
تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١٦ الى ٢٨]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥)
أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)
الإعراب:
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ: إنما لم يجزم فعل نتبع بالعطف على نُهْلِكِ لأنه في نية الاستئناف، وتقديره: ثم نحن نتبعهم.
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً.. وَأَمْواتاً كِفاتاً وأَمْواتاً إما منصوبان على الحال، أي نجمعهم في هاتين الحالين، أو أن يكونا بدلا من الْأَرْضَ على معنى أن تكون كِفاتاً إحياء نبت، وأَمْواتاً لا تنبت، وتقديره: ألم نجعل الأرض ذات نبات وغير ذات نبات.
البلاغة:
الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ بينهما طباق، وكذا بين أَحْياءً وأَمْواتاً.
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ استفهام تقريري، ومثله: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ.
مَهِينٍ مَكِينٍ جناس ناقص غير تام.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كقوم نوح وعاد وثمود، وقرئ «نهلك» من هلكه بمعنى أهلكه. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أي ثم نحن نتبعهم نظراءهم ككفار مكة، وقرئ بجزم الفعل، عطفا على نُهْلِكِ فيكون المراد من الْآخِرِينَ المتأخرين من المهلكين، كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام. كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل ذلك الفعل نفعل بالمجرمين أي بكل من أجرم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات الله وأنبيائه، والتكرار للتأكيد، أو أن الويل الأول لعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا.

مِنْ ماءٍ مَهِينٍ من نطفة مذرة ذليلة، أو من ماء ضعيف، وهو المني. فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي مستقر حريز حصين، وهو الرحم. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ إلى زمان معلوم أو إلى مقدار معلوم من الوقت، وهو وقت الولادة، قدره الله تعالى. فَقَدَرْنا على تصويره وخلقه.
فَنِعْمَ الْقادِرُونَ نحن. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا على ذلك، أو على الإعادة.
كِفاتاً ضامة جامعة، من كفت الشيء: إذا ضمه وجمعه. أَحْياءً وَأَمْواتاً الأحياء:
ما ينبت، والأموات: ما لا ينبت.
رَواسِيَ شامِخاتٍ جبالا مرتفعة. فُراتاً عذبا.
المناسبة:
بعد تحذير الكفار وإنذارهم بأهوال يوم القيامة، أعقبه بتخويفهم وتحذيرهم عن الكفر، بالإهلاك كإهلاك الأمم المتقدمة، ثم هددهم بإنكار إحسانه إليهم، مبينا أمثلة ومظاهر لقدرة الله عز وجل، كخلق الإنسان وحواسه، والأرض وتثبيتها بالجبال الشامخات، وتزويدها بينابيع المياه العذبة، وذلك كله يستدعي شكر نعم الله في النفس والآفاق.
التفسير والبيان:
هدد الله تعالى الكفار بقوله:
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ؟ أي ألم نهلك الكفار المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به من الأمم الماضية، من لدن آدم عليه السلام كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلّم، بالعذاب في الدنيا، ثم نتبعهم بأمثالهم وأشباههم، وهم كفار مكة حين كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المواطن.
وفي هذا وعيد شديد لكل من كفر بالله وتخويف وتحذير من الكفر.
ثم أخبر تعالى بأن تلك سنة الله لا تبديل فيها، مع بيان حكمة الإهلاك، فقال:

كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي إن سنتنا في جميع الكفار واحدة، فمثل ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله، الذين أجرموا في حق أنفسهم، نفعل بكل مشرك، إما في الدنيا أو في الآخرة.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي الخزي والعذاب يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر.
ثم وبخهم بتعداد النعم والامتنان عليهم، وبيان آثار القدرة الإلهية عليهم، ومحتجا بالبداءة على الإعادة فقال:
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ؟ أي ألا ترون وتدركون أننا نحن خلقناه من ماء ضعيف حقير، وهو المني، وضعفه واضح بالنسبة إلى قدرة الباري عز وجل، وجعلناه وجمعناه في مستقر أو مكان حريز حصين، وهو الرحم، ثم أبقاه الله إلى مدة معينة هي مدة الحمل من ستة أشهر إلى تسعة أشهر.
ونحن قدّرنا أعضاءه وصفاته، وجعلنا كل حال على الصفة التي أردنا، فنعم المقدّر الله، أو فنعم المقدّرون له نحن. أو على قراءة التخفيف (فقدرنا) أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا، فنعم أصحاب القدرة نحن، حيث خلقناكم في أحسن تقويم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي خزي وعذاب في ذلك اليوم الهائل، يوم القيامة لمن كذب بقدرتنا على ذلك وبهذه المنن والنعم.
وهذا توبيخ وتخويف من وجهين:
أحدهما- أن النعمة كلما كانت أعظم، كان كفرانها أفحش.
والثاني- أن القادر على الإبداء (الخلق الأول) قادر على الإعادة، فالمنكر

لهذا الدليل الواضح يستحق غاية التوبيخ.
ثم عدّ عليهم نعم الآفاق الثلاث بعد ذكر الأنفس فقال:
١- أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً أي ألم نجعل الأرض ضامّة للأحياء على ظهرها في منازلهم، والأموات في بطنها، تضمهم وتجمعهم؟ قال الشعبي: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم. والكفات: اسم ما يكفت أي يضم ويجمع، ويجوز أن يكون اسما لما يكفت به، مبنيا للمفعول، كالشداد لصمام يشد به رأس القارورة.
٢، ٣- وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ، وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي وأوجدنا في الأرض جبالا ثوابت عاليات، لئلا تميد وتضطرب بكم، وأسقيناكم من ينابيعها أو من السحاب ماء عذبا زلالا، وهذا كله أعجب من البعث.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي عذاب شديد في الآخرة لمن كذب أو كفر بهذه النعم، وويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها، ثم استمر على تكذيبه وكفره.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر الله تعالى عشرة أنواع من تخويف الكفار وتحذيرهم عن الكفر، أذكر منها هنا أربعة وهي:
النوع الأول من التخويف- أنه أقسم في الآيات السابقة على أن اليوم الذي يوعدون به، وهو يوم الفصل، واقع.
النوع الثاني- أنه أهلك الكفرة المتقدمين بسبب كفرهم، وأخبر أنه يفعل مثل ذلك في الأقوام المتأخرين، فلا بد وأن يهلكهم أيضا، لتماثلهم مع المتقدمين في علة الإهلاك، وهي التكذيب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وذكر تعالى

أن هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين، فعمم الحكم جميع المجرمين.
ثم أكد تعالى التخويف بقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ والمراد أن مآلهم في الدنيا الهلاك، وفي الآخرة العذاب الشديد، كما قال تعالى: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج ٢٢/ ١١]. وهؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا، فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة.
والنوع الثالث من تخويف الكفار- التذكير بعظيم إنعامه عليهم، والتحذير من مغبة كفران النعمة وإنكار إحسانه إليهم، وهو خلقه الإنسان من النطفة الضعيفة الحقيرة، ثم إيداعها في مكان حريز وهو الرّحم إلى أن يتم تصويره ويحين وقت ولادته، وذلك لا يمكن من غير قادر عليّ، فنعم القادر والمقدّر وهو الله تعالى.
ووجه التخويف من جانبين كما تقدم:
الأول- أنه كلما كانت نعمة الله عليهم أكثر، كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، وكان العقاب أعظم، لذا قال عقيب هذا الإنعام: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
الثاني- أنه تعالى ذكّرهم كونه قادرا على الابتداء، ومن المقرر الظاهر عقلا عند البشر أن القادر على الابتداء، قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، قال في حقهم: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «١».
والنوع الرابع من تخويف الكفار- أنه تعالى بعد أن ذكّرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس، ذكّرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق، وذكر ثلاثة أشياء:
هي الأرض التي هي كفات الأحياء والأموات، والجبال الرواسي الشامخات، أي

الثواب على ظهر الأرض فلا تزول، العاليات، والماء الفرات الذي هو الغاية في العذوبة.
وأعقب التذكير بهذه النعم في الآفاق في آخر الآية: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لأن النعم كما تقدم كلما كانت أكثر، كانت الجناية أقبح، فكان استحقاق الذم عاجلا، والعقاب آجلا أشدّ، كما قال الرازي.
هذا وقد استنبط العلماء من آية أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً حكمين «١» :
الأول- إذا كانت الأرض ضامّة تضم الأحياء على ظهورها، والأموات في بطنها فهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه.
والثاني- روي عن ربيعة في النبّاش (سارق أكفان الموتى) قال: تقطع يده، فقيل له: لم قلت ذلك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً فالأرض حرز. وكانوا يسمّون بقيع الغرقد في المدينة كفتة لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم، والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها.
وكذلك استدل الشافعية بالآية على قطع النباش: بأن الله تعالى جعل الأرض كفاتا للأموات، فكان بطنها حرزا لهم، فالنباش سارق من الحرز.
هذا.. وأما بقية أنواع تخويف الكفار وتهديدهم، فمحلها الآيات الآتية.