
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٣ الى ٤٢]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّاخَّةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَظَّمَهُ اللَّهُ وَحَذَّرَهُ عباده، وقال ابْنُ جَرِيرٍ «١» : لَعَلَّهُ اسْمٌ لِلنَّفْخَةِ فِي الصُّورِ وقال البغوي: الصاخة يعني صيحة يوم الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَصُخُّ الْأَسْمَاعَ أَيْ تُبَالِغُ فِي إِسْمَاعِهَا حَتَّى تَكَادَ تُصِمُّهَا يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ أَيْ يَرَاهُمْ وَيَفِرُّ مِنْهُمْ وَيَبْتَعِدُ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْهَوْلَ عَظِيمٌ وَالْخَطْبَ جَلِيلٌ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: يَلْقَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فَيَقُولُ لَهَا: يَا هَذِهِ أَيُّ بَعْلٍ كُنْتُ لَكِ؟ فَتَقُولُ: نِعْمَ الْبَعْلُ كُنْتَ وَتُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَتْ فَيَقُولُ لَهَا: فَإِنِّي أَطْلُبُ إِلَيْكِ الْيَوْمَ حَسَنَةً وَاحِدَةً تَهَبِينَهَا لِي لَعَلِّي أَنْجُو مِمَّا تَرَيْنَ، فَتَقُولُ لَهُ: مَا أَيْسَرَ مَا طَلَبْتَ وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَخَافُ. قَالَ: وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْقَى ابْنَهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ أَيُّ وَالِدٍ كُنْتُ لَكَ؟ فَيُثْنِي بِخَيْرٍ.
فَيَقُولُ لَهُ: يَا بُنَيَّ إِنِّي احْتَجْتُ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَاتِكَ لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرَى. فَيَقُولُ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ مَا أَيْسَرَ مَا طَلَبْتَ وَلَكِنِّي أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَتَخَوَّفُ فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ أَنَّهُ إِذَا طُلِبَ إِلَى كُلٍّ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَلَائِقِ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، حَتَّى إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَقُولُ لَا أَسْأَلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي لَا أَسْأَلُهُ مَرْيَمَ الَّتِي وَلَدَتْنِي، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ قَالَ قَتَادَةُ: الْأَحَبُّ فَالْأَحَبُّ وَالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أَيْ هُوَ فِي شُغُلٍ شَاغِلٍ عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ أَبُو زَيْدٍ الْعَبَّادَانِيُّ عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا» قال: فقالت زوجته يا رسول الله ننظر أو يرى بَعْضُنَا عَوْرَةَ بَعْضٍ؟ قَالَ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ- أَوْ قَالَ: مَا أَشْغَلَهُ عَنِ النَّظَرِ-» «٢».
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَارِمٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ وَهُوَ أَبُو زَيْدٍ الْأَحْوَلُ الْبَصْرِيُّ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَيُبْصِرُ أَوْ يَرَى بَعْضُنَا عَوْرَةَ بَعْضٍ؟ قَالَ: يَا فُلَانَةُ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ثم قال الترمذي:
(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨٠، باب ٢، والنسائي في الجنائز باب ١١٨.

وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» فَقَالَتْ عَائِشَةُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ؟ فَقَالَ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ انْفَرَدَ بِهِ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا الفضل بن موسى عن عائذ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سألت عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي ساءلتك عن حديث فتخبرني أنت به قال: «إِنْ كَانَ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمٌ» قَالَتْ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الرِّجَالُ؟ قَالَ «حُفَاةً عراة» ثم انتظرت ساعة فقالت: يا رسول اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النِّسَاءُ؟ قَالَ: كَذَلِكَ حُفَاةً عراة» قالت: وا سوأتاه مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ: «وَعَنْ أَيِّ ذَلِكَ تَسْأَلِينَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ آيَةٌ لَا يَضُرُّكِ كَانَ عَلَيْكِ ثِيَابٌ أَوْ لَا يَكُونُ».
قَالَتْ: أَيَّةُ آيَةٍ هِيَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم الشريحي أنبأنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ وَبَلَغَ شُحُومَ الآذان، فقلت يا رسول الله: وا سوأتاه يَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: «قَدْ شُغِلَ النَّاسُ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جِدًّا وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى بِهِ وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ عائذ بن شريح ضعيف وفي حديثه ضعف.
وقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أَيْ يَكُونُ الناس هنالك فريقين وجوه مُسْفِرَةٌ أَيْ مُسْتَنِيرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أَيْ مَسْرُورَةٌ فرحة من السرور في قُلُوبِهِمْ قَدْ ظَهَرَ الْبِشْرُ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَهَؤُلَاءِ هم أَهْلُ الْجَنَّةِ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أَيْ يَعْلُوهَا وَيَغْشَاهَا قَتَرَةٌ أَيْ سَوَادٌ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا سَهْلِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدٌ مَوْلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُلْجِمُ الْكَافِرَ الْعَرَقُ ثُمَّ تَقَعُ الْغَبَرَةُ عَلَى وجوههم» قال فهو قوله تعالى:
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أَيْ يَغْشَاهَا سَوَادُ الْوُجُوهِ وَقَوْلُهُ تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أَيِ الْكَفَرَةُ قُلُوبُهُمْ الْفَجَرَةُ فِي أَعْمَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نُوحٍ: ٢٧]. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ عَبَسَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.