فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثله، أو قذفٍ، أو قتل أولاد أو نساءٍ، أو نقض عهدٍ، أو ما أشبه ذلك. (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى): نهاهم أوّلاً أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل؛ تأكيداً وتشديداً، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل، وهو قوله: (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي: العدل أقرب إلى التقوى، وأدخل في مناسبتها، أو: أقرب إلى التقوى لكونه لطفاً فيها. وفيه تنبيهٌ عظيمٌ على أن وجود العدل مع الكفار الذين هم أعداء اللَّه إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟ (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ): بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنه قال: قدّم لهم وعداً فقيل: أي: شيء وعده لهم؟ فقيل: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو: أقرب إلى التقوى) أي: أنتم متقون والعدل أنسب إليكم من غيركم، أو: أنتم طالبون للتقوى فاعدلوا فإنه سبب فيها ووسيلة إليها، وهو المراد من قوله: "لكونه لطفاً فيها".
الراغب: إن قيل: كيف قال: ﴿أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ و"أفعل" إنما تقال في شيئين اشتركا في أمر واحد لأحدهما مزية؟ وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من جملة العدالة، فما معنى قوله: ﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾؟ قيل: إن "أفعل"- وإن كان كما ذكرت -وقد تستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعاً لكلامه وإظهاراً لتبكيته، فيقال لمن اعتقد مثلاً في زيد فضلاً، وإن لم يكن فيه فضل، ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمراً أفضل منه، فقال: اخدم عمراً هو أفضل من زيد، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: ٥٩] وقد عُلم أن لا خير فيما يشركون.
قوله: (كأنه قال: قدم لهم وعدا) يعني: لما كان قوله: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ بياناً لقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ على سبيل الاستئناف، وكان الواجب


الصفحة التالية
Icon