آيات من القرآن الكريم

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ

رجاء أن تشكروا هذه النعم وغيرها مما يؤتيكم من فضله كما وعد فى كتابه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ».
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة فى قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) الآية. قال: كان هذا الحي أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالة، معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم، لا والله ما فى بلادهم ما يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردّى فى النار، يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منهم منزلا، حتى جاء الله بالإسلام فمكّن به فى البلاد ووسّع به فى الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر فى مزيد من نعم الله عز وجل.
وفى الآية من العبرة التي يجب على المؤمنين أن يتذكروها أنه أورث من اهتدى بهديه سعادة الدنيا وبسطة السلطان ومكّن لأهله فى الأرض وأنا لهم ما لم يكونوا يرجونه لولا هدى الدين، وأورثهم فى الآخرة فوزا ورضوانا من ربهم وروحا وريحانا وجنة نعيم هذا حين كانوا يعملون بهديه، فلما أعرضوا عنه ونأوا بجانبهم عاقبهم الله بما جرت به سننه فى الأرض فأضاعوا ملكهم وسلّط عليهم أعداءهم، فليعتبر المسلمون بما حل بهم، وليرجعوا إلى تاريخ أسلافهم، وليستضيئوا بنورهم وليثوبوا إلى رشدهم، لعله يعيد إليهم تراثهم الغابر وعزهم الماضي: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)

صفحة رقم 191

تفسير المفردات
الخيانة: لغة تدل على الإخلاف والخيبة بنقص ما كان يرجى ويؤمل من الخائن، فقد قالوا خانه سيفه إذا نبا عن الضّربية، وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي، ومنه قوله: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» أي تنقصونها بعض ما أحل لها من اللذات، ثم استعمل فى ضد الأمانة والوفاء لأن الرجل إذا خان الرجل فقد أدخل عليه النقصان. والأمانة: كل حق مادّى أو معنوى يجب عليك أداؤه إلى أهله قال تعالى: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً» والفتنة: الاختبار والامتحان بما يشقّ على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره، فهى تكون فى الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء، فيمتحن الله المؤمنين والكافرين والصادقين والمنافقين، ويجازيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق والباطل وعمل الخير أو الشر.
المعنى الجملي
روى أن أبا سفيان خرج من مكة: (وكان لا يخرج إلا فى عداوة الرسول ﷺ والمؤمنين) فأعلم الله رسوله بمكانه، فكتب رجل من المنافقين إلى أبى سفيان: إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله (لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) الآية.
وروى أنها نزلت فى أبي لبابة وكان حليفا لبنى قريظة من اليهود، فلما خرج إليهم النبي ﷺ بعد إجلاء إخوانهم من بنى النّضير، أرادوا بعد طول الحصار أن ينزلوا من حصنهم على حكم سعد بن معاذ وكان من حلفائهم من قبل غدرهم ونقضهم لعهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم أبو لبابة ألا تفعلوا وأشار إلى حلقه (يريد أن سعدا سيحكم بذبحهم) فنزلت الآية.
قال أبو لبابة: ما زالت قدماى عن مكانهما حتى علمت أنى خنت الله ورسوله،

صفحة رقم 192

وروى «أن رسول الله ﷺ سأل امرأته: أيصوم ويصلى ويغتسل من الجنابة؟ فقالت إنه ليصوم ويصلى ويغتسل من الجنابة ويحب الله ورسوله».
وقد روى «أن أبا لبابة شدّ نفسه على سارية من المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علىّ، ثم مكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك، فقال:
والله لا أحلّ نفسى حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يحلّنى فجاء فحله بيده»
.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) أي لا تخونوا الله فتعطّلوا فرائضه أو تتعدوا حدوده وتنتهكوا محارمه التي بينها لكم فى كتابه، ولا تخونوا الرسول فترغبوا عن بيانه لكتابه إلى بيانه بأهوائكم أو آراء مشايخكم أو آبائكم أو أوامر أمرائكم، أو ترك سنته إلى سنة آبائكم وزعمائكم زعما منكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم.
(وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) أي ولا تخونوا أماناتكم فيما بين بعضكم وبعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الشئون الأدبية والاجتماعية، فإفشاء السر خيانة محرمة ويكفى فى العلم بكونه سرا قرينة قولية كقول محدثك: هل يسمعنا أحد؟ أو فعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجىء، وآكد أمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين.
كذلك لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولى الأمر من شئون سياسية أو حربية فتطلعوا عليها عدوكم وينتفع بها فى الكيد لكم.
والخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين،
قال أنس بن مالك: قلما خطب رسول الله ﷺ إلا قال: «لا إيمان لمن لا عهد له» رواه الإمام أحمد.

صفحة رقم 193

وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله لها وسوء عاقبتها فى الدنيا والآخرة، وقد يكون المعنى- وأنتم تعلمون أن ما فعلتموه خيانة لظهوره، فإن خفى عليكم حكمه فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين ضرورة، أو مما يعلم ببداهة العقل، أو باستفتاء القلب كفعلة أبي لبابة التي كان سببها الحرص على المال والولد، ومن ثم فطن لها قبل أن يبرح مكانه.
(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
أي إن فتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذوى الألباب، إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته ودفع كثير من المكاره عنه، من أجل ذلك يتكلف فى كسبها المشاق ويركب الصعاب ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ويرغّبه فى القصد والاعتدال، ويتكلف العناء فى حفظها وتتنازعه الأهواء فى إنفاقها، ويفرض عليه الشارع فيها حقوقا معينة وغير معينة: كالزكاة ونفقات الأولاد والأزواج وغيرهم.
وأما الأولاد فحبهم مما أودع فى الفطرة، فهم ثمرات الأفئدة وأفلاذ الأكباد لدى الآباء والأمهات، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل كل ما يستطاع بذله فى سبيلهم من مال وصحة وراحة.
وقد روى عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي ﷺ «الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة».
فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الذنوب والآثام فى سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم، وكل ذلك قد يؤدى إلى الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الأمة أو الدين وإلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة والحقوق الثابتة كما يحملهم ذلك على الحزن على من يموت منهم بالسخط على المولى والاعتراض عليه

صفحة رقم 194
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية