آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ
ﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ

حال إنبائه بقبائح أفعاله يعرض عليه كتابه فيقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: ١٤] فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فقيل له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قراءته بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال أو التأمل فيه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان أمره وشرح عقوبته، والحاصل على هذا أنه تعالى يوقف الكافر على جميع أعماله على التفصيل وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة انتهى. فضمير بِهِ
وكذا الضمائر بعد للكتاب المشعر به قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
وكذا قوله تعلى بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
على قول من فسّر البصيرة بالكتابين، ولعل الجملة على هذا الوجه في موضع الحال من مفروع يُنَبَّأْ بتقدير القول كأنه قيل يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ
عند أخذ كتابه بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
مقولا له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ فالربط عليه ظاهر جدا ومن هنا اختاره البلخي ومن تبعه لكنه مخالف للصحيح المأثور الذي عليه الجمهور من أن ذلك خطاب له صلّى الله عليه وسلم. والظاهر أن التحريك قبل النهي إنما صدر منه عليه الصلاة والسلام بحكم الإباحة الأصلية فلا يتم احتجاج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية. وقال الإمام: لعل ذلك الاستعجال إن كان مأذونا فيه عليه الصلاة والسلام إلى وقت النهي وكأنه أراد بالإذن الإذن الصريح المخصوص وفيه بعد ما
وعن الضحاك أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك وشق عليه فنزل لا تُحَرِّكْ بِهِ
إلخ وليس بالثبت ولعل ظاهر الآية لا يساعده ثم إنه ربما يتخيل في الآية وجه غير ما ذكر عن القفال الربط عليه ظاهر أيضا وهو أنه يكون الخطاب في لا تُحَرِّكْ
إلخ لسيد المخاطبين حقيقة أو من باب إياك أعني واسمعي أو لكل من يصلح له وضمير بِهِ
ونظائره ليوم القيامة والجملة اعتراض جيء به لتأكيد تهويله وتفظيعه مع تقاضي السباق له فكأنه لما ذكر سبحانه مما يتعلق بذلك اليوم الذي فتحت السورة بعظامه ما يتعلق قوي داعي السؤال عن توقيته وأنه متى يكون وفي أي وقت يبين لا سيما وقد استشعر أن السؤال عن ذلك إذا لم يكن استهزاء مما لا بأس به فقيل لا تُحَرِّكْ بِهِ
أي بطلب توقيته لسانك وهو نهي عن السؤال على أتم وجه كما يقال لا تفتح فمك في أمر فلان لتعجل به لتحصل علمه على عجلة إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
ما يكون فيه من الجمع وَقُرْآنَهُ
ما يتضمن شرح أحواله وأهواله من القرآن.
فَإِذا قَرَأْناهُ
ما يتعلق به فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إظهاره وقوعا بالنفخ في الصور وهو الطامة الكبرى وحاصله لا تسأل عن توقيت ذلك اليوم العظيم مستعجلا

صفحة رقم 159

معرفة ذلك فإن الواجب علينا حكمة حشر الجمع فيه وإنزال قرآن يتضمن بيان أحواله ليستعد له وإظهاره بالوقوع الذي هو الداهية العظمى وما عدا ذلك من تعيين وقته فلا يجب علينا حكمة بل هو مناف للحكمة فإذا سألت فقد سألت ما ينافيها فلا تجاب انتهى. وفيه ما فيه وما كنت أذكره لولا هذا التنبيه واللائق بجزالة التنزيل ولطيف إشاراته ما أشار إليه ذو اليد الطولى جار الله تجاوز الله تعالى عن تقصيراته فتأمل فلا حجر على فضل الله عز وجل. ولما ردع سبحانه عن حب العاجلة وترك الآخرة عقب ذلك بما يتضمن تأكيد هذا الردع مما يشير إلى حسن عاقبة حب الآخرة وسوء مغبة العاجلة فقال عز من قائل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين المخلصين يوم إذ تقوم القيامة بهية متهللة من عظيم المسرة يشاهد عليها نضرة النعيم على أن وُجُوهٌ مبتدأ وناضِرَةٌ خبره ويَوْمَئِذٍ منصوب ب ناضِرَةٌ وناظِرَةٌ في قوله تعالى إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ خبر ثان للمبتدأ أو نعت ل ناضِرَةٌ وإِلى رَبِّها متعلق ب ناظِرَةٌ وصح وقوع النكرة مبتدأ لأن الموضع موضع تفصيل كما في قوله:

فيوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسرّ
لا على أن النكرة تخصصت بيومئذ كما زعم ابن عطية لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثث ولا على أن ناضِرَةٌ صفة لها والخبر ناظِرَةٌ كما قيل لما أن المشهور الغالب كون الصفة معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع وثبوت النظرة للوجوه ليس كذلك فحقه أن يخبر به نعم ذكر هذا غير واحد احتمالا في الآية وقال فيه أبو حيان هو قول سائغ. ومعنى كونها ناظرة إلى ربها أنها تراه تعالى مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه وتشاهده تعالى على ما يليق بذاته سبحانه ولا حجر على الله عز وجل وله جل وعلا لتنزه الذاتي التام في جميع تجلياته. واعترض بأن تقديم المعمول يعني إِلى رَبِّها يفيد الاختصاص كما في نظائره في هذه السورة وغيرها وهو لا يتأتى لو حمل ذلك على النظر بالمعنى المذكور ضرورة أنهم ينظرون إلى غيره تعالى. وحيث كان الاختصاص ثابتا كان الحمل على ذلك باطلا وفيه أن التقديم لا يتمحض للاختصاص كيف والموجب من رعاية الفاصلة والاهتمام قائم ثم لو سلم فهو باق بمعنى أن النظر إلى غيره تعالى في جنب النظر إليه سبحانه لا يعد نظرا كما قيل في نحو ذلك الكتاب على أن ذلك ليس في جميع الأحوال بل في بعضها وفي ذلك لالتفات إلى ما سواه جل جلاله
فقد أخرج مسلم والترمذي عن صهيب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم».
وفي حديث جابر وقد رواه ابن ماجة: «فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم».
ومن هنا قيل:
فينسون النعيم إذا رأوه فيا خسران أهل الاعتزال
وكثيرا ما يحصل نحو ذلك للعارفين في هذه النشأة فيستغرقون في بحار الحب وتستولي على قلوبهم أنوار الكشف فلا يلتفتون إلى شيء من جميع الكون:
فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بإسفاره أنوار ضوء الكواكب
وقيل الكلام على حذف مضاف أي إلى ملك أو رحمة أو ثواب ربها ناظرة والنظر على معناه المعروف أو على حذف مضاف والنظر بمعنى الانتظار فقد جاء لغة بهذا المعنى أي إلى أنعام ربها منتظرة وتعقب بأن

صفحة رقم 160

الحذف خلاف الظاهر وما زعموا من الداعي مردود في محله وبأن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدى بإلى بل بنفسه وبأنه لا يسند إلى الوجه فلا يقال وجه زيد منتظر، والمتبادر من الإسناد إسناد النظر إلى الوجوه الحقيقية وهو يأني إرادة الذات من الوجه وتفصّى الشريف المرتضى في الدرر عن بعض هذا بأن إِلى اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء وهو مفعول به ل ناظِرَةٌ بمعنى منتظرة فيكون الانتظار قد تعدى بنفسه وفيه من البعد ما فيه والزمخشري إذا تحققت كلامه رأيته لم يدع أن النظر بمعنى الانتظار ليتعقب عليه بما تعقب، بل أراد أن النظر بالمعنى المتعارف كناية عن التوقع والرجاء، فالمعنى عنده أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلّا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلّا إياه سبحانه وتعالى. ويرد عليه أنه يرجع إلى إدارة الانتظار لكن كناية والانتظار لا يساعده المقام إذ لا نعمة فيه وفي مثله قيل الانتظار موت أحمر والذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب ما
أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدارقطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ»
فهو تفسير منه عليه الصلاة والسلام: ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين ومثل هذا فيما ذكر ما
أخرجه الدارقطني والخطيب في تاريخه عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقرأه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فقال: «والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطعمون ويسقون ويطيبون ويحلون ويرفع الحجاب بينه فينظرون إليه وينظر إليهم عز وجل»
وهذا الحجاب على ما قال السادة من قبلهم لا من قبله عز وجل وأنشدوا:

وكنا حسبنا أن ليلى تبرقعت وأن حجابا دونها يمنع اللثما
فلاحت فلا والله ما ثم حاجب سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى
ثم إن أجهل الخلق عندهم المعتزلة وأشدهم عمى وأدناهم منزلة حيث أنكروا صحة رؤية من لا ظاهر سواه بل لا موجود على الحقيقة إلّا إياه وأدلة إنكارهم صحة رؤيته تعالى مذكورة مع ردودها في كتب الكلام وكذا أدلة القدوم على الصحة وكأني بك بعد الإحاطة وتدقيق النظر تميل إلى أنه سبحانه وتعالى يرى لكن لا من حيث ذاته سبحانه البحت ولا من حيث كل تجل حتى تجليه بنوره الشعشعاني الذي لا يطاق. وقرأ زيد بن عليّ «وجوه يومئذ نضرة» بغير ألف وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ أي شديدة العبوس وباسل أبلغ من باسر فيما ذكر لكنه غلب في الشجاع إذا اشتدت كلوحته فعدل عنه لإيهامه غير المراد وعنى بهذه الوجوه وجوه الكفرة تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي داهية عظيمة تقصم فقار الظهر من فقره أصاب فقاره وقال أبو عبيدة فاقِرَةٌ من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار وفاعل تَظُنُّ ضمير (الوجوه) بتقدير مضاف أي تظن أربابها وجوز أن يكون الضمير راجعا إليها على أن الوجه بمعنى الذات استخداما وفيه بعد. والظن قيل أريد به اليقين واختاره الطيبي وأن المصدرية لا تقع بعد فعل التحقيق الصرف دون فعل الظن أو ما يؤدي معنى العلم فتقع بعده كالمشددة والمخففة على ما نص عليه الرضي وقيل هو على معناه الحقيقي المشهور والمراد تتوقع ذلك واختاره من اختاره ولا دلالة فيه بواسطة التقابل على أن يكون النظر ثم بالمعنى المذكور كما زعمه من زعمه وتحقيق ذلك أن ما يفعل بهم في مقابلة النظر إلى الرب سبحانه لكون ذلك غاية النعمة وهذا غاية النقمة وجيء

صفحة رقم 161

بفعل الظن هاهنا دلالة على أن ما هم فيه وإن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبدا وذلك لأن المراد بالفاقرة ما لا يكننه من العذاب فكل ما يفعل به من أشده استدل منه على آخر وتوقع أشد منه وإذا كان ظانا كان أشد عليه مما إذا كان عالما موطنا نفسه على الأمر على أن العلم بالكائن واقع لا بما يتجدد آنا فآنا فهذا وجه الإتيان بفعل الظن ولم يؤت في المقابل بفعل ظن أو علم لأنهم وصلوا إلى ما لا مطلوب وراءه وذاقوه ثم بعد ذلك التفاوت في ذلك النظر قوة وضعفا بالنسبة إلى الرائي على ما قرره فلعل هذا حجة على الزاعم لا له أسبغ الله علينا برؤيته فضله كَلَّا ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة كأنه قيل ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي تنقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة إِذا بَلَغَتِ أي النفس أو الروح الدال على سياق الكلام كما في قول حاتم:

أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ونحو قول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يقولون أرسلت السماء نعم قد يصرح فيما هنا بالفاعل فيقال بلغت النفس التَّراقِيَ أي أعالي الصدر وهي العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة وأنشدوا لدريد بن الصمة:
ورب عظيمة رافعت عنهم وقد بلغت نفوسهم التراقي
وَقِيلَ مَنْ راقٍ
أي قال من حضر صاحبها من يرقيه وينجيه مما هو فيه من الرقية وهي ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام المعد لذلك ومنه آيات الشفاء ولعلة أريد به مطلق الطبيب أعم من أن يطب بالقول أو بالفعل وروي عن ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ما هو ظاهر فيه والاستفهام عند بعض حقيقي وقيل هو استفهام استبعاد وإنكار أي قد بلغ مبلغا لا أحد يرقيه كما يقال عند اليأس من ذا الذي يقدر أن يرقى هذا المشرف على الموت وروي ذلك عن عكرمة وابن زيد وقيل هو من كلام ملائكة الموت أي أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي وهو العروج وروي هذا عن ابن عباس أيضا وسليمان التيمي والاستفهام عليه حقيقي وتعقب بأن اعتبار ملائكة الرحمة يناسب قوله تعالى بعد فَلا صَدَّقَ إلخ ودفع بأن الضمير للإنسان والمراد به الجنس والاقتصار بعد ذلك على أحوال بعض الفريقين لا ينافي العموم فيما قبل ووقف حفص رواية عن عاصم على من وابتدأ راقٍ
وأدغم الجمهور قال أبو علي: لا أدري ما وجه قراءته وكذلك قرأ بَلْ رانَ [المطففين: ١٤] وقال بعضهم كأنه قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة فسكت سكتة لطيفة ليشعر أنهما كلمتان وإلّا فكان ينبغي أن يدعم في مَنْ راقٍ
فقد قال سيبويه إن النون تدغم في الراء وذلك نحو من راشد والإدغام بغنة وبغير غنة ولم يذكر الإظهار ويمكن أن يقال لعل الإظهار رأي كوفي فعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالما بالنحو، وأما بَلْ رانَ فقد ذكر سيبويه في ذلك أيضا أن إظهار اللام وإدغامها مع الراء حسنان، فلعل حفصا لما أفرط في إظهار الإظهار فيه صار كالوقف القليل واستدل بقوله تعالى إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ على أن النفس جسم لا جوهر مجرد إذ لا يتصف بالحركة والتحيز وأجاب بعض بأن هذه النفس المسند إليها بلوغ التراقي هي النفس الحيوانية لا الروح الأمرية وهي الجوهر المجرد دون الحيوانية وآخر بأن المراد ببلوغها التراقي قرب انقطاع التعلق وهو مما يتصف به المجرد إذ لا يستدعي حركة ولا تحيزا ولا نحوهما مما يستحيل عليه. وزعم أنه لا يمكن إرادة الحقيقة ولو كانت النفس جسما ضرورة أن بلوغها التراقي لا يتحقق إلّا بعد مفارقتها القلب وحينئذ يحصل الموت ولا يقال مَنْ راقٍ
كما هو ظاهر

صفحة رقم 162

على الوجه الأول فيه ولا يتأنى أيضا ما يذكر بعد على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى فيه والذي عليه جمهور الأمة سلفا وخلفا أن النفس وهي الروح الأمرية جسم لطيف جدا ألطف من الضوء عند القائل بجسميته والنفس الحيوانية مركب لها وهي سارية في البدن نحو سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم وسريان السيال الكهربائي عند القائل به في الأجسام والأدلة على جسميتها كثيرة وقد استوفاها الشيخ ابن القيم في كتاب الروح وأتى فيه بالعجب ثم الظاهر أن المراد ببلوغ التراقي مشارفة الموت وقرب خروج الروح من البدن سلمت الضرورة التي في كلام ذلك الزاعم أم لم تسلم لقوله تعالى وَقِيلَ مَنْ راقٍ
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي وظن الإنسان المحتضر أن ما نزل به الفراق من حبيبته الدنيا ونعيمها وقيل فراق الروح الجسد، والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقين قال الإمام ولعله إنما سمي اليقين هاهنا بالظن لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت بل الظن الغالب مع رجاء الحياة أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التفّت ساقه بساقه والتوت عليها عند هلع الموت وقلبه كما روي عن الشعبي وقتادة وأبي مالك وقال الحسن وابن المسيب هما ساقا الميت عند ما لفا في الكفن وقيل المراد بالتفافهما انتهاء أمرهما وما يراد فيهما يعني موتهما وقيل يبسهما بالموت وعدم تحرك إحداهما عن الأخرى حتى كأنهما ملتفتان فهما أول ما يخرج الروح منه فتبردان قبل سائر الأعضاء وتيبسان فالساق بمعناها الحقيقي وأل فيها عهدية أو عوض
عن المضاف إليه وقال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد. وهو رواية عن الحسن أيضا الْتَفَّتِ شدة فراق الدنيا لشدة إقبال الآخرة واختلطتا ونحوه قول عطاء: اجتمع عليه بشدة مفارقة المألوف من الوطن والأهل والولد والصديق وشدة القوم على ربه جل شأنه لا يدري بماذا يقدم عليه، فالساق عبارة عن الشدة وهو مثل في ذلك والتعريف للعهد وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك الْتَفَّتِ أسوق حاضريه من الإنس والملائكة هؤلاء يجهزون بدنه إلى القبر وهؤلاء يجهزون روحه إلى المساء فكأنهم للاختلاف في الذهاب والإياب والتردد في الأعمال قد التفّت أسوقهم وهذا الالتفاف على حد اشتباك الأسنة إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي إلى الله تعالى وحكمه سوقه لا إلى غيره على أن المساق مصدر ميمي كالمقال وتقدم الخير للحصر والكلام على تقدير مضاف هو حكم وقيل هو موعد والمراد به الجنة والنار وقيل ليس هناك مضاف مقدر على أن الرب جل شأنه هو السائق أي سوق هؤلاء مفوض إلى ربك لا إلى غيره والظاهر ما تقدم ثم إن كان هذا في أن الفاجر أو فيما يعمه والبر يراد بالسوق السوق المناسب للمسوق وهذه الآية لعمري بشارة لمن حسن ظنه بربه وعلم أنه الرب الذي سبقت رحمته غضبه:
قالوا غدا نأتي ديار الحمى... وينزل الركب بمغناهم
فقلت لي ذنب فما حيلتي... بأي وجه أتلقاهم
قالوا أليس العفو من شأنهم... لا سيما عمن ترجاهم
ثم إن جواب إِذا محذوف دل عليه ما ذكر أي كان ما كان أو انكشفت للمرء حقيقة الأمر أو وجد الإنسان ما عمله من خير أو شر فَلا صَدَّقَ أي ما يجب تصديقه من الله عز وجل والرسول صلّى الله عليه وسلم والقرآن الذي أنزل عليه وَلا صَلَّى ما فرض عليه أي لم يصدق ولم يصل فلا داخلة على الماضي كما في قوله:
إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك لا ألما
والضمير في الفعلين للإنسان المذكور في قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ والجملة عطف على قوله سبحانه

صفحة رقم 163

يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ على ما ذهب إليه الزمخشري فالمعنى بناء على ما علمت من أن السؤال سؤال استهزاء واستبعاد استبعد البعث وأنكره فلم يأت بأصل الدين وهو التصديق بما يجب تصديقه به ولا بأهم فروعه وهو الصلاة ثم أكد ذلك بذكر ما يضاده بقوله تعالى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى نفيا لتوهم السكوت أو الشك أي ومع ذلك أظهر الجحود والتولي عن الطاعة ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر افتخارا بذلك ومن صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله تعالى به فيمشي خائفا متطامنا لا فرحا متبخترا فثم للاستبعاد ويَتَمَطَّى من المط فإن المتبختر يمد خطاه فيكون أصله يتمطط قلبت الطاء فيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال كما قالوا تظني من الظن وأصله تظنن أو من المطا وهو الظهر فإن المتبختر يلوي مطاه تبخترا فيكون معتلا بحسب الأصل
وفي الحديث «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم وسلط شرارهم على خيارهم»
وجعل الطيبي عطف هذه الجملة للتعجب على معنى يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ وما استعد له إلّا ما يوجب دماره وهلاكه. وقال إن قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ إلخ جواب عن السؤال أقحم بين المعطوف والمعطوف عليه لشدة الاهتمام وأن قوله سبحانه لا تُحَرِّكْ
إلخ استطراد على ما سمعت وجعل صَدَّقَ من التصدق هو المروي عن قتادة وقال قوم: هو من التصديق أي فلا صدّق ماله ولا زكاه. قال أبو حيان: وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب كما في قوله تعالى قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: ٤٣- ٤٦] وحمله على نفي التصديق يقتضي أن يكون ولكن كذب تكرارا ولزم أن يكون استدراكا بعد وَلا صَلَّى لا بعد فَلا صَدَّقَ لأنهما متوافقان وفيه نظر يعلم مما قررناه ثم إنه استبعد العطف على قوله تعالى يَسْئَلُ إلخ وذكر أن الآية نزلت في أبي جهل وكادت تصرح به في قوله تعالى يَتَمَطَّى فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم وكان يكثر منها ولم يبين حال العطف على هذا وأنت تعلم أن العطف لا يأبي حديث النزول في أبي جهل وقد قيل إن قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ نازل فيه أيضا والحكم على الجنس بأحكام لا يضر فيه تعين بعض أفراده في حكم منها نعم لا شك في بعد هذا العطف لفظا لكن في بعده معنى مقال ولعل فيما بعد ما يقوي جانب العطف على ذاك أَوْلى لَكَ فَأَوْلى من الولي بمعنى القرب فهو للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل هلاكا أولى لك بمعنى أهلكك الله تعالى هلاكا أقرب لك من كل شر، وهلاك وهذا كما غلب بعدا وسحقا في الهلاك وفي الصحاح عن الأصمعي قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد:

فعادى بين هاديتين منها وأولى أن نزيد على الثلاث
أي قارب ثم قال قال ثعلب: ولم يقل أحد في أَوْلى أحسن مما قاله الأصمعي وعلى هذا أَوْلى فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق واللام مزيدة على ما قيل وقيل هو فعل ماض دعائي من الولي أيضا إلّا أن الفاعل ضميره تعالى واللام مزيدة أي أولاك الله تعالى ما تكرهه أو غير مزيدة أي أدنى الله الهلاك لك وهو قريب مما ذكر عن الأصمعي وعن أبي علي أن أَوْلى لَكَ علم للويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير منصرف للعلمية والوزن فهو مبتدأ ولَكَ خبره وفيه أن الويل غير منصرف فيه ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة وأن القلب على خلاف الأصل لا يرتكب إلّا بدليل وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه، وقيل اسم فعل مبني ومعناه ويلك شر بعد شر. واختار جمع أنه أفعل تفضيل بمعنى الأحسن والأحرى خبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها وأهل لها فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تكرير للتأكيد وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر. والظاهر أن الجملة

صفحة رقم 164

تذييل للدعاء لا محل لها من الإعراب، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير القول كأنه قيل ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى مقولا له أَوْلى لَكَ إلخ ويؤيده ما أخرج النسائي والحاكم وصححه وعبد بن حميد وابن جرير ابن المنذر وغيرهم عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أشيء قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نفسه أم أمره الله تعالى به؟ قال: بل قال من قبل نفسه ثم أنزله الله تعالى واستدل بقوله سبحانه فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى إلخ. على أن الكفار مخاطبون بالفروع فلا تغفل أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي مهملا فلا يكلف ولا يجزى وقيل أن يترك في قبره فلا يبعث ويقال: إبل سدى أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع وأسديت الشيء أي أهملته وأسديت حاجتي ضيعتها ولم أعتن بها. قال الشاعر:

فأقسم بالله جهد اليم ين ما خلق الله شيئا سدى
ونصب سُدىً على الحال من ضمير يُتْرَكَ وأَنْ يُتْرَكَ في موضع المفعولين ليحسب والاستفهام إنكاري وكان تكريره بعد قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ لتكرير إنكار الحشر قيل مع تضمن الكلام الدلالة على وقوعه حيث إن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح والرذائل والتكليف لا يتحقق إلّا بمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة وجعل بعضهم هذا استدلالا عقليا على وقوع الحشر وفيه بحث لا يخفى وقوله تعالى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى إلخ استئناف وارد لإبطال الحسبان المذكور فإن مداره لما كان استبعادهم للإعادة دفع ذلك ببدء الخلق. وقرأ الحسن «ألم تك» بباء الخطاب على سبيل الالتفات وقرأ الأكثر «تمنى» بالتاء الفوقية فالضمير للنطفة أي يمنيها الرجل ويصبها في الرحم وعلى قراءة الياء وهي قراءة حفص وأبي عمرو بخلاف عنه ويعقوب وسلام والجحدري وابن محيصن للمني ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي بقدرة الله تعالى كما قال تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون: ١٤] فَخَلَقَ أي فقدر الله عز وجل بأن جعلها سبحانه مخلقة فَسَوَّى فعدل وكمل فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان وقيل من المني الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بدل من الزوجين والخنثى لا يعدوهما. وقرأ زيد بن علي الزوجان بالألف على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع حالاته أَلَيْسَ ذلِكَ العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع بِقادِرٍ أي قادرا وقرأ زيد «يقدر» مضارعا عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وهو أهون من البدء في قياس العقل. وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان «على أن يحيي» بسكون الياء وأنت تعلم أن حركاتها حركة إعراب لا تنحذف إلّا في الوقف وقد جاء في الشعر حذفها بدونه وعن بعضهم «يحيي» بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء قال ابن خالويه: لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي قالوا لسكون الياء الثانية ولا يعتدون بالفتحة فيها لأنها حركة إعراب غير لازمة، والفراء أجاز ذلك واحتج بقوله تمشي بشدة فتعي يريد فتعيا، وبالجملة القراءة شاذة
وجاء في عدة أخبار أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «سبحانك اللهم وبلى» وفي بعضها «سبحانك فبلى»
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فليقل بلى، ومن قرأ والمرسلات فبلغ فبأي حديث بعده يؤمنون فليقل آمنا بالله».

صفحة رقم 165
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية