وأنا عاذرٌ المتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول، فاستكثروا منها بأن كل من يتصدى لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه؛ فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته؛ ليذكي قبسه، ويمد نفسه؛ فيرضى بما يجد رضى الصبِّ بالوعد، ويقول: زدني من حديثك يا سعد غير هياب لعاذل، ولا متطلب معذرة عاذر، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب.
ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة؛ فأثبتوها في كتبهم، ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفاً، حتى أوهموا كثيراً من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم؛ فإن القرآن جاء هادياً إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح؛ فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام.
نعم إن العلماء توجسوا منها، فقالوا إن سبب النزول لا يخصَّص، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها، ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من ذلك ضر على عمومها؛ إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا: =العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب+.
ولكن أسباباً كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو إلجاء إلى محمل، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها. ١/٤٦
٢_ وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم؛ فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين. ١/٥٠