آيات من القرآن الكريم

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ

فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- حذر الله المشركين في مكة وغيرها من تماديهم في الكفر بأن يعاقبوا مثل عقوبات كفار الأمم الخالية كقوم نوح وهود وصالح التي عوقبوا بها في الدنيا، وتنتظرهم في الآخرة.
٢- إن أسباب تعذيب الكفار في الماضي: هي كفرهم بالله وجحودهم بآياته، وتكذيب رسلهم الذين أرسلوا إليهم بالمعجزات والدلائل الواضحة، وإنكارهم البعث والحساب والجزاء.
وكان كفرهم برسلهم أنهم أنكروا أن يكون الرسول من البشر، واستصغروه، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده، كما لم يعلموا أن الله تعالى مستغن بسلطانه عن طاعة عباده.
٣- أمر الله نبيه بأن يقسم بربه للمشركين على أن البعث حق كائن، لا محالة، فلا بد من أن يخرجوا من قبورهم أحياء، وعلى أنهم سيخبرون بما عملوا، وأن البعث والجزاء يسير على الله، إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
المطالبة بالإيمان والتحذير من أهوال القيامة
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٨ الى ١٠]
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)

صفحة رقم 242

الإعراب:
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يَوْمَ ظرف متعلق بقوله: لَتُبْعَثُنَّ أو لَتُنَبَّؤُنَّ وتقديره: لتبعثن أو لتنبؤون يوم يجمعكم ليوم الجمع. ويَجْمَعُكُمْ بالرفع وهي القراءة المشهورة، وقرئ يجمعكم بسكون العين لكثرة توالي الحركات، كما قرئ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ بسكون الميم [الإنسان ٧٦/ ٩].
البلاغة:
وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا استعارة، أطلق النور على القرآن بطريق الاستعارة، فإن القرآن ينير الظلمات ويبدد الشبهات.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً.. ووَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا... مقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين.
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ بينهما جناس اشتقاق.
يَوْمُ التَّغابُنِ استعارة، فقد أطلق التغابن على ما يكون يوم القيامة من مبادلة الخير بالشر، وهو يشبه المبادلة والمعاوضة والتجارة.
المفردات اللغوية:
وَرَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم. وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا أي القرآن، فإنه بإعجازه ظاهر بنفسه، مبين شارح لما تضمنه من عقيدة وتشريع وأحكام. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مجاز عليه.
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ أي اذكر يوم جمعكم وحشركم. لِيَوْمِ الْجَمْعِ هو يوم القيامة الذي تجمع فيه الخلائق كلها من ملائكة وإنس وجن، لأجل ما فيه من الحساب والجزاء، سمي يوم القيامة بيوم الجمع، لأن الله يجمع فيه جميع المخلوقات في صعيد واحد. يَوْمُ التَّغابُنِ يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، مستعار من تغابن التجار بأن يبيع البائع بأقل من القيمة، أو يشتري المشتري بأكثر من الثمن. وتغابن الآخرة، هو التغابن في الحقيقة، لا في أمور الدنيا، لعظم أمور الآخرة ودوامها، وفسر بعض المعاصرين يوم التغابن بأنه يوم الذهول. وفيه تهكم بالأشقياء،
جاء في الحديث الذي رواه أحمد بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار، لو أساء، ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة، لو أحسن، ليزداد حسرة».
وَيَعْمَلْ صالِحاً أي ويعمل عملا صالحا. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي مجموع الأمرين من تكفير السيئات ودخول الجنات مع الخلود الأبدي، لأنه جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا القرآن، الذي تدل آياته على البعث.

صفحة رقم 243

ويلاحظ أن الآيتين معا:

وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا.. بيان للتغابن وتفصيل له، كما ذكر البيضاوي.
المناسبة:
بعد بيان أدلة التوحيد والألوهية والنبوة، والرد على منكري البعث، وإيضاح ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، لكفرهم بالله وتكذيب الرسل، طالب الله تعالى بالإيمان بالله تعالى ورسوله ﷺ وبآي القرآن وبالبعث، علما بأن الاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان، ثم حذر من الحساب والجزاء في الآخرة، وأبان مظاهر التغابن فيه، وفصله تفصيلا تاما.
التفسير والبيان:
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي إذا كان أمر البعث هيّنا يسيرا على الله لا يصرفه صارف، فصدّقوا بالله ورسوله محمد ﷺ وكتابه المنير الهادي إلى السعادة، والمنقذ من ظلمة الضلالة، فهو نور يهتدى به إذا أشكلت الأمور، والله عالم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم، فهو مجازيكم على ذلك خيرا أو شرا. وفي هذا وعيد على كل ما يؤتى من المعاصي، أو يترك من الفرائض والواجبات. ووصف القرآن بأنه نور، لأنه يهتدى به في الشبهات، كما يهتدى بالنور في الظلمات.
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ أي واذكروا يوم القيامة الذي يجمع الله فيه أهل المحشر من الأولين والآخرين في صعيد واحد للجزاء، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله، وبين كل نبي وأمته، كما قال تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود ١١/ ١٠٣]. وقال سبحانه: قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ، إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة ٥٦/ ٤٩- ٥٠].
ذلك اليوم وهو يوم القيامة يوم التغابن الذي يظهر فيه غبن الكافر بتركه

صفحة رقم 244

الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، فكل من الفريقين تظهر له الخسارة الفادحة، فكأن أهل النار استبدلوا بالخير الشر، وبالجيد الرديء وبالنعيم العذاب، وأهل الجنة على العكس مما ذكر، ومع ذلك يشعرون بالنقص والخسارة، إذا لم يقدموا عملا صالحا أكثر مما قدموا، فالمغبون: من غبن أهله ومنازله في الجنة،
جاء في الحديث الصحيح المتقدم الذي رواه أحمد: «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزدادا شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة ليزداد حسرة».
وأصل التغابن: مأخوذ من الغبن: وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته، في عقود المعاوضات، وبما أنه لا معاوضة في الآخرة، فيكون إطلاق التغابن على العمل المقدم في الدنيا وجزائه في الآخرة، من قبيل الاستعارة، للدلالة على النقص على البائع.
والخلاصة: أن يوم القيامة يوم التغابن الجائز، فيه يغبن بعض أهل المحشر بعضا، فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، وأهل الجنة يغبنون أهل النار.
ثم فصل الله تعالى التغابن وبيّنه، فقال:
١- وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ومن يصدق بالله تصديقا صحيحا ويصدق بما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك، ويعمل العمل الصالح بأداء الفرائض والطاعات، واجتناب المنهيات، يمح الله سيئاته وذنوبه، ويدخله الجنات التي تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، وذلك التكفير للسيئات وإدخال الجنات هو الظفر الذي لا يساويه ظفر، ولا ظفر قبله ولا بعده، لإحراز أفضل الثمرات والنتائج. وإنما قال: خالِدِينَ فِيها بلفظ الجمع بعد قوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بلفظ الواحد، لأن ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى.

صفحة رقم 245

٢- وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ، خالِدِينَ فِيها، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي والذين جحدوا وحدانية الله تعالى وقدرته، وكذبوا بآياته المنزلة على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها الآيات الدالة على البعث، أولئك أصحاب النار، خالدين فيها على الدوام، وبئس المرجع مرجعهم، وبئست النار مثوى لهم.
والآيتان دليل على حال السعداء وحال الأشقياء، لبيان ما تقدم من التغابن. وقد عبر الله تعالى عن أهل الإيمان بقوله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بلفظ المستقبل، وفي الكفر بقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بلفظ الماضي، لأن تقدير الكلام: ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا، يدخله جنات، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- بعد الإخبار بقيام الساعة، أمر الله عباده بالإيمان به وبرسوله محمد ﷺ وبالقرآن المنزل عليه، لئلا ينزل بهم من العقوبة ما نزل بالأمم الخالية لكفرهم بالله وتكذيب الرسل، وأكد تعالى الأمر بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي عالم بما تسرون وما تعلنون، فراقبوه وخافوه في الحالين معا.
٢- ثم أكد الله تعالى هذا الأمر بالتحذير من مخاوف القيامة وأهوالها، ومن شدة الحساب والجزاء، فذكر أنه سيجمع يوم القيامة جميع أهل السموات وأهل الأرض، فهو يوم الجمع والحشر، ويوم التغابن، لأن الكافرين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، واشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم، وأما المؤمنون فقد دلهم ربهم على التجارة الرابحة وهي الإيمان والجهاد، فباعوا أنفسهم بالجنة، فخسرت صفقة الكفار، وربحت صفقة المؤمنين. فيكون المعنى: ذلك يوم

صفحة رقم 246

التغابن الجائز مطلقا. قال مقاتل بن حيان: لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة، ويذهب بأولئك إلى النار.
٣- قال ابن العربي: استدل علماؤنا بقوله تعالى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية، لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة، فقال: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود، إذا زاد على الثلث. وهو الغبن الفاحش، وهو من الخداع المحرّم شرعا في كل ملة.
أما الغبن اليسير: فلا يمكن الاحتراز منه لأحد، فلا ينقض به البيع، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا، لأنه لا يخلو منه، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه، فوجب الرد به.
والفرق بين القليل والكثير: هو الثلث، وقدّر علماؤنا الثلث بهذا الحد، إذ رأوه في الوصية وغيرها «١».
٤- إن جزاء المؤمنين: دخول الجنات التي تجري من تحت قصورها الأنهار، مع الخلود الأبدي فيها، وهو الفوز الساحق الذي لا فوز بعده، لاشتماله على النجاة من المخاطر والأهوال.
٥- إن جزاء الكافرين بالله وبالقرآن: دخول النيران، مع الخلود فيها على الدوام، وبئس المصير نار جهنم.
وهذا الجزاء المقرر للفريقين هو تفسير التغابن المذكور آنفا.

(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٤/ ١٨٠٤، تفسير القرطبي: ١٨/ ١٣٨

صفحة رقم 247
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية