إثبات البعث والمعاد وعلائمه
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ١٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
الإعراب:
لا أُقْسِمُ.. لا: إما زائدة، أو ليست زائدة، بل هي ردّ لكلام مقدم في سورة أخرى، وقرئ: لأقسم وقد جاء حذف النون مع وجود اللام، والأكثر في كلامهم ثبوت النون مع اللام.
بَلى قادِرِينَ حال، وعامله محذوف لدلالة الكلام عليه، وتقديره: بلى نجمعها قادرين.
لِيَفْجُرَ اللام زائدة، والفعل منصوب بأن مضمرة مقدرة.
يَسْئَلُ أَيَّانَ.. أَيَّانَ: مبني على الفتح، لتضمنه معنى حرف الاستفهام لأنه بمعنى (متى) الذي بني لتضمنه حرف الاستفهام، وبني بالفتحة لأنها أخف الحركات.
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إنما قال جُمِعَ بالتذكير إما لأن تأنيث الشمس غير حقيقي، فيجوز حينئذ تذكير الفعل الذي أسند إليها، وإما لأنه جمع بين المذكر والمؤنث، فغلّب جانب المذكر على جانب المؤنث، كقولهم: قام أخواك هند وزيد.
كَلَّا، لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ كَلَّا: حذف خبرها، أي لا وزر هناك، أي لا ملجأ، والْمُسْتَقَرُّ
: مبتدأ، وإِلى رَبِّكَ
: خبره. صفحة رقم 251
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
أنث بَصِيرَةٌ
إما لأن الهاء فيه للمبالغة، كعلّامة ونسّابة وراوية، أو لحمل الإنسان على النفس، فلذلك أنث بَصِيرَةٌ
أو لحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، أي عين بصيرة.
البلاغة:
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً استفهام إنكاري للتوبيخ والتقريع.
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ الاستفهام بغرض استبعاد الأمر وإنكاره.
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ توافق الفواصل المسمى بالسجع المرصّع.
قَدَّمَ وَأَخَّرَ
بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
لا أُقْسِمُ أي أقسم، ولا: زائدة في الموضعين، وتزيد العرب كلمة (لا) للتأكيد، وذلك أن المقسم عليه إذا كان منتفيا، جاز الإتيان ب (لا) قبل القسم، لتأكيد النفي، والمقسم عليه هنا: هو إثبات المعاد، والرد على الجهلة المعاندين القائلين بعدم بعث الأجساد. ويرى قوم أن لا ردّ لكلام سابق متقدم وجواب له، فالعرب لما أنكروا البعث، قيل لهم: ليس الأمر كما زعمتم، وأقسم أن البعث حق لا ريب فيه. وقرئ لأقسم بغير ألف بعد اللام، وجواب القسم محذوف، أي لتبعثن، دل عليه ما بعده: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ. بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ هي التي تلوم نفسها، وإن اجتهدت في الطاعة والإحسان، والمراد بهذا القسم تعظيم يوم القيامة، والتنويه بالنفس الطامحة إلى الدرجة الأرقى. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ المراد به الجنس، وإسناد الفعل إليهم لأن بعضهم يحسب، أو المراد من كان سبب النزول، وهو
عدي بن أبي ربيعة، سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أمر القيامة، فأخبره به، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك، أو يجمع الله هذه العظام؟
أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ للبعث والإحياء بعد تفرقها.
بَلى نجمعها. قادِرِينَ مع جمعها. عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أصابعه، أي نعيد عظامها كما كانت، ونضم بعضها إلى بعض كما هي، مع صغرها ولطافتها، فكيف بكبار العظام؟
لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ليدوم على فجوره في مستقبل الزمان. أَيَّانَ متى، وهو سؤال استهزاء وتكذيب. بَرِقَ الْبَصَرُ دهش وتحير لما رأى ما كان يكذبه، وقرئ برق بفتح الراء.
وَخَسَفَ الْقَمَرُ أظلم وذهب ضوءه. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ذهب ضوءهما في يوم القيامة، ولا يتنافى ذلك مع الخسوف، فإنه مستعار للمحاق.
الْمَفَرُّ الفرار. كَلَّا ردع عن طلب الفرار. لا وَزَرَ لا ملجأ يتحصن به.
الْمُسْتَقَرُّ
أي استقرار أمر الخلائق، فيحاسبون ويجازون. يُنَبَّؤُا
يخبر. بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
بما قدم من عمله وبما أخر منه، فلم يعلمه، أي أول عمله وآخره. بَصِيرَةٌ
حجة شاهدة ناطقة بعمله فلا بد من جزائه. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به وهو جمع معذرة على غير قياس، كالمناكير جمع منكر، فقياسه معاذر، وذلك أولى.
سبب النزول: نزول الآية (٣- ٤) :
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ..:
روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، ولم أومن به، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها؟! فنزلت.
وقيل: نزلت في أبي جهل كان يقول: أيزعم محمد (صلّى الله عليه وسلّم) أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها، فيعيدها خلقا جديدا «١» ؟!
التفسير والبيان:
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أي أقسم بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوّامة وهي التي تلوم صاحبها على تقصيره، لتبعثن، وقد حذف جواب القسم، لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. وهي نفس المؤمن، تلوم على ما فات وتندم، فتلوم على الشر لم تعمله، وعلى الخير لماذا لم تستكثر منه.
والقسم بشيء لتعظيمه وتفخيمه، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وفي الإقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه، فإن
الإقسام بالمعدوم لا يعقل معناه، وفي ضم النفس اللوّامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة: هو إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدّها «١». والصحيح أنه أقسم بهما جميعا معا، كما قال قتادة رحمه الله «٢»، أي أنه سبحانه سيجمع العظام، ثم يحيي كل إنسان، ليحاسبه ويجزيه.
قال الحسن البصري: إن المؤمن، والله ما نراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديث نفسي، وإن الفاجر يمضي قدما وقدما ما يعاتب نفسه. وقال أيضا: ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه، يوم القيامة.
وقال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ قال: يقسم ربك بما شاء ممن خلقه.
وقال الفرّاء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.
والخلاصة: أن الأشبه بظاهر التنزيل كما قال ابن كثير: أن النفس اللوّامة هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أي أيظن أي إنسان أننا لن نقدر على جمع عظامه، بعد أن صارت رفاتا، فنعيدها خلقا جديدا، وذلك حسبان باطل، فإنا نجمعها، وبلى سنجمعها قادرين عند البعث على إعادة تسوية أكثر العظام تفرقا، وأدقها أجزاء، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها. وقوله: قادِرِينَ تأكيد القدرة لأنه
(٢) تفسير ابن كثير: ٤/ ٤٤٧
يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبّه عليها بقوله: أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ لأن من قدر على ضم سلاميات الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت، كان على ضم العظام الكبار أقدر. وإنما خص البنان وهو الأنملة بالذكر لأنه آخر ما يتم به خلقه، فذكره يدل على تمام الأصبع، وتمام الأصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها.
وقيل: معنى التسوية: جعلها شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار، بحيث لا يقدر على البطش. والمراد أنه قادر على ردّ العظام والمفاصل إلى هيئتها الأولى، وعلى ضد ذلك.
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ هذا إضراب عما سبق لتقرير أمر آخر، وهو أن الإنسان يريد في الحقيقة أن يدوم على فجوره في مستقبل أيامه، فيقدّم الذنب، ويؤخر التوبة. قال سعيد بن جبير: يقدّم الذنب، ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله.
والخلاصة: أن إنكار البعث يتولد من شبهتين: الأولى- بأن يستبعد الإنسان اجتماع الأجزاء بعد تفرقها وتلاشيها، والثانية- من التهوّر، بأن ينكر المعاد بالهوى واسترسال الطبع والميل إلى الفجور.
فأجاب تعالى عن الشبهة الأولى بقوله: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ.. وأنكر على صاحب الشبهة الثانية بقوله: بل يريد أن يكذب بما أمامه من البعث والحساب، لئلا تنتقص عنه اللذات العاجلة، كما قال تعالى:
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي يسأل سؤال استبعاد لوقوعه واستهزاء وتعنتا: متى يوم القيامة؟ ومن لم يؤمن بالبعث ارتكب أعظم الآثام، وبادر إلى انتهاب اللذات غير عابئ بما يفعل.
ونظير الآية قوله تعالى: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك ٦٧/ ٢٥] وقوله سبحانه: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام ٦/ ٢٨- ٢٩].
ثم ذكر الله تعالى ثلاث علامات للقيامة، فقال:
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ أي فإذا دهش البصر وتحير من شدة هول البعث ويوم القيامة، وذهب ضوء القمر كله دون أن يعود كما يعود بعد الخسوف في الدنيا، وذهب وتبدد ضوء الشمس والقمر جميعا، فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار، أي أن معالم الكون كلها تتغير، وحينئذ يقول ابن آدم إذا عاين هذه الأهوال يوم القيامة: هل من ملجأ أو موئل، وأين المفر من الله سبحانه ومن حسابه وعذابه؟! والمراد بالإنسان: الجنس، وهو ابن آدم، فيشمل المؤمن والكافر لهول ما يشاهد منها. وقيل: المراد الكافر خاصة دون المؤمن، لثقة المؤمن ببشرى ربه.
فيجيب الله تعالى سلفا في الدنيا بقوله:
كَلَّا لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه، فلا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله يعصمكم يومئذ، وإنما إلى الله ربك المرجع والمصير، في الجنة أو في النار، كما في قوله تعالى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم ٥٣/ ٤٢] فهناك استقرار العباد على الدوام. ولا بد من تقدير مضاف في قوله: إِلى رَبِّكَ
أي إلى حكم ربك، أو إلى جنته أو ناره.
ثم ربط الله تعالى نوع المصير بالعمل في الدنيا، فقال:
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
أي يخبر الإنسان في يوم القيامة أثناء العرض والحساب بجميع أعماله التي قدمها من خير أو شر، قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى: وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف ١٨/ ٤٩].
ثم بيّن أن الإنسان عالم بأعماله، فقال:
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي بل إن الإنسان شهيد على نفسه، عالم بما فعله، فهو حجة بيّنة على أعماله، ولو اعتذر وأنكر، كما قال تعالى: اقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء ١٧/ ١٤] والآية إضراب عن الإخبار بأعمال الإنسان إلى مرتبة أوضح وأعرف.
وقال ابن عباس وغيره: إن المراد سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه.
والمعاذير في رأي الواحدي والزمخشري: اسم جمع للمعذرة، كالمناكير للمنكر، ولو كان جمعا لقيل: معاذر، بغير ياء. والمراد بقوله: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
: ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه، وقيل: ولو جادل عنها، فهو بصير عليها، وقيل: معاذيره: حجته، وهذا قول مجاهد، قال ابن كثير:
والصحيح قول مجاهد وأصحابه، كقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام ٦/ ٢٣] وكقوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة ٥٨/ ١٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- أقسم الله سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه، كما أنه أقسم أيضا بنفس
المؤمن الطامحة دائما إلى زيادة الخير والطاعة، والإقلال من الشر والمعصية تنويها بشأنها وإخلاصها. والمناسبة بين القيامة وبين النفس اللوامة: أن المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النفس اللوامة، من السعادة والشقاوة. والقسم بهذه الأشياء عند المحققين قسم بربها وخالقها في الحقيقة، فكأنه قيل: أقسم برب القيامة على وقوع يوم القيامة.
٢- المقسم عليه هو وقوع البعث حتما لا شك فيه، قال الزجاج: أقسم الله بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، ليجمعن العظام للبعث. وأكد الله تعالى قسمه بأنه القادر على أن يعيد السّلاميات على صغرها، ويؤلف بينها حتى تستوي «١».
٣- إن شأن الكافر المكذب بما أمامه من البعث والحساب أن يرتكب أعظم الآثام، ويقتحم المعاصي دون حسبان للنتائج والمخاطر، ودون تقدير، لعواقب الأمور والتبعة (المسؤولية) الناجمة عنها.
٤- تتبدل معالم الكون يوم القيامة، وتظهر علامات دالة عليه، منها حيرة البصر ودهشته من الأهوال، وذهاب ضوء القمر دون عودة، وذهاب ضوء الشمس والقمر معا، أي جمع الله، بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس، كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه.
٥- إذا ظهرت علائم القيامة حار الإنسان، وقال: أين المهرب؟ أين المفر؟ ويحتمل ذلك وجهين: أحدهما- أين المفر من الله استحياء منه؟ والثاني- أين المفر من جهنم حذرا منها؟
٦- لا مفر من الله، ولا ملجأ من النار، ولا حصن من العذاب، وإنما
المرجع والمصير والمنتهى إلى حكم الله، وصيرورة كل إنسان إما إلى الجنة وإما إلى النار.
٧- يخبر ابن آدم يوم القيامة عند وزن الأعمال، برّا كان أو فاجرا، بما أسلف من عمل سيئ أو صالح أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده، أو بأول عمله وآخره، أو بما قدم من المعصية، وأخّر من الطاعة. إن هذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال، لا عند الموت
لما أخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علّمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورّثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته».
وأخرجه أبو نعيم الحافظ عن أنس بن مالك بلفظ: «سبع يجري أجرهنّ للعبد بعد موته وهو في قبره: من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورّث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته».
وفي الصحيح عند مسلم: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
٨- الإنسان خير شاهد على نفسه، فهو حجة بيّنة على أعماله، حتى ولو أنكر واعتذر، فقال: لم أفعل شيئا، فإن عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فلو اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذّب عذره.
٩- استنبط القاضي ابن العربي من قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ..
ست مسائل وهي بإيجاز «١» :
الأولى- فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه لأنها بشهادة منه عليه، قال الله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور ٢٤/ ٢٤].
الثانية- لا يصح الإقرار إلا من مكلف (بالغ عاقل) لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه لأن الحجر يسقط قوله إذا كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض، كان منه ساقط، ومنه جائز، كما هو مقرر في الفقه.
الثالثة- قوله تعالى: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
معناه: ولو اعتذر لم يقبل منه، وقد اختلف العلماء في جواز الرجوع عن الإقرار في الحدود الخالصة لله تعالى: فقال أئمة المذاهب الأربعة على المشهور عند المالكية: يقبل رجوعه بعد الإقرار، ويسقط الحد، وهو الصحيح عملا
بما رواه الأئمة، منهم البخاري ومسلم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ردّ المقرّ بالزنى مرارا أربعا، كل مرة يعرض عنه، ولما شهد على نفسه أربع مرات، دعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال:
أحصنت؟ قال: نعم. وقال لأصحابه- فيما رواه أبو داود وغيره- حينما هرب- أي ماعز- فاتبعوه: «هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه».
وروي عن مالك أنه قال: لا يعذر المقر إلا إذا رجع لشبهة، عملا
بحديث: «لا عذر لمن أقرّ» «٢».
الرابعة- قال ثعلب: معنى قوله تعالى: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أنه إذا اعتذر يوم القيامة وأنكر الشرك، لا ينفع الظالمين معذرتهم، ويختم على فمه،
(٢) بداية المجتهد: ٢/ ٤٣٠، الدردير والدسوقي: ٤/ ٣١٨ [.....]