
تُضْمَرُ بَعْدَهَا (أَنْ) فَتَنْصِبَ الْمُضَارِعَ. وَكَوْنُ الْمُشَرَّكِ بِهَا وَاحِدًا مِنْ مُتَعَدِّدٍ مُلَازِمٌ لِمَوَاقِعِهَا كُلِّهَا.
فَمَعْنَى الْآيَةِ نَهْيٌ عَنْ طَاعَةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَوْصُوفَيْنِ وَيَعْلَمُ أَنَّ طَاعَةَ كِلَيْهِمَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَهُمَا مَعًا فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ طَاعَةُ أَحَدِهِمَا وَزِيَادَةٌ.
وَمَوْقِعُ مِنْهُمْ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ آثِماً فَإِنَّهُ صِفَةُ آثِماً فَلَمَّا قُدِّمَتِ الصِّفَةُ عَلَى الْمَوْصُوفِ صَارَتْ حَالًا.
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مِنْ سِيَاقِ الدَّعْوَةِ أَوْ لِأَنَّهُمُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أَيْ لَا كَمَا يَزْعُمُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّكَ جِئْتَ بِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، أَيْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ.
وَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى: وَلَا تُطِعْ أَحَدًا من الْمُشْركين.
[٢٥- ٢٦]
[سُورَة الْإِنْسَان (٧٦) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٦]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦)
أَيْ أَقْبِلْ عَلَى شَأْنِكَ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَذِكْرِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الذِّكْرِ. وَهَذَا إِرْشَادٌ إِلَى مَا فِيهِ عَوْنٌ لَهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَ.
وَالْمُرَادُ بِالْبُكْرَةِ وَالْأَصِيلِ اسْتِغْرَاقُ أَوْقَاتِ النَّهَارِ، أَيْ لَا يَصُدُّكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ مُعَاوَدَةِ الدَّعْوَةِ وَتَكْرِيرِهَا طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَيَدْخُلُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ الصَّلَوَاتُ مِثْلُ قَوْلِهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: ١١٤، ١١٥]. وَكَذَلِكَ النَّوَافِلُ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَفْرُوضٍ مِنْهَا وَغَيْرِ مَفْرُوضٍ. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الطَّلَبِ مِنْ وُجُوبٍ وَنَفْلٍ.
وَذِكْرُ اسْمِ الرَّبِّ يَشْمَلُ تَبْلِيغَ الدَّعْوَةِ وَيَشْمَلُ عِبَادَةَ اللَّهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالنَّوَافِلِ وَيَشْمَلُ الْمَوْعِظَةَ بِتَخْوِيفِ عِقَابِهِ وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ.

وَقَوْلُهُ: بُكْرَةً وَأَصِيلًا يَشْمَلُ أَوْقَاتَ النَّهَارِ كلهَا الْمَحْدُود مِنْهَا كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرَ الْمَحْدُودِ كَأَوْقَاتِ النَّوَافِلِ، وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ.
وبُكْرَةً هِيَ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَأَصِيلًا عَشِيًّا.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ تَفَرُّغٍ مِنْ بَثِّ الدَّعْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إِلَى قَوْلِهِ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ الْآيَة [المزمل: ٢- ٢٠] وَهَذَا خَاصٌّ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ فَرْضًا وَنَفْلًا.
وَقَوْلُهُ: وَسَبِّحْهُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّسْبِيحَ التَّنَفُّلُ.
وَالتَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ بِالْقَوْلِ وَبِالِاعْتِقَادِ، وَيَشْمَلُ الصَّلَوَاتَ وَالْأَقْوَالَ الطَّيِّبَةَ وَالتَّدَبُّرَ فِي دَلَائِلِ صِفَاتِ اللَّهِ وَكَمَالَاتِهِ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُ مَادَّةِ التَّسْبِيحِ عَلَى الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ، وَقَالَ تَعَالَى:
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطّور: ٤٨]، أَيْ مِنَ اللَّيْلِ. وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ:
وسَبِّحْهُ هُنَا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُ طَوِيلًا صِفَةُ لَيْلًا وَحَيْثُ وَصَفَ اللَّيْلَ بِالطُّولِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ فِيهِ، عُلِمَ أَنَّ لَيْلًا أُرِيدَ بِهِ أَزْمَانُ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ مَجْمُوعُ الْوَقْتِ الْمُقَابِلِ لِلنَّهَارِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ كُلُّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وَصْفِهِ بِالطُّولِ جَدْوَى، فَتَعَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ الطُّولِ تَقْيِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ، أَيْ سَبِّحْهُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إِلَى أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [الْإِنْسَان: ٢، ٤] أَوْ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنِ (اسْجُدْ) وسَبِّحْهُ.
وَانْتَصَبَ لَيْلًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِ سَبِّحْهُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَوْقَاتِهَا
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصِيلَ يُطْلَقُ عَلَى وَقْتِ الظُّهْرِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَسَبِّحْهُ إِشَارَةً إِلَى قِيَامِ اللَّيْلِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الْحجر: ٩٧، ٩٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمّل: ٨- ١٠].