
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠)وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)
هَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ تَلَقِّيهِ الْوَحْيِ مِنَ الْمَلَكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى أَخْذِهِ وَيُسَابِقُ الْمَلَكَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا جَاءَهُ الملك بالوحي أن يستمع له وتكفل الله لَهُ أَنْ يَجْمَعَهُ فِي صَدْرِهِ وَأَنْ يُيَسِّرَهُ لأدائه على الوجه الذي ألقاه عليه، وَأَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُ وَيُفَسِّرَهُ وَيُوَضِّحَهُ. فَالْحَالَةُ الْأُولَى جَمْعُهُ فِي صَدْرِهِ وَالثَّانِيَةُ تِلَاوَتُهُ وَالثَّالِثَةُ تَفْسِيرُهُ وإيضاح معناه. ولهذا قال تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
أَيْ بالقرآن كما قال تعالى:
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] ثم قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أَيْ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ
أَيْ أَنْ تَقْرَأَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ
أَيْ إِذَا تلاه عليك الملك عن الله تعالى: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أَيْ فَاسْتَمَعْ لَهُ ثُمَّ اقْرَأْهُ كَمَا أَقْرَأَكَ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أَيْ بَعْدَ حِفْظِهِ وَتِلَاوَتِهِ نُبَيِّنُهُ لَكَ وَنُوَضِّحُهُ وَنُلْهِمُكَ مَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَدْنَا وَشَرَعْنَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً فَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ قَالَ: فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا أُحَرِّكُ شَفَتَيَّ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، وَقَالَ لِي سَعِيدٌ: وَأَنَا أُحَرِّكُ شَفَتَيَّ كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَأُهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ كَمَا أَقْرَأَهُ «٢». وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ بِهِ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَلْقَى مِنْهُ شِدَّةٌ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ عُرِفَ فِي تَحْرِيكِهِ شَفَتَيْهِ يَتَلَقَّى أَوَّلَهُ وَيُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَنْسَى أَوَّلَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ آخِرِهِ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
وَهَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذلك.
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٧٥، باب ١، والترمذي في تفسير سورة ٧٥، باب ١، والنسائي في الافتتاح باب ٣٧.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ «١» مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
قَالَ: كَانَ لَا يَفْتُرُ مِنَ القراءة مخافة أن ينساه فقال الله تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أَنْ نَجْمَعَهُ لَكَ وَقُرْآنَهُ
أَنْ نُقْرِئَكَ فَلَا تَنْسَى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ تَبْيِينَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَكَذَا قال قتادة.
وقوله تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ أَيْ إِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمُخَالَفَةِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الْحَقِّ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، إِنَّهُمْ إِنَّمَا هِمَّتُهُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ وَهُمْ لَاهُونَ مُتَشَاغِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ مِنَ النَّضَارَةِ أَيْ حَسَنَةٌ بَهِيَّةٌ مُشْرِقَةٌ مَسْرُورَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أَيْ تَرَاهُ عَيَانًا كَمَا رَوَاهُ البخاري رحمه الله تعالى فِي صَحِيحِهِ «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا» «٢». وَقَدْ ثَبَتَتْ رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَلَا مَنْعُهَا، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَة وهما في الصحيحين أنا نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ دُونَهُمَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَذَلِكَ» «٣».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هذا القمر! فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» «٤» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» «٥». وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ- قَالَ- يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ! قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ وَهِيَ الزِّيَادَةُ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «٦» وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ «إِنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ يَضْحَكُ» «٧» يَعْنِي فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْعَرَصَاتِ وفي
(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤.
(٣) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢.
(٤) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩.
(٥) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٦.
(٦) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩٧.
(٧) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣١٦. [.....]

رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عبد الملك بن أبحر، حَدَّثَنَا ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، يَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وَجْهِ اللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» «٢» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنِ شَبَابَةَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ ثُوَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ فذكره، قال: ورواه عبد الملك بن أبحر عَنْ ثُوَيْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ ثُوَيْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عن ابن عمر ولم يَرْفَعْهُ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَأَوْرَدْنَا الْأَحَادِيثَ بِطُرُقِهَا وَأَلْفَاظِهَا مِنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ، وَلَكِنْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَرَّقًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ.
وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُدَاةِ الْأَنَامِ، وَمَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بإلى مُفْرَدُ الْآلَاءِ وَهِيَ النِّعَمُ كَمَا قَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال: تَنْتَظِرُ الثَّوَابَ مِنْ رَبِّهَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ مُجَاهِدٍ وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ أَيْضًا فَقَدْ أَبْعَدَ هَذَا الْقَائِلُ النُّجْعَةَ وَأَبْطَلَ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ:
١٥] قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: ما حجب الكفار إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْأَبْرَارَ يَرَوْنَهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا دَلَّ عليه سياق الآية الكريمة وهي قوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ عَنِ الْحَسَنِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ قَالَ حَسَنَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قَالَ: تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَنْضُرَ وَهِيَ تَنْظُرُ إلى الخالق.
وقوله تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ هَذِهِ وُجُوهُ الْفُجَّارِ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَاسِرَةٌ، قَالَ قَتَادَةُ: كَالِحَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَغَيَّرَ أَلْوَانُهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ باسِرَةٌ أَيْ عَابِسَةٌ تَظُنُّ أَيْ تَسْتَيْقِنُ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ قَالَ مُجَاهِدٌ: دَاهِيَةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: شَرٌّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ. تَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا هَالِكَةٌ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَظُنُّ أن ستدخل النار، وهذا المقام كقوله تعالى:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٦] وكقوله تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: ٣٨- ٤٢] وكقوله تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى نَارًا حامِيَةً- إِلَى قَوْلِهِ- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ [الْغَاشِيَةِ: ٢- ١٠] فِي أَشْبَاهِ ذلك من الآيات والسياقات.
(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٧٥، باب ٢.
(٣) تفسير الطبري ١٢/ ٣٤٣.