آيات من القرآن الكريم

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ

[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ١٦]

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦)
انْتِقَالٌ مِنَ الْاسْتِدْلَالِ إِلَى التَّخْوِيفِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ خَالِقُ الْأَرْضِ وَمُذَلِّلُهَا لِلنَّاسِ وَتَقَرَّرَ أَنَّهُمْ مَا رَعَوْا خَالِقَهَا حَقَّ رِعَايَتِهِ فَقَدِ اسْتَحَقُّوا غَضَبَهُ وَتَسْلِيطَ عِقَابِهِ بِأَنْ يُصَيِّرَ مَشْيِهِمْ فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ إِلَى تَجَلْجُلٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ. فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ وَالْاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَحْذِيرٌ.
ومَنْ اسْمٌ مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُ صَادِقٌ عَلَى مَوْجُودٍ ذِي إِدْرَاكٍ كَائِنٍ فِي السَّمَاءِ. وَظَاهِرُ وُقُوعِ هَذَا الْمَوْصُولِ عَقِبَ جُمَلِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا إِلَى قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الْملك: ١٥] أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَوْصُولِ مِنْ قَبِيلِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ أَأَمِنْتُمُوهُ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَيَتَأَتَّى أَنَّ الْإِتْيَانَ بالموصول لما تَأذن بِهِ الصِّلَةُ مِنْ عَظِيمِ تَصَرُّفِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ الْقُوَى وَالْعَنَاصِرَ وَعَجَائِبَ الْكَائِنَاتِ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: مَنْ فِي السَّماءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي يُعْطِي ظَاهِرُهُ مَعْنَى الْحُلُولِ فِي مَكَانٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ، وَيَجِيءُ فِيهِ مَا فِي أَمْثَالِهِ مِنْ طَرِيقَتَيِ التَّفْوِيضِ لِلسَّلَفِ وَالتَّأْوِيلِ لِلْخَلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ أَوَّلُوهُ بِمَعْنَى: مَنْ فِي السَّمَاءِ عَذَابُهُ أَوْ قُدْرَتُهُ أَوْ سُلْطَانُهُ عَلَى نَحْوِ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ [الْفجْر: ٢٢] وَأَمْثَالِهِ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِالسَّمَاءِ لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى يَنْفِيهِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ.
وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْصُولَ غَيْرُ مَكِينٍ فِي بَابِ الْمُتَشَابِهِ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ مَنْ أَن يكون مَا صدقه مَخْلُوقَاتٍ ذَاتَ إِدْرَاكٍ مَقَرُّهَا السَّمَاءُ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ فَيَصِحُّ أَنْ تَصْدُقَ مَنْ عَلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطَّلَاق: ١٢]، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ مَلَكٌ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ وَظِيفَتُهُ فِعْلُ هَذَا الْخَسْفِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْعَذَابِ.
وَإِسْنَادُ فِعْلِ يَخْسِفَ إِلَى «الْمَلَائِكَةِ» أَوْ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقِيقَةٌ لِأَنَّهُ

صفحة رقم 33

فَاعِلُ الْخَسْفِ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَةِ قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ... إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ... إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [العنكبوت: ٣١- ٣٤].
وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ يَخْسِفَ مُرَاعَاةٌ لِلَفْظِ مَنْ إِذَا أُرِيدَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مُرَاعَاةٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى إِذا كَانَ مَا صدق مَنْ مَلَكًا وَاحِدًا.
وَالْمَعْنَى: تَوْبِيخُهُمْ عَلَى سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ رَبَّهُمْ كَأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ بِأَنْ يَخْسِفُوا الْأَرْضَ بِالْمُشْرِكِينَ.
وَالْخَسْفُ: انْقِلَابُ ظَاهِرِ السَّطْحِ مِنْ بَعْضِ الْأَرْضِ بَاطِنًا وَبَاطِنُهُ ظَاهِرًا وَهُوَ شِدَّةُ الزِّلْزَالِ.
وَفِعْلُ خَسَفَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا وَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ سُورَةِ النَّحْلِ [٤٥].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُمُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ يَخْسِفُ الْأَرْضَ مُصَاحِبَةً لِذَوَاتِكُمْ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ يَخْسِفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ الْخَسْفَ مِنْ شَأْنِ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ مُطَّرِدٌ مَعَ أَنْ، وَالْخَافِضُ الْمَحْذُوفُ حَرْفُ (مِنْ).
وَفُرِّعَ عَلَى الْخَسْفِ الْمُتَوَقَّعِ الْمُهَدَّدِ بِهِ أَنْ تَمُورَ الْأَرْضُ تَفْرِيعَ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ لِأَنَّ الْخَسْفَ يُحْدِثُ الْمَوْرَ، فَإِذَا خُسِفَتِ الْأَرْضُ فَاجَأَهَا الْمَوْرُ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى مَا يُنَاسِبُ جَعْلَ التَّهْدِيدِ بِمَنْزِلَةِ حَادِثٍ وَقَعَ فَلِذَلِكَ جِيءَ بَعْدَهُ بِالْحَرْفِ الدَّالِّ عَلَى الْمُفَاجَأَةِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُفَاجَأَةِ أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً زَمَنَ الْحَالِ لَا الْاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي «مُغْنِيِ اللَّبِيبِ» فَإِذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ فِي الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الرّوم: ٢٥]، وَإِذَا أُرِيدَ اسْتِحْضَارُ حَالَةَ فِعْلٍ حَصَلَ فِيمَا مَضَى نُزِّلَ كَذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ فِي الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [يُونُس: ٢١]، فَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِذا هِيَ تَمُورُ مُؤْذِنًا بِتَشْبِيهِ حَالَةِ الْخَسْفِ الْمُتَوَقَّعِ الْمُهَدَّدِ بِهِ بِحَالَةِ خَسْفٍ حَصَلَ بِجَامِعِ التَّحَقُّقِ كَمَا قَالُوا فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ

صفحة رقم 34
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية