البحر المحيط، ج ٩، ص : ٣٦٩
قال يا رب بل متعت. وقرأ الأعمش : متعنا، بنون العظمة، وهي تعضد قراءة الجمهور.
حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ، وهو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ، هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال الزمخشري : فإن قلت : فما وجه من قرأ : بل متعت، بفتح التاء؟ قلت : كأن اللّه تعالى اعترض على ذاته في قوله : وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد. وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادا، فمثاله : أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه، ثم يقبل على نفسه فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله.
فإن قلت : قد جعل مجيء الحق والرسول غاية للتمتيع، ثم أردفه قوله : وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ، فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت : المراد بالتمتيع : ما هو سبب له، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته. فقال عز وعلا : بل اشتغلوا عن التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه.
ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال : وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ، جاءوا بما هو شرّ من غفلتهم التي كانوا عليها، وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق، ومكابرة الرسول ومعاداته، والاستخفاف بكتاب اللّه وشرائعه، والإصرار على أفعال الكفرة، والاحتكام على حكمة اللّه في تخير محمد صلى اللّه عليه وسلم من أهل زمانه بقولهم : لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم. انتهى، وهو حسن لكن فيه إسهاب. والضمير في : وقالوا، لقريش، كانوا قد استبعدوا أن يرسل اللّه من البشر رسولا، فاستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى، وغيرهم من الرسل صلى اللّه عليهم. فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع، ناقضوا فيما يخص محمدا صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : لم كان محمدا، ولم يكن القرآن ينزل على رجل من القريتين عظيم؟ أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال. وقرىء : على رجل، بسكون الجيم. من القريتين : أي من إحدى القريتين. وقيل : من رجل القريتين، وهما مكة والطائف. قال ابن عباس : والذي من مكة :
الوليد بن المغيرة المخزومي، ومن الطائف : حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي. وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة، وكنانة بن عبد ياليل. وقال قتادة : الوليد بن المغيرة، وعروة بن


الصفحة التالية
Icon