مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ نَكْفِتُ وَيَكُونُ الْمَعْنَى نَكْفِتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، فَيُنْصَبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ هَذَا هُوَ اللُّغَةُ، ثُمَّ فِي الْمَعْنَى/ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَكْفِتُ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَحْيَاءَ يَسْكُنُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَالْأَمْوَاتَ يُدْفَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَرْضَ أُمًّا لِأَنَّهَا فِي ضَمِّهَا لِلنَّاسِ كَالْأُمِّ الَّتِي تَضُمُّ وَلَدَهَا وَتَكْفُلُهُ، وَلَمَّا كَانُوا يُضَمُّونَ إِلَيْهَا جُعِلَتْ كَأَنَّهَا تَضُمُّهُمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَكْفِتُ مَا ينفصل الْأَحْيَاءِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْذَرَةِ، فَأَمَّا أَنَّهَا تَكْفِتُ [الْأَحْيَاءَ] حَالَ كَوْنِهِمْ عَلَى ظَهْرِهَا فَلَا وَثَالِثُهَا:
أَنَّهَا كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ فِي حَاجَاتِهِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْأَبْنِيَةُ الْجَامِعَةُ لِلْمَصَالِحِ الدَّافِعَةُ لِلْمَضَارِّ مَبْنِيَّةٌ مِنْهَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَحْياءً وَأَمْواتاً مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْحَيُّ مَا أُنْبِتَ وَالْمَيِّتُ مَا لَمْ يُنْبَتْ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: لِمَ قِيلَ: أَحْياءً وَأَمْواتاً عَلَى التَّنْكِيرِ وَهِيَ كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ جَمِيعًا؟ الْجَوَابُ: هُوَ مِنْ تَنْكِيرِ التَّفْخِيمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تَكْفِتُ أَحْيَاءً لَا يُعَدُّونَ، وَأَمْوَاتًا لَا يُحْصَرُونَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ النَّبَّاشِ؟ الْجَوَابُ: نَقَلَ الْقَفَّالُ أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ كِفَاتُ الْمَيِّتِ فَتَكُونُ حِرْزًا لَهُ، وَالسَّارِقُ مِنَ الْحِرْزِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ فَقَوْلُهُ:
رَواسِيَ أَيْ ثَوَابِتَ عَلَى ظَهْرِ الأرض لا تزول شامِخاتٍ أَيْ عَالِيَاتٍ، وَكُلُّ عَالٍ فَهُوَ شَامِخٌ، وَيُقَالُ:
لِلْمُتَكَبِّرِ شَامِخٌ بِأَنْفِهِ، وَمَنَافِعُ خِلْقَةِ الْجِبَالِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ النِّعَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً الْفُرَاتُ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْعُذُوبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ [الْفُرْقَانِ: ٥٣].
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٤]
انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنْ وُجُوهِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَهُوَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ:
انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنَ الْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ القائلين هم خزنة النار وانطلقوا الثَّانِي تَكْرِيرٌ، وَقَرَأَ/ يَعْقُوبُ انْطَلَقُوا عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ انْقَادُوا لِلْأَمْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ امْتِنَاعًا مِنْهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فَانْطَلَقُوا بِالْفَاءِ، لِيَرْتَبِطَ آخِرُ الْكَلَامِ بِأَوَّلِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الْخَلَائِقِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ لِبَاسٌ وَلَا كِنَانٌ، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفسهم وَيَمْتَدُّ ذَلِكَ الْيَوْمُ، ثُمَّ
يُنْجِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ إِلَى ظِلٍّ مِنْ ظِلِّهِ فَهُنَاكَ يَقُولُونَ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطُّورِ: ٢٧] وَيُقَالُ لِلْمُكَذِّبِينَ: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، وَقَوْلُهُ: إِلى ظِلٍّ يَعْنِي دُخَانَ جَهَنَّمَ كَقَوْلِهِ: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الْوَاقِعَةِ: ٤٣] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الظِّلَّ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا الظِّلُّ، وَلَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا وَثَانِيهَا: قَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ كَوْنُ النَّارِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَمُحِيطَةً بِهِمْ، وَتَسْمِيَةُ النَّارِ بِالظِّلِّ مَجَازٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَقَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزُّمَرِ: ١٦] وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥٥] وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: بَلِ الْمُرَادُ الدُّخَانُ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الْكَهْفِ: ٢٩] وَسُرَادِقُ النَّارِ هُوَ الدُّخَانُ، ثُمَّ إِنَّ شُعْبَةً مِنْ ذَلِكَ الدُّخَانِ عَلَى يَمِينِهِ وَشُعْبَةً أُخْرَى عَلَى يَسَارِهِ، وَشُعْبَةً ثَالِثَةً مِنْ فَوْقِهِ. وَأَقُولُ هَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ لِأَنَّ الْغَضَبَ عَنْ يَمِينِهِ وَالشَّهْوَةَ عَنْ شِمَالِهِ، وَالْقُوَّةَ الشَّيْطَانِيَّةَ فِي دماغه، ومنبع جميع الآفاق الصَّادِرَةِ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي عَقَائِدِهِ، وَفِي أَعْمَالِهِ، لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، فَتَوَلَّدَتْ مِنْ هَذِهِ الْيَنَابِيعِ الثَّلَاثَةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الظُّلُمَاتِ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أن يقال: هاهنا درجات ثلاث، وَهِيَ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ، وَالْوَهْمُ، وَهِيَ مَانِعَةٌ لِلرُّوحِ عَنِ الِاسْتِنَارَةِ بِأَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنَ الظُّلْمَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ قَوْمٌ: هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ الدُّخَانِ عَظِيمًا، فَإِنَّ الدُّخَانَ الْعَظِيمَ يَنْقَسِمُ إِلَى شُعَبٍ كَثِيرَةٍ وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَيَحْتَمِلُ فِي ثَلاثِ شُعَبٍ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ: غَيْرُ ظَلِيلٍ وَأَنَّهُ لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وَبِأَنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِذَلِكَ الظِّلِّ قَوْلُهُ: لَا ظَلِيلٍ وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ ظللهم غير ظلل الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الظِّلَّ لَا يَمْنَعُ حَرَّ الشَّمْسِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ يُقَالُ: أَغْنِ عَنِّي وَجْهَكَ، أَيْ أَبْعِدْهُ لِأَنَّ الْغَنِيَّ عَنِ الشَّيْءِ يُبَاعِدُهُ، كَمَا أَنَّ الْمُحْتَاجَ يُقَارِبُهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ، أَيْ وَغَيْرُهُ مُغْنٍ عَنْهُمْ، مِنْ حَرِّ اللَّهَبِ شَيْئًا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الظِّلَّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي جَهَنَّمَ، فَلَا يُظِلُّهُمْ مِنْ حَرِّهَا، وَلَا يَسْتُرُهُمْ مِنْ لَهِيبِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ الظِّلَّ فَقَالَ: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: ٤٢- ٤٤] وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي جَهَنَّمَ إِذَا دَخَلُوهَا، ثُمَّ قَالَ: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا ظَلِيلٍ فِي مَعْنَى: لَا بارِدٍ وَقَوْلُهُ: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ/ فِي مَعْنَى: وَلا كَرِيمٍ أَيْ لَا رَوْحَ لَهُ يَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْ لَهَبِ النَّارِ وَالثَّانِي: أَنَّ تَكَوُّنَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ ان يدخلوا جهنم بل عند ما يُحْبَسُونَ لِلْحِسَابِ وَالْعَرْضِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الظِّلَّ لَا يُظِلُّكُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَلَا يَدْفَعُ لَهَبَ النَّارِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَانٍ «١» : وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ قُطْرُبٌ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَبَ هاهنا هُوَ الْعَطَشُ يُقَالُ: لَهِبَ لَهَبًا وَرَجُلٌ لَهْبَانُ وَامْرَأَةٌ لَهْبَى.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ شَرَرَةٌ وَشَرَرٌ وَشَرَارَةٌ وَشَرَارٌ، وَهُوَ مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ مُتَبَدِّدًا فِي كُلِّ جِهَةٍ وَأَصْلُهُ مِنْ شَرَرْتُ الثَّوْبَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَبَسَطْتَهُ لِلشَّمْسِ وَالشَّرَارُ يَنْبَسِطُ مُتَبَدِّدًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ النَّارَ الَّتِي كَانَ ذَلِكَ الظِّلُّ دُخَانًا لَهَا بِأَنَّهَا ترمي بالشرارة العظيمة، والمقصود منه بيان
أَنَّ تِلْكَ النَّارَ عَظِيمَةٌ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ ذَلِكَ الشَّرَرَ بِشَيْئَيْنِ الْأَوَّلُ: بِالْقَصْرِ وَفِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْبِنَاءُ الْمُسَمَّى بِالْقَصْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْقُصُورَ الْعِظَامَ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى التَّقْدِيرِ فَفِي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا جَمْعُ قَصْرَةٍ سَاكِنَةَ الصَّادِ كَتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ وَجَمْرَةٍ وَجَمْرٍ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْحَطَبِ الْجَزْلِ الْغَلِيظِ قَصْرَةٌ وَالْجَمْعُ قَصْرٌ، قَالَ عبد الرحمن بن عباس: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْقَصْرِ فَقَالَ: هُوَ خَشَبٌ كُنَّا نَدَّخِرُهُ لِلشِّتَاءِ نَقْطَعُهُ وَكُنَّا نُسَمِّيهِ الْقَصْرَ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ والضحاك، وإلا أَنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ أُصُولُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ الْعِظَامِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ كَالْقَصَرِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ أَوْ أَعْنَاقُ النَّخْلِ نَحْوُ شَجَرَةٍ وَشَجَرٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَالْقُصُرِ بِمَعْنَى الْقَصْرِ كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ كَالْقِصَرِ فِي جَمْعِ قَصْرَةٍ كَحَاجَةٍ وَحِوَجٍ.
التَّشْبِيهُ الثَّانِي: قوله تعالى: كأنه جمالات صُفْرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جِمَالَاتٌ جَمْعُ جمال كقوهم: رِجَالَاتٌ وَرِجَالٌ وَبُيُوتَاتٌ وَبُيُوتٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ حمالات بِضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قِيلَ: الْجُمَالَاتُ بِالضَّمِّ الْحِبَالُ الْغِلَاظُ وَهِيَ حِبَالُ السُّفُنِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْقُلُوسُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي الْحِبَالِ إِنَّمَا هُوَ الْجُمَّلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَقُرِئَ: حتى يلوج الجمل [الأعراف: ٤٠] وَثَانِيهَا: قِيلَ هِيَ قِطَعُ النُّحَاسِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعْظَمُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجُمَالَاتُ بِالضَّمِّ مِنَ الشَّيْءِ الْمُجْمَلِ، يُقَالُ: أَجْمَلْتُ الْحِسَابَ، وَجَاءَ الْقَوْمُ جُمْلَةً أَيْ مُجْتَمِعِينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرَرَةَ تَرْتَفِعُ كَأَنَّهَا شَيْءٌ مَجْمُوعٌ غَلِيظٌ أَصْفَرُ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: جُمَالَاتٌ بِضَمِّ الْجِيمِ جَمْعَ جُمَالٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَجُمَالٌ بِضَمِّ الْجِيمِ يَكُونُ جَمْعَ جَمَلٍ، كَمَا يُقَالُ: رِخْلٌ وَرُخَالٌ وَرِخَالٌ.
القراءة الثاني: جِمَالَةٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ هِيَ جَمْعُ جَمَلٍ مِثْلُ حَجَرٍ وَحِجَارَةٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالتَّاءُ إِنَّمَا لَحِقَتْ جِمَالًا لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، كَمَا لَحِقَتْ فِي فَحْلٍ وَفِحَالَةٍ.
الْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: جُمْلَةٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَهِيَ الْقَلْسُ، وَقِيلَ: صُفْرٌ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَمَّا قَوْلُهُ: صُفْرٌ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ سُودٌ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَرَى أَسْوَدَ مِنَ الْإِبِلِ إِلَّا وَهُوَ مَشُوبٌ صُفْرَةً، وَالشَّرَرُ إِذَا تَطَايَرَ فَسَقَطَ وَفِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ لَوْنِ النَّارِ كَانَ أَشْبَهَ بِالْجَمَلِ الْأَسْوَدِ الَّذِي يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الصُّفْرَةِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الصُّفْرَةُ لَا السَّوَادُ، لِأَنَّ الشَّرَرَ إِنَّمَا يُسَمَّى شَرَرًا، مَا دَامَ يَكُونُ نَارًا، وَمَتَى كَانَ نَارًا كَانَ أَصْفَرَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَسْوَدَ إِذَا انْطَفَأَ، وَهُنَاكَ لَا يُسَمَّى شَرَرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي هُوَ الصَّوَابُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الشَّرَرَ فِي الْعِظَمِ بِالْقَصْرِ، وَفِي اللَّوْنِ وَالْكَثْرَةِ وَالتَّتَابُعِ وَسُرْعَةِ الْحَرَكَةِ بِالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، وَقِيلَ: أَيْضًا إِنَّ ابْتِدَاءَ الشَّرَرِ يَعْظُمُ فَيَكُونُ كَالْقَصْرِ ثُمَّ يَفْتَرِقُ فَتَكُونُ تِلْكَ الْقِطَعُ الْمُتَفَرِّقَةُ الْمُتَتَابِعَةُ كَالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ إِنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقُصُورُهُمْ قَصِيرَةُ السَّمْكِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْخَيْمَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ بِهَذَا تَصَرَّفَ فِيهِ وَشَبَّهَهُ بِالْخَيْمَةِ مِنَ الْأَدِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
حَمْرَاءَ سَاطِعَةَ الذَّوَائِبِ فِي الدُّجَى | تَرْمِي بِكُلِّ شرارة كطراف |