
شديد الشكيمة في العتوّ. فإن قلت: معنى أو: ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو ليكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟ قلت: لو قيل: ولا تطعهما، جاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل:
لا تطع أحدهما، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما: عن طاعتهما جميعا أنهى. كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف، علم أنه منهى عن ضربهما على طريق الأولى وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ودم على صلاة الفجر والعصر وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وبعض الليل فصل له. أو يعنى صلاة المغرب والعشاء، وأدخل مِنَ على الظرف للتبعيض، كما دخل على المفعول في قوله لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وتهجد له هزيعا طويلا «١» من الليل:
ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)
إِنَّ هؤُلاءِ الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يؤثرونها على الآخرة، كقوله بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَراءَهُمْ قدّامهم أو خلف ظهورهم لا يعبئون به يَوْماً ثَقِيلًا استعير الثقيل لشدّته وهو له، من الشيء الثقيل الباهظ لحامله. ونحوه: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الأسر: الربط والتوثيق. ومنه: أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ وهو الإسار. وفرس مأسور الخلق. وترس مأسور بالعقب «٢». والمعنى: شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب. ومثله قولهم: جارية معصوبة الخلق ومجدولته وَإِذا شِئْنا أهلكناهم وبَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ في شدّة الأسر، يعنى: النشأة الأخرى. وقيل: معناه: بدلنا غيرهم ممن يطيع. وحقه أن يجيء بإن، لا بإذا، كقوله وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ.
[سورة الإنسان (٧٦) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
(٢). قوله «وترس مأسور بالعقب» في الصحاح: العقب- بالتحريك-: العصب: الذي تعمل منه الأوتار، الواحدة عقبة، تقول منه: عقبت السهم والقدح والقوس: إذا لويت شيئا منه عليه. (ع)

هذِهِ إشارة إلى السورة أو إلى الآيات القريبة فَمَنْ شاءَ فمن اختار الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة وَما تَشاؤُنَ الطاعة «١» إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بقسرهم عليها «٢» إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بأحوالهم وما يكون منهم حَكِيماً حيث خلقهم مع علمه بهم. وقرئ: تشاؤن، بالتاء. فإن قلت: ما محل أَنْ يَشاءَ اللَّهُ؟ قلت النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قراءة ابن مسعود: إلا ما يشاء الله. لأنّ ما مع الفعل كأن معه يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ هم المؤمنون ونصب الظَّالِمِينَ بفعل يفسره. أعدّ لهم، نحو: أوعد وكافأ، وما أشبه ذلك. قرأ ابن مسعود: وللظالمين، على: وأعدّ للظالمين وقرأ ابن الزبير: والظالمون على الابتداء، وغيرها أولى لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف عليها فيها، مع مخالفتها للمصحف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريرا» «٣».
(٢). قوله «إلا أن يشاء الله أن بقسرهم عليها» إرادته تعالى تستلزم وجود المراد، ولكن لا تستلزم كون العبد مقسورا ومجبورا على الفعل إلا عند المعتزلة. وأما أهل السنة فقد أثبتوا للعبد للكسب، مع كون الله هو الخالق لفعل عندهم، وتفصيل ذلك في التوحيد. (ع)
(٣). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.