آيات من القرآن الكريم

لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً
ﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗ ﯙﯚ ﯜﯝ ﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶ

وصف أهل الجنة جعلنا الله من أهلها، قال تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ» ٨ أهلها، وهذا أيضا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، منعمة برضاء الله وجنته «لِسَعْيِها» الذي فعلته بالدنيا «راضِيَةٌ» ٩ به لما رأت حسن جزائه فى الآخرة لأنه «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» ١٠ لا يدرك الطرف مداها
«لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» ١١ في لهو وباطل بل كل ألسنتها التسبيح والتهليل والتحميد والتسليم «فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ» ١٢ إلى حيث أراد طلبها بمجرد إشارة منه دون تكلف ما لا تحتاج لجر أنابيب ووضع رافعات وصبابات، وهذا للشرب والنظارة و «فِيها» للجلوس والنوم «سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ» ١٣ أنشأها الله لعباده، وناهيك بشيء ينشئه الله، فصف من حسنها وماهيتها وعلوها وزخرفها ما شئت فلن تدرك حقيقتها ولن تقدر أن تحيط علما بها لأنها من مصنوعات الله، وسبب ارتفاعها ليشرف من عليها على ما خوّله ربه من الملك الواسع والنعيم الشاسع «وَأَكْوابٌ» طوس مستديرة وأكواز بلا عرى من فضة وذهب كما يشعر بعظمها التنوين «مَوْضُوعَةٌ» ١٤ بعضها جنب بعض على حواف الأعين الجارية مملوءة مهينة للشرب بقدر ما يشرب الشارب «وَنَمارِقُ» وسائد، قال زهير:
كهولا وشبانا حسابا وجوههم... على سرر مصفوفة ونمارق
يؤيد هذا التفسير قوله تعالى «مَصْفُوفَةٌ» ١٥ بعضها لبعض للاتكاء عليها، وهذا أحسن من تأويلها بمطارح، لأن الصف عادة أكثر استعمالا في الوسائد، وما جاء في قولهن:
نحن بنات طارق... نمشي على النمارق
لم يرد بها الوسائد لأنها لا يمشى عليها بل يراد منها ما بينه الله بقوله «وَزَرابِيُّ» وهي ما نسميها الآن سجّادا وأحسن أنواعه شغل العجم، أما هذا فهو من إبداع المبدع، وهو فوق ما نتصوره، فاسع أن تكون أهلا بأن تمشي وتجلس عليه «مَبْثُوثَةٌ» ١٦ مبسوطة متفرقة في الغرف والباحات والأبهاء والساحات ومحال النزه وغيرها بحيث أينما أردتها وجدتها بالغرف والجنان والصحارى.

صفحة رقم 158

مطلب في الإبل وما ينبغي أن يعتبر به، والتحاشي عن نقل ما يكذبه العامة:
وبعد أن وصف الله النار والجنة وأهلهما التفت إلى عباده حدثا لهم على الاعتبار في بعض مخلوقاته التي هي بين أيديهم ومسخرة لهم، فقال جل قوله «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» ٧ والإبل جمع لا واحد له من لفظه ومفردها جمل وبعير وناقة وقعود، ويجمع الجمل على جمال، والبعير على أباعر وأبعر وبعران، والقعود على قعدان، والناقة على نياق ونوق، وإنما خص الإبل لأنها من أنفس أموال العرب إذ ذاك وحتى الآن عند أهل البادية، وأعزّها عليهم، ولها مكانة عندهم حتى انهم يتفاخرون فيها، ولم يروا قبل أعظم منها للركوب والحمل والأكل، ولهم فيها منافع كثيرة، وذلك أنهم أنكروا ما وصفه الله من الجنة والنار وأهلهما فذكرهم الله بهذا النوع من مخلوقاته العجيبة الصنع المذللة لهم، مع أنها أقوى منهم ليعلموا أن الذي خلقها قادر على خلق ما وصف في الجنة والنار ليسترشدوا بذلك.
هذا وان الفيل مما يعرفونه أيضا وهو أقوى من الإبل، إلا أنه لا منافع فيه مثل ما في الإبل ولم يطلعوا عليه كلهم، ولأنه لا يؤكل، ولا لبن له ولا صوف، وليس بلين الجانب كالإبل تقودها الأولاد وتعقلها المرأة، وتقنى للزينة والتجارة والركوب والدر، وتحمل الأثقال وفيها خواص لا توجد بغيرها، كاحتمالها العطش والمشاق في السفر، وتحمّل وهي باركة، وترعى من النبات ما لا يرعاه غيرها، والفيل خلو من هذه الصفات، وقد اخترع القبان منها بالنظر لسرتها وطول عنقها، ولها ميزة في خلقها وتركيب أعضائها وتأثرها بالصوت الحسن حتى انها قد تودي بحياتها من شدة طيّها المسافة البعيدة عند سماعها الحداء، ولها من الشفقة على أولادها ما لم يوجد عند غيرها، كما أن عندها من الحقد ما يقابل ذلك على من يعتدي عليها عند هيجانها اى الذكور منها، وقد ذكرنا ما يتعلق في بحثها في الآيتين ١٣٨/ ١٤٣ من سورة الأنعام المارة فراجعهما. وإنما ذكّرهم الله تعالى ببعض نعمه عليهم، لأن المراد منه التذكر في دلائل توحيده وبراهين قدرته وإمارات صنعه مما يرون ويعلمون، أما مخلوقاته الأخرى الموجودة في ذلك الزمن والتي وجدت الآن وما ستوجد بعد فهي وإن كانت أعظم في الاستدلال إلا أن ضرب المثل بما هو موجود

صفحة رقم 159

أكثر تأثيرا مما لم يوجد، فإذا قلت لهم توحيد سفينة عظيمة تمشي بالبخار على البحار وسيارات تقطع مسافة اليوم في ساعة، وطيارات تطوي الشهرين بيوم، وهاتف وراد ينقلان الصوت من المغرب إلى المشرق بلحظات لم يصدقوا، فلهذا اقتصر الله تعالى على ما هو معلوم عندهم كلهم. ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلم كلموا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله. أي إذا ذكرتم لهم أشياء كهذه يخشى أن يكذبوه، ولو قلتم إن الله أخبر بها رسوله يوشك أن يكذبوا وإذا كذبوكم فقد كذبوا الذين نقلتم عنهم فيؤدي إلى الكفر الذي جاء الأنبياء لإزالته. ومن هذا الحديث المروي عن الدجال بأنه يبلغ خبر خروجه المشرق والمغرب بيوم واحد، فقد أنكره كثير من العلماء لاستحالة وصول الخبر المذكور بيوم واحد إذ لم يكن عندهم لا سلكي أو راد أو هاتف، أما الآن فلا تجد من ينكره من هذه الحيثية، وكذلك حديث: تطبخ المرقة في مكة وتؤكل في المدينة وهي حارة، وحديث تقارب البلدان وغيرها من المغيبات التي أخبر عنها الرسول المكرم ووقع الشك في صحتها، ومن هذا قوله تعالى (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية ١٨٨ من البقرة في ج ٣، عند سؤالهم عن الأهلّة، فلو قال لهم ما يذكره الفلكيون والطبيعيون في هذا لم يصدقوه. قال تعالى «وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ» ١٨ بلا عمد أو بعمد غير مرثية على كلا التفسيرين في الآية الثانية من سورة الرعد في ج ٣، والآية ٩ من سورة لقمان المارة، إذ لا يدرك أطرافها أحد ولم يقف على كنهها أحد ولم يطلع على بنائها أحد كما لا ينالها أحد «وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ» ١٩ على الأرض بصورة ثابتة راسخة لا تزول ولا تزال إلا بقدرة الملك المتعال، إذ جعلها رواسي للأرض لئلا تميد بأهلها، راجع الآية ٩ من سورة لقمان المارة، «وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» ٢٠ بسطت ومهدت ليستقر عليها كل شيء، فانظروا أيها الناس إلى هذه الأشياء، واعلموا أن من يقدر عليها يقدر على خلق ما وصف في الجنة والنار وما أعده لأهلها، وأنكم لا تقدرون على خلق ذبابة ولا تخليص ما تسلبه منكم فضلا عن خلق الإبل والسماء والجبال والأرض وما فيها من البدائع والعجائب، ألا له الخلق والأمر، راجع الآية ٧٢ من الحج ج ٣.

صفحة رقم 160
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية