المتكلم منها شيئا، ففي الآية المذكورة استوفي قسمي رؤية البرق إذ لبس فيها إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار كما ألمعنا في الاعراب ولا ثالث لهذين القسمين ولكن مجرد استيفاء الأقسام لا يعتبر بيانا بل هناك أمر أبعد من ذلك وأدق وأبعد منالا وهذا الأمر هو تقديم ما هو أولى بالذكر وأجدر بالتقديم وفي الآية قدم الخوف على الطمع إذ كانت الصواعق يجوز وقوعها من أول برقة ولا يحصل المطر إلا بعد تواتر الا براق لأن تواتره لا يكاد يخلف ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة وتنتجع فلا تخطى ء الغيث والكلأ وقد رمق أبو الطيب سماء هذه البلاغة العالية فقال :
و قد أرد المياه بغير هاد سوى عدي لها برق الغمام
يقول : لا أحتاج في ورود الماء الى دليل يدلني سوى أن أعد برق الغمام فأتبعه كعادة العرب في عدها بروق الغمام، قال ابن السكيت :
« العرب إذا عدت مائة برقة لم تشك في أنها ماطرة قد سقت فتتبعها على الثقة بالمطر » وقال ابن الاعرابي في النوادر :« العرب كانوا إذا لاح البرق عدوا سبعين برقة فإذا كملت وثقوا بأنه برق ماطر فرحلوا يطلبون موضع الغيث، وأنشد عمر بن الأعور :
سقى اللّه جيرانا حمدت جوارهم كراما إذا عدّوا وفوق كرام
يعدون برق المزن في كل مهمه فما رزقهم إلا بروق غمام
إعراب القرآن وبيانه، ج ٥، ص : ١٠١
و لما كان الأمر المخوف من البرق يجوز وقوعه من أول برقة واحدة أتى ذكر الخوف في الآية مقدما أولا لكون الواحد أول العدد ولما كان الأمر المطمع من البروق إنما يقع بعد عدد من الابراق أتى ذكر الطمع تاليا لكونه لا يقع إلا في أثناء العدد وليكون الطمع ناسخا للخوف كمجي ء الرخاء بعد الشدة، والفرج بعد الكربة، والمسرة بعد الحزن، فيكون ذلك أحلى موقعا في القلوب ويشهد لهذا التفسير قوله :
« و هو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحتمه » فجاء معنى الآية على ما جاء رحمة من اللّه سبحانه بخلقه وبشرى لعباده.