
الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات أمام الكفار، وقد صرح تعالى بهذا المدلول في قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) إلى قوله (وبئس المصير). وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى في أضيق الأوقات؛ وهو وقت التحام القتال دليل واضح على أن المسلم ينبغي له الإكثار من ذكر الله على كل حال، ولاسيما في وقت الضيق، والمحب الصادق في حبه لا ينسى محبوبه عند نزول الشدائد.
قال البخاري: وقال أبو عامر: حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تمنّوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا".
(الصحيح ٦/١٨١ ح ٣٠٢٦ - ك الجهاد والسير، ب لا تمنوا لقاء العدو)، وأخرجه مسلم في (الصحيح ح ١٧٤٢ - ك الجهاد، ب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء).
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق -هو الفزاري- عن موسى بن عقبة، عن سالم أبي النخير مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما فقرأته: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أيامه التى لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس.
ثم قام في الناس خطيباً قال: أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم".
(الصحيح ٦/١٤٠ ح ٢٩٦٥-٢٩٦٦ - ك الجهاد والسير، ب كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس)، وأخرجه مسلم (الصحيح - ك الجهاد، ب كراهية تمني لقاء العدو).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)، افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونون، عند الضراب بالسيوف.
قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي، ثنا بقية، حدثني بحير، عن خالد بن معدان، عن أبي بحرية، عن معاذ بن جبل، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه

قال: "الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد؛ فإن نومه ونبْهه أجر كله. وأما من غزا فخراً ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض؛ فإنه لم يرجع بالكَفَاف".
(السنن ٣/١٣-١٤ ح ٢٥١٥ - ك الجهاد، ب في من يغزو ويلتمس الدنيا)، وأخرجه النسائي (٦/٤٩ - ك الجهاد، في فضل الصدقة في سبيل الله)، والدارمي في (السنن ٢/٢٠٨-٢٠٩ - ك الجهاد، ب الغزو غزوان)، وأحمد في مسنده (٥/٢٣٤) من طرق عن بقية به. حسنه الألباني في (صحيح سنن أبي داود ٢/٤٧٨ ح ٢١٩٥). وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات ليس فيه إلا ما يخشى من تدليس بقية، وقد صرح بالتحديث كما في رواية أبي داود (انظر مرويات الدارمي في التفسير ص٢٥٢).
قوله تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) الآية
قال الشيخ الشنقيطي: نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبيناً أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضاً في مواضع أخر؛ كقوله (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) ونحوها من الآيات.
وقوله في هذه الآية (وتذهب ريحكم) أي قوتكم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (وتذهب ريحكم) قال: نصركم. قال: وذهبت ريح أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين نازعوه يوم أحد.
قوله تعالى (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (بطرا ورئاء الناس) قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر. وأخرجه بنحوه بسند صحيح عن قتادة.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان غر الكفار، وخدعهم، وقال لهم: لا غالب لكم وأنا جار لكم. وذكر المفسرون: أنه تمثل لهم في صورة (سراقة بن مالك بن جعشم) سيد بني مدلج بن بكر بن كنانة، وقال لهم ما ذكر الله عنه، وأنه يجيرهم من بني كنانة، وكانت بينهم عداوة