آيات من القرآن الكريم

يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ

يعملون الصالحات الجنان، ويدخل الكافرون النيران، وفي ذلك أمر بالطاعة وتحذير من المعصية.
ثم أبانت أن كل ما يحدث في الكون بإرادة الله ومشيئته، وأكدت الأمر بطاعة الله تعالى والرسول ﷺ والتوكل على الله وحده، فإن أعرضوا فلا يضير رسول الله ﷺ بقاءهم على الكفر.
ثم حذرت من عداوة بعض الأزواج والأولاد الذين يمنعون الإنسان أحيانا عن الجهاد، وأوصت بالعفو والصفح عن المسيء، وأخبرت بأن الأموال والأولاد فتنة واختبار.
وختمت السورة بالأمر بالتقوى والإنفاق في سبيل الله لإعلاء دينه، وحذرت من الشح والبخل، وأبانت مضاعفة الثواب للمحسنين المنفقين من أجل إعلاء كلمة الله تعالى.
مظاهر قدرة الله تعالى
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)

صفحة رقم 234

البلاغة:
فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بينهما طباق، وكذا بين قوله: يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ.
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر والاختصاص من حيث الحقيقة، أي له وحده الملك والحمد.
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بينهما جناس ناقص، لاختلاف الحركات والشكل.
يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ينزهه ويمجّده ويدل عليه جميع المخلوقات في السموات والأرض، بدلالتها على كماله واستغنائه، واللام زائدة، وعبر ب ما دون (من) تغليبا للأكثر. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي أن قدرته في إيجاد جميع المخلوقات على سواء.
فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ قال الشوكاني: خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، والكافر يكفر ويختار الكفر، والمؤمن يؤمن ويختار الإيمان، والكل بإذن الله، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مبصر أعمالكم عالم بها، فيعاملكم بما يناسب أعمالكم. بِالْحَقِّ بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو أن جعل الأرض مقر المكلفين ليعلموا فيجازيهم وسخر السموات لهم. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي جعل أشكالكم الآدمية بأحسن صورة، أي أتقنها وأحكمها، وجعلكم أنموذج جميع المخلوقات كما قال تعالى: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين ٩٥/ ٤] فالتصوير: تخطيط وتشكيل وتمييز وتخصيص.
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ إليه المرجع فأحسنوا السرائر والظواهر. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ عليم بحديث النفس وخطرات القلب، والسر، فلا يخفى عليه شيء كليا أو جزئيا، وعلمه بجميع الأشياء على سواء. قال البيضاوي: وتقديم تقرير القدرة: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ على العلم: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولا وبالذات، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.
التفسير والبيان:
هذه السورة هي آخر المسبحات، قال تعالى:
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلى

صفحة رقم 235

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
أي ينزه الله عن كل نقص وعيب، ويمجده، ويدل عليه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه، فهو بارئها ومالكها، له الملك وحده دون غيره، لأنه الخالق المصور المتصرف في جميع الكائنات، وله الحمد والشكر وحده، لأنه المستحق لذاك، وهو المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره، فالملك والحمد يختصان به، ليس لغيره منهما شيء، وما كان لعباده منهما فهو من فيضه وراجع إليه، وهو قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء في السموات والأرض، فمهما أراد كان، وما لم يشأ لم يكن.
والتسبيح إما باللسان والنطق كما يفعل الإنسان، وإما بنطق وحال لا نفقهه، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء ١٧/ ٤٤].
ثم ذكر الله تعالى بعض آثار قدرته، فقال:
١- خلق الإنسان: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إن الله هو الذي أوجدكم على هذه الصفة، وآل أمركم أن يكون بعضكم كافرا باختياره وكسبه على خلاف مقتضى فطرت، وبعضكم مؤمنا مختارا للإيمان على وفق الفطرة السوية القائمة على التوحيد والإيمان بالله، والله العالم البصير قبل الخلق بما يؤول إليه أمر كل واحد منكم، الشهيد على أعمال عباده، وسيجزيهم بها أتم الجزاء.
ونظير الآية قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد ٥٧/ ٢٦].
أخرج أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع عن النبي ﷺ قال: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه».

صفحة رقم 236

٢- خلق العالم كله بالحكمة البالغة: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي أوجد السموات والأرض بالعدل والحكمة البالغة المحققة لنفع العالم في الدين والدنيا، وخلقكم أيها البشر في أكمل صورة، وأحسن تقويم، وأجمل شكل، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار ٨٢/ ٦- ٨] وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً، وَالسَّماءَ بِناءً، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ [غافر ٤٠/ ٦٤] وقال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين ٩٥/ ٤].
وإليه في عالم الآخرة المرجع والمآب، فيجازي كل نفس بما كسبت.
٣- العلم الشامل: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي يعلم الله جميع ما في السموات والأرض، فلا تخفى عليه من ذلك خافية، ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه، والله محيط علمه بما يضمره كل إنسان في نفسه من الأسرار والمعتقدات.
ويلاحظ أنه تعالى عطف الخاص على العام في قوله: وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ ثم عطف ما هو أخص من الخاص وهو حديث النفس الذي لا يعبر عنه الإنسان بكلام أو إشارة أو بيان ما.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- ينزه الله ويمجده جميع مخلوقاته في السموات والأرض لدلالتها على كماله واستغنائه، وهو تنزيه وتسبيح دائم متجدد شامل كل جزء من أجزاء العالم.
وهذا بخلاف قوله تعالى في موضع آخر: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

صفحة رقم 237
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية