
أمره تعالى بالتذكير، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى فقال الفراء والزهراوي معناه: وإن لم تنفع، فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني، وقال بعض الحذاق: إنما قوله إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى، اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش، أي إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى، في هؤلاء الطغاة العتاة، وهذا نحو قول الشاعر: [الوافر]
لقد أسمعت لو ناديت حيا | ولكن لا حياة لمن تنادي |
قال القاضي أبو محمد: وأراه على التشبيه لأنه كالسبات والركود والهمول فجعله موتا.
قوله عز وجل:
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١٤ الى ١٩]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)
أَفْلَحَ في هذه الآية معناه: فاز ببغيته، وتَزَكَّى معناه: طهر نفسه ونماها إلى الخير. قال ابن عباس: قال لا إله إلا الله فتطهر من الشرك، وقال الحسن: من كان عمله زاكيا، وقال أبو الأحوص: من رضخ من ماله وزكاه، وقوله وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ معناه: وحّده وصلى له الصلوات التي فرضت عليه، وتنفل أيضا بما أمكنه من صلاة وبرّ، وقال أبو سعيد الخدري وابن عمر وابن المسيب: هذه الآية في صبيحة يوم الفطر فتزكى، أدى زكاة الفطر، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، هو ذكر الله في طريق المصلى إلى أن يخرج الإمام، والصلاة هي صلاة العيد، وقد روي هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة وكثير من المتأولين: تَزَكَّى: أدى زكاة ماله، و «صلى» معناه صلى الخمس، ثم أخبر تعالى الناس أنهم يؤثرون الْحَياةَ الدُّنْيا، فالكافر يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم الله، وقرأ أبو عمرو وحده «يؤثرون» بالياء، وقال: يعني الأشقين، وهي قراءة ابن مسعود والحسن وأبي رجاء والجحدري، وقرأ الباقون والناس: «تؤثرون» بالتاء على المخاطبة، وفي حرف أبي بن كعب «بل أنتم تؤثرون»، وسبب الإيثار حب العاجل والجهل ببقاء الآخرة، وقال عمر: ما في الدنيا في الآخرة إلا كنفخة أرنب. وقوله تعالى: إِنَّ هذا قال الضحاك: أراد القرآن، وروي أن القرآن انتسخ من الصُّحُفِ صفحة رقم 470

الْأُولى
، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: الإشارة إلى معاني السورة، وقال ابن زيد: الإشارة إلى هذين الخبرين «إفلاح من تزكى» وإيثار الناس للدنيا مع فضل الآخرة عليها، وهذا هو الأرجح لقرب المشار إليه بهذا. وقوله تعالى: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي لم ينسخ هذا قط في شرع من الشرائع فهو في الأولى وفي الأخيرات، ونظير هذا قول النبي ﷺ «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» أي أنه مما جاءت به الأولى واستمر في الغي، وقرأ الجمهور «الصحف» مضمومة الحاء، وروى هارون عن أبي عمرو بسكون الحاء، وهي قراءة الأعمش، وقرأ أبو رجاء: إِبْراهِيمَ بغير الياء ولا ألف، وقرأ ابن الزبير «ابراهام» في كل القرآن، وكذلك أبو موسى الأشعري، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة «إبراهم» بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن وروي أن صُحُفِ إِبْراهِيمَ نزلت في أول ليلة من رمضان، والتوراة في السادسة من رمضان والزبور في اثني عشرة منه والإنجيل في ثمان عشرة منه والقرآن في أربع عشرة.
نجز تفسير سورة الْأَعْلَى والحمد لله كثيرا.