناءً جامعًا لوصفِه بجميع المحامد، وتنزيهِه عن جميع النقائص؛ وهذا يدلُّ على توحيد الألوهية، ويدل على تفرُّده بالإلهية، وإثباتِ البعث والجزاء؛ وذلك من قوله: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله: {مَٰلِكِ يَوْمِ اْلدِّينِ}.

ثانيًا: الأوامرُ والنَّواهي؛ من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ وفي هذا توحيدُ الرُّبوبية والعبادة.

ثالثًا: الوعدُ والوعيد؛ من قوله: {صِرَٰطَ اْلَّذِينَ} إلى آخرها.

فهذه هي أنواعُ مقاصدِ القرآن كلِّه، وغيرُها تكملاتٌ لها؛ لأن القصدَ من القرآن إبلاغُ مقاصدِه الأصلية؛ وهي: صلاحُ الدارَينِ؛ وذلك يحصُلُ بالأوامر والنَّواهي.

ولمَّا توقَّفتِ الأوامرُ والنَّواهي على معرفة الآمِرِ، وأنه اللهُ الواجبُ وجودُه خالقُ الخَلق: لَزِم تحقيقُ معنى الصفات.

ولمَّا توقَّف تمامُ الامتثال على الرجاءِ في الثواب، والخوف من العقاب: لَزِم تحقُّقُ الوعد والوعيد.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (1 /133).