
تفسير سورة القيامة
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)
قوله عز وجل: لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ/ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير «١» :«لأُقْسِمُ بِيَومِ الْقِيَامَةِ وَلأُقْسِمُ» فقيل: على قراءة الجمهور «لا» زائدة، وقال الفَرَّاءُ: «لا» نفيٌ لكلام الكفار، وزجر لهم، ورَدٌّ عليهم، وجمهور المتأوِّلين على أَنَّ اللَّه تعالى أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، أقسم سبحانه بيوم القيامة تنبيهاً منه على عِظَمِهِ وهوله قال الحسن: النفس اللَّوَّامَةُ: هي اللوامة لصاحبها في ترك الطاعة ونحو ذلك «٢»، فهي على هذا ممدوحة ولذلك أقسم اللَّه بها، وقال ابن عباس وقتادة: اللوامة:
هي الفاجرة، اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا «٣» وأعراضها، وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها، والنفس في الآية اسم جنس.
قال ع «٤» : وكل نفس متوسطة ليست بالمُطْمَئِنَّةِ ولا بالأَمَّارَةِ بالسوء فإنَّها لوَّامة في الطرفين، مرةً تلوم على ترك الطاعة، ومرةً تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنَّتْ خلصت وصفت، قال الثعلبيُّ: وجواب القسم محذوف تقديره: لَتُبْعَثُنَّ، دَلَّ عليه قوله:
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ أي: للإحياء والبعث، والإنسان هنا الكافر المكذّب
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٤٢١)، وذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٦٤)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٠٢). [.....]
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٤٠٢).

بالبعث، انتهى، والبنان: الأصابع، ونُسَوِّيَ بَنانَهُ معناه: نتقنها سَوِيَّةً قاله القتبي، وهذا كله عند البعث، وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: المعنى: بل نحن قادرون أنْ نسوي بنانه، أي: نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كَخُفِّ البعير أو كحافر الحمار، لا يمكنه أنْ يعمل بها شيئاً، ففي هذا تَوَعُّدٌ ما، والقول الأول أجرى مع رصف الكلام «١».
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ معناه: أنَّ الإنسان إنَّما يريد شهواتِهِ ومعاصِيَه ليمضيَ فيها أبداً راكباً رأسه، ومطيعاً أمله، ومُسَوِّفاً توبته قال البخاريُّ: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يقول: سوف أتوب، سوف أعمل «٢»، انتهى.
قال الفخر «٣» : قوله: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فيه قولان:
الأَوَّل: ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان، لا ينزع عنه فَعَنِ ابن جُبَيْرٍ:
يقدم الذنب، ويُؤَخِّرُ التوبة «٤»، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوإ أعماله.
القول الثاني: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي: يُكَذِّبُ بما أمامه من البعث والحساب لأَنَّ من كذب حَقًّا كان مفاجراً، والدليل على هذا القول قوله تعالى: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي:
متى يكون ذلك تكذيباً له، انتهى.
وسؤال الكفار أَيَّانَ هو على معنى التكذيب والهزء، وأَيَّانَ بمعنى: متى، وقرأ نافع وعاصم بخلافٍ: «بَرَقَ الْبَصَرُ» - بفتح الراء «٥» - بمعنى: لَمَعَ وصار له بريق، وحار عند الموت، وقرأ أبو عمرو وغيره بكسرها بمعنى: شَخَصَ، والمعنى متقارب، قال
(٢) ينظر: «فتح الباري» (٨/ ٥٤٧)، كتاب «التفسير».
(٣) ينظر: «الفخر الرازي» (٣٠/ ١٩٢).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٣٠)، رقم: (٣٥٥٥٥)، وذكره البغوي (٤/ ٤٢١)، وابن عطية (٥/ ٤٠٢)، وابن كثير (٤/ ٤٤٨).
(٥) وعاصم قرأها هكذا من رواية أبان.
ينظر: «السبعة» (٦٦١)، و «الحجة» (٦/ ٣٤٥)، و «معاني القراءات» (٣/ ١٠٦)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٤١٤)، و «شرح الطيبة» (٦/ ٨١)، و «العنوان» (٢٠٠)، و «حجة القراءات» (٧٣٦)، و «شرح شعلة» (٦١٣)، و «إتحاف» (٢/ ٥٧٤).