
(كُلًّا هَدَيْنَا) أي أعطى الله تعالى كل واحد منهما هداية قائمة بذاتها؛ لأن كل واحد كان نبيا مبعوثا، وتلك مكرمة لإبراهيم أن جعل ابنه وحفيده نبيين كل له هداية وبعثة.
بعد ذلك ذكر الله تعالى ذريته من غير ترتيب زمني، ولا ترتيب في المكانة، وتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ومن غير تفرقة بين أولي العزم من الرسل، وغيرهم، بل ذكرهم القرآن فيما يبدو مجموعات ظاهرة تجمع كل مجموعة منها صفة بارزة فيها.
المجموعة الأولى - بعد ذكر نوح وإسحاق ويعقوب الذين كان لكل واحد منهم هداية بعثه الله تعالى بها، وإن تلاقت الهدايات كلها، لأنها من الله تعالى موحد الشرائع، وهم: داود وسليمان، وأيوب ويوسف، وموسى وهارون وهذه المجموعة تمتاز بالصبر، وهو واضح في حياة كل نبي منهم، فداود وسليمان كانا خليفتين في الأرض، ولهما ملك شرقي وغربي، والملك العادل يحتاج إلى صبر حكيم بالامتناع عن الظلم، وهو شهوة الملوك وداؤهم، وإن الصبر على نعمة

يحتاج إلى أفق أوسع من الصبر في الشديدة، فتحري الأحكام، وتعرف أسبابها وغاياتها يحتاج إلى عقل أريب (١) مدرك ونفس هادية مؤمنة.
وكان داود وسليمان، من رجال الحرب الذين لقوا بأسها وشدتها، والصبر في البأس أمر واضح بين، وأيوب - عليه السلام - صبر على الضراء إذ نادى ربه رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، وقد ضرب به المثل في الصبر على الضراء لكل من يصيبه ضر، حتى لقد قالوا في أعلى درجات الصبر، إنه صبر أيوب، فقد صبر من غير أنين ولا شكوى، مع الرحمة والمحبة لمن عاشره في ضرائه.
ويوسف - عليه السلام - كان عبدا صابرا، صبر على كيد إخوته، وإظهارهم البغض والعداوة، ثم صبر على نعمة السلطان بعد ذلك، فاجتمع له نوعان من الصبر، صبر على البأساء والشديدة حتى إنه ليسترقّ، وصبر عن هوى الشيطان وكف لشهوة النفس، وإنه رأى برهان ربه في أدق المواقف انفعالا نفسيا، وتعرض لمهاوي الشهوات، (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ...). وصبر على السجن مع الإحساس بالبراءة، وصبر على كيد النساء مع الكتمان من غير إفحاش، ولا تفحش، ابتلاه الله بترغيب النساء، فتقبل السجن عن أن يكون تحت إغرائهن: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكن مِّنَ الْجَاهِلِينَ).
وهكذا نجد المغالبة بين الإغراء الجارف، والصبر والعزيمة، وضبط النفس من الشاب القوي الجميل، ولقد هيا الله تعالى من بعد ذلك لهذا الشاب القوي أن يجلس على عرش مصر، فيكون الصبر على العدل، وتنظيم سياسة الاقتصاد، ومدافعة أهواء الناس، مع الصبر على البعد عن الأقارب، وعن أبيه الصابر الشفيق
________
(١) الأرِيبُ: العاقلُ. ورَجُل ارِيب من قوم أرَباء. لسان العرب.

الرفيق، ثم يكون بعد ذلك الصبر الكريم عن حب الانتقام، والعفو الذي تطيب به النفوس، فيقول لإخوته: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢).
وموسى وهارون، وكانا من عباد الله الصابرين، صبرا على أذى فرعون لقومهما، كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وصبر موسى كليم الله الذي عاش في بيت فرعون عدو قومه، فصبر على مجابهة أهله، حتى اجتذب بصبره وتحمله من آمن من آل فرعون، وكان على رأسهم امرأته الطيبة الطاهرة.
وصبر كليم الله تعالى على بني إسرائيل بعد أن خرج من أرض فرعون، صبر على فساد قلوبهم، فكان يعالجه بصبر المؤمن التقي الهادي، وصبر على كفرهم، وعاود دعوتهم إلى الإيمان، وصبر عندما اتخذوا العجل إلها، وصبر عليهم وهم يقولون اجعل لنا إلها، كما لهم آلهة.
دعاهم إلى القتال ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله تعالى أن يدخلوها، فقالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
ثم كان القتال بهؤلاء المستخذين الضعفاء في أنفسهم، الأقوياء في أبدانهم تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وإني أحسب أن صبره عليهم، كان كصبر أيوب، وإن اختلف الشكلان، والنوعان، ولكن كليهما صبر.
وختم سبحانه الآية بقوله: (وَكذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ) أي كهذا الجزاء من الهدى نجزي المحسنين، وحيث كان الإتقان والإحسان كان الصبر.
والمجموعة الثانية - تمتاز بالروحانية والزهادة في الدنيا إلا ما يكون للحلال الصرف وهم زكريا ويحيى وعيسى، وإلياس، فزكريا هو الذي كان قائما على المسجد الأقصى، وهو الذي ربَّى مريم البتول (... وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...).

ويحيى ابنه الذي كان إجابة دعوة أبيه زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا، فأجاب الله نداءه (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩).
وعيسى كانت ولادته معجزة، وكانت حياته كلها معجزة، وقد أتى بالبينات، كان ينفخ في الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، وينادى الموتى فيخرجون من قبورهم بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وإلياس كان قليل الطلب للحياة وملاذها كإخوانه من أولئك ذوي الأرواح الطاهرة، وإنه حيث كانت المادة كان النزاع في الأرض، وحيث غلبت الروحية كان الصلاح في الأرض، وكان منع الفساد، ولذلك قال تعالى عقب ذكر هذه المجموعة الطاهرة النى امتلأ قلبها بنور الله والروح الزاهدة. وقد وصفهم الله تعالى بوصف الصلاح الكامل، لأنه ذهبت عنهم كل أدران المادية الداعية إلى النزاع في الأرض