
(١) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً؟) أي ألم نجعل الأرض مهادا لكم، فتكفتكم وتجمعكم فيها أحياء على ظهرها، وأمواتا فى بطنها، فالأحياء يسكنون فى منازلهم، والأموات يدفنون فى قبورهم.
خرج الشعبي فى جنازة فنظر إلى الجبّان فقال: هذه كفات الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء.
وكانوا يسمون بقيع الغرقد (مقبرة المدينة) كفتة لأنه مقبرة تضم الموتى.
(٢) (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي وجعلنا جبالا ثوابت عاليات على ظهرها، لئلا تميد بكم.
وهذه الجبال متصلة بالطبقة الصوّانية التي هى أبعد طبقات الأرض عن سطحها وتلك الطبقة تضم فى جوفها كرة النار المشتعلة التي فى باطنها، وظاهرها هذه القشرة التي نحن عليها.
(٣) (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي وأسقيناكم ماء عذبا فراتا تشربون منه، إما آتيا من السحاب الذي حفظته الجبال بارتفاعها، وإما من العيون النابعات منها ويمدها الثلج الذي يذوب شيئا فشيئا فوق ظهر الأرض متنزلا إلى بطنها، متجها إلى عيونها الجارية.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب عظيم فى الآخرة لمن كفر بهذه النعم.
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٩ الى ٤٠]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠)

شرح المفردات
لا ظليل: أي لا بقي من حر الشمس، والشرر: ما يتطاير من النار، كالقصر:
أي كالدار الكبيرة المشيدة، جمالة: واحدها جمل، فكيدون: أي فاحتالوا علىّ يقال: كدت فلانا إذا احتلت عليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن للمكذبين بالله وأنبيائه واليوم الآخر العذاب فى يوم الفصل والجزاء- بين هنا نوع ذلك العذاب بما يحار فيه أولو الألباب، ويخرّ من هوله كل مخبت أوّاب، فأخبر بأنهم يؤمرون بالانطلاق إلى ما كانوا يكذبون به فى الدنيا، إلى ظلّ دخان جهنم المتشعب لكثرته وتفرّقه إلى ثلاث شعب عظيمة، وهو لا يظلّهم ولا يمنع عنهم حر اللهب المتكوّن من نار ترمى بشرر، كأنه القصر المشيد علوّا وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر انبساطا وتفرقا عن غير أعداد محصورة، وحركة غير معينة.
ولا شك أن هذا تشبيه على ما تعهده العرب إذا وصفت الأشياء بالعظم، ألا تراهم يشبهون الناقة العظيمة بالقصر كما قال:
فوقفت فيها ناقتى وكأنها | فدن لأقضى حاجة المتلوّم |

فى صعيد واحد، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتقريع: إن كنتم تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم شيئا من العذاب فهلمّوا.
الإيضاح
(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي يقول لهم خزنة جهنم حينئذ: اذهبوا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب فى الدنيا.
ثم بين هذا العذاب ووصفه بجملة صفات:
(١) (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي انطلقوا إلى ظل دخان جهنم المتشعب إلى ثلاث شعب: شعبة عن يمينهم، وشعبة عن شمالهم، وشعبة من فوقهم والمراد أنه محيط بهم من كل جانب كما جاء فى الآية الأخرى: «أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها».
(٢) (لا ظَلِيلٍ) أي ليس بمظلّ فلا يقى من حر ذلك اليوم.
وفى هذا تهكم بهم، ونفى لأن يكون فيه راحة لهم، وإيذان بأن ظلهم غير ظل المؤمنين.
(٣) (وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) أي ولا يدفع من حر النار شيئا، لأنه فى جهنم فلا يظلهم من حرها، ولا يسترهم من لهيبها كما قال فى سورة الواقعة: «فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ».
ثم وصف النار التي تحدث هذا الظل من الدخان فقال:
(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) أي إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرق فى جهات كثيرة كأنه القصر عظما وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر لونا وكثرة وتتابعا وسرعة حركة.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا اليوم الذي لا يجدون فيه لدفع العذاب عنهم محيصا.