وللعرب في اجتماعهم على رد أمره، ولا يتجه أن يكون العبد نوحا إلا على تحامل في تأويل نسق الآية، وقال ابن جبير: معنى الآية، إنما قول الجن لقومهم يحكون، والعبد محمد صلى الله عليه وسلم.
والضمير في كادُوا لأصحابه الذين يطوعون له ويقتدون به في الصلاة، فهم عليه لبد. واللبد الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض، ومنه قول عبد بن مناف بن ربع: [البسيط]
| صافوا بستة أبيات وأربعة | حتى كأن عليهم جانيا لبدا |
«قال إنما» وهذه تؤيد بأنه محمد عليه السلام وإن كان الاحتمال باقيا من كليهما. واختلف القراء في فتح الياء من رَبِّي وفي سكونها. ثم أمر تعالى محمدا نبيه عليه السلام بالتبري من القدرة وأنه لا يملك لأحد ضَرًّا وَلا رَشَداً، بل الأمر كله لله. وقرأ الأعرج «رشدا» بضم الراء والشين، وقرأ أبيّ بن كعب «لكم غيا ولا رشدا». وقولهم مِنْ دُونِهِ أي من عند سواه. و «الملتحد» : الملجأ الذي يمال إليه ويركن، ومنه الإلحاد الميل، ومنه اللحد الذي يمال به إلى أحد شقي القبر.
قوله عز وجل:
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٨]
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
اختلف الناس في تأويل قوله إِلَّا بَلاغاً: فقال الحسن ما معناه أنه استثناء منقطع، والمعنى لن يجيرني من الله أحد إِلَّا بَلاغاً، فإني إن بلغت رحمني بذلك، والإجارة: للبلاغ مستعارة إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته، وقال بعض النحاة على هذا المعنى هو استثناء متصل. والمعنى لن أجد ملتحدا إِلَّا بَلاغاً، أي شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع، فيجبرني الله. وقال قتادة: التقدير لا أملك إِلَّا بَلاغاً إليكم، فأما الإيمان أو الكفر فلا أملكه. وقال بعض المتأولين إِلَّا بتقدير الانفصال، و «إن» صفحة رقم 384
شرط و «لا» نافية كأنه يقول: ولن أجد ملتحدا إن لم أبلغ من الله ورسالته، ومِنَ في قوله مِنَ اللَّهِ لابتداء الغاية. وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يريد الكفر بدليل الخلود المذكور. وقرأ طلحة وابن مصرف، «فإن له» على معنى فجزاؤه أن له، وقوله حَتَّى إِذا رَأَوْا، ساق الفعل في صيغة الماضي تحقيقا لوقوعه. وقوله تعالى: مَنْ أَضْعَفُ يحتمل أن تكون مَنْ في موضع رفع على الاستفهام والابتداء وأَضْعَفُ خبرها، ويحتمل أن تكون في موضع نصب ب «سيعلمون»، وأَضْعَفُ خبر ابتداء مضمر، ثم أمره تعالى بالتبري من معرفة الغيب في وقت عذابهم الذي وعدوا به، والأمد: المدة والغاية، وعالِمُ يحتمل أن يكون بدلا من رَبِّي [الجن: ٢٠] ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مضمر على القطع، وقرأ السدي: «عالم الغيب» على الفعل الماضي ونصب الباء، وقرأ الحسن: «فلا يظهر» بفتح الياء والهاء «أحد» بالرفع. وقوله تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ معناه فإنه يظهره على ما شاء مما هو قليل من كثير، ثم يبث تعالى حول ذلك الملك الرسول حفظة رَصَداً لإبليس وحزبه من الجن والإنس، وقوله تعالى: لِيَعْلَمَ قال قتادة معناه لِيَعْلَمَ محمد أن الرسل قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وحفظوا ومنع منهم. وقال سعيد بن جبير: معناه يعلم محمد أن الملائكة الحفظة، الرصد النازلين بين يديه جبريل وخلفه قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. وقال مجاهد لِيَعْلَمَ من كذب وأشرك أن الرسل قد بلغت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا العلم لا يقع لهم إلا في الآخرة، وقيل معناه لِيَعْلَمَ الله رسالته مبلغة خارجة إلى الوجود لأن علمه بكل شيء قد تقدم، وقرأ الجمهور: «ليعلم» بفتح الياء أي الله تعالى.
وقرأ ابن عباس: «ليعلم» بضم الياء، وقرأ أبو حيوة: «رسالة ربهم» على التوحيد، وقرأ ابن أبي عبلة:
«وأحيط» على ما لم يسم فاعله، وقوله تعالى: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ معناه كل شيء معدود، وقوله تعالى:
لِيَعْلَمَ الآية، مضمنه أنه تعالى قد علم ذلك، فعلى هذا الفعل المضمر انعطف وَأَحاطَ، وَأَحْصى والله المرشد للصواب بمنه.