وقال الأنصار: شغلنا بعدونا، وواسينا إخواننا، فنزل التخفيف (١)، وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة، والعشرة لمائة إذ المسلمون قليل فلما كثروا خفف الله عنهم (٢)، ولهذا قال ابن عباس: أيما رجل فرّ من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر (٣).
٦٦ - قوله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ الآية، قال أهل العلم بالتفسير: هذه الآية نزلت بعد الأولى بمدة طويلة وإن كانت إلى جنبها، وكان رسول الله - ﷺ - يبعث المسلمين غزاة على حكم الآية الأولى، والمسلمون يصابر الواحد منهم العشرة من الكفار، بعث حمزة في ثلاثين راكبًا قبل بدر فلقيهم أبو جهل في ثلاثمائة راكب (٤)، قال ابن عباس: فلما تضرعوا واشتكوا إلى الله ضعفهم نزل: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ (٥)، قال
ورواه بمعناه من طريق آخر البخاري (٤٦٥٣) كتاب التفسير، باب: الآن خفف الله عنكم ٦/ ١٢٢، وأبو داود (٢٦٤٦) كتاب الجهاد، باب: في التولي يوم الزحف.
(٢) رواه بمعناه ابن جرير ١٠/ ٤٠، ورواه في الموضع نفسه بلفظه عن ابن عباس.
(٣) رواه الطبراني في "الكبير" ١١/ ١١٣ (١١١٥١)، ورجاله ثقات كما في "مجمع الزوائد" ٥/ ٥٩١، ورواه بنحوه الصنعاني في "المصنف" ٥/ ٢٥٢، والبيهقي في "السنن الكبرى" ٩/ ١٣٠.
(٤) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ٢/ ٢٢٩ - ٢٣٤، و"الكشاف" ٢/ ١٦٧، ونسب القول لابن جريج، وانظر أيضًا: "تفسير الرازي" ١٥/ ١٩٤.
(٥) لم أجده بلفظه، وقد ورد معناه في روايات كثيرة، انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٣٩ - ٤١، و"الدر المنثور" ٣/ ٣٦٢ - ٣٦٤.
الكلبي: هون الله عليكم (١)، ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [وقرئ (ضُعفًا) (٢)] (٣)، قال سيبويه: وهما لغتان مثل: (الفَقْر والفُقر) (٤).
وقوله (٥): ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾، قال ابن عباس: صار الرجل برجلين (٦)، وذهب بعض المفسرين (٧) إلى قوله: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ شرط وجزاء محض، يعني أن المائة إذا صبرت غلبت مائتين من المشركين، وكل مائة من المسلمين لا تغلب مائتين من المشركين فإنها ليست بصابرة، ولو كانت صابرة لغلبت المائتين وعدًا من الله، وهذا معنى قول مجاهد: إن صبروا غلبوهم (٨)، والآية على هذه الطريقة معناها الإخبار، ولو وقفت مائة صابرة في مقابلة مائتين (٩) لغلبوهم بكل حال؛ فإن الخبر من الله تعالى لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، والصحيح أن هذا خبر معناه الأمر والتكليف، أي: إذا كانت منكم
(٢) قرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد، وقرأ الباقون بضمها.
انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٠٨، و"التبصرة في القراءات" ص ٢١٢، و"تقريب النشر" ص ١١٩.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٤) انظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ٣١، ٣٣.
(٥) ساقط من (ح) و (س).
(٦) رواه مطولًا ابن جرير ١٠/ ٣٩، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"، وابن المنذر والطبراني في "الأوسط"، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٣٦٣.
(٧) هو: محمد بن بحر أبو مسلم الأصفهاني كما في "تفسير الرازي" ١٥/ ١٩٥، وانظر: "الكشاف" ٢/ ١٦٧.
(٨) رواه مطولًا ابن جرير ١٠/ ٤١.
(٩) في (ح): (ألف).
مائة فليصابروا ليغلبوا المائتين كقوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٨]. ألا ترى أن المفسرين كلهم اتفقوا على أن قوله في الآية الأولى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ أمر لا خبر بدليل ورود النسخ عليه والنسخ لا يجوز وروده على الخبر (١)، وصاحب النظم قد أحسن في شرح هذا المشكل فقال: الخبر خبران: خبر ماض وخبر مؤتنف، والشرط بينهما موقوف؛ لأنه غير ماض ولا واجب، وإنما هو شيء منتظر، وربما أظهرت العرب الشرط والجزاء على صورة الخبر (٢) فيغلط فيه الناقد البصير فكيف من دونه وقد جاء الجزاء دون الشرط على سورة الخبر ومعناه، نحو قول القطامي:
| والناس من يلق خيرًا قائلون له | ما يشتهي ولأم المخطىء الهبل (٣) |
فإن قيل: فقد كان يجب على العشرين أن يصابروا المائتين كما يجب الآن على المائة أن يصابروا المائتين والشرط غير (٥) واجب.
(٢) في (ج): (خبر).
(٣) البيت في "ديوانه" ص ٢٥، ونسبه إليه أيضًا ابن قتيبة في كتاب "المعاني الكبير" ٣/ ١٢٦٦.
(٤) في (م) و (س): (للمؤمنين).
(٥) ساقط من (م).
قيل: إن الله تعالى كان قد أنزل قبل هذا قوله (١): ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال: ١٦] فعظم الفرار من الزحف، وهول في العقاب، ولا يقع العقاب إلى في واجب، ولم يصف الله تعالى حالة الفرار كيف هو أو كم من كم؟، ثم بينه بقوله عز وجل: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] فأعلم أن عشرين إذا صبروا أوجب لهم غلبة مائتين بشريطة الصبر، ووعده ناجز لا خلف فيه، فكان في ذلك بيان لكيفية الفرار التي حرمها، والصفة التي يكون المولي بها فارًّا مستوجبًا للعقاب إلا أنه ثقل عليهم ثبوت الواحد للعشرة فخفف ذلك عنهم بالآية الأخرى، فعلى ما ذكر: الآيتان لفظهما شرط، والشرط كما ذكر لا يكون واجبًا إلا أن الوجوب استفيد من تحريم الفرار، وتحريم الفرار مجمل فبيّن في الآيتين أنه مع كم يجب أن يصبر، ومن كم يجوز الفرار.
وهذا طريق حسن في هاتين الآيتين، والحكم في هذه الآية أن كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مُشْرِكَيْن عبدًا كان أو حرًا فالهزيمة عليه حرام ما دام معه سلاح يقاتل، فإن لم يبق سلاح فله أن ينهزم، وإن قاتله ثلاثة حلت له (٢) الهزيمة، والصبر أحسن، وقف جيش مؤته وهم ثلاثة آلاف، وأمراؤهم على التعاقب زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب (٣)، ثم
(٢) ساقط من (ح).
(٣) هو: جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، أبو عبد الله وابن عم رسول الله - ﷺ - السيد الشهيد الكبير الشأن، هاجر إلى الحبشة، ثم قدم منها يوم فتح خيبر، وولاه رسول الله - ﷺ - قيادة جيش مؤتة بعد زيد، واستشهد فيها سنة ٨ هـ.
انظر: "سير أعلام النبلاء" ١/ ٢٠٦، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٣٠٨.