فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب؛ فأعجز بلغاء المعاندين عن معارضته، ولم يَسَعْهُمْ إلا الإذعان، سواء في ذلك من آمن منهم، مثل: لبيد بن ربيعة، وكعب بن زهير، والنابغة الجعدي، ومن استمر على كفره عناداً مثل: الوليد بن المغيرة؛ فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودعها البلغاء في كلامهم، وهو لكونه كتابَ تشريعٍ، وتأديب، وتعليم كان حقيقاً بأن يودع فيه من المعاني، والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ في أقل ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغةُ الواردُ هو بها التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات؛ ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى؛ فمعتادُ البلغاءِ إيداعُ المتكلمِ معنىً يدعوه إليه غرضُ كلامِه، وتركُ غيره، والقرآنُ ينبغي أن يودع من المعاني كُلَّ ما يحتاج السامعون إلى علمه، وكل ما له حظ في البلاغة سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصوداً، وكان ما هو أدنى منه مراداً معه لا مراداً دونه، سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور، أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض، ولو أن تبلغ حد التأويل، وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح.
أما إذا تساوى المعنيان فالأمر أظهر، مثل قوله _تعالى_: [وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً] أي ما تيقنوا قتله ولكن توهموه، أو ما أيقن النصارى الذين اختلفوا في قتل عيسى علم ذلك يقيناً بل فهموه خطأ.