
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْجَوَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَيْفَ أَخَافُ الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَأَنْتُمْ لَا تَخَافُونَ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ. وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٧] وَالْمُرَادُ مِنْهُ امْتِنَاعُ حُصُولِ الْبُرْهَانِ فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يُؤْمَرَ بِاتِّخَاذِ تِلْكَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ قِبْلَةً لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ فَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مَعْنَاهُ: عَدَمُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ. وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ: مَا لَكُمْ تُنْكِرُونَ عَلَيَّ الْأَمْنَ فِي مَوْضِعِ الْأَمْنِ، وَلَا تُنْكِرُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْأَمْنَ فِي مَوْضِعِ الْخَوْفِ؟ وَلَمْ يَقُلْ: فَأَيُّنَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أَنَا أَمْ أَنْتُمْ؟
احْتِرَازًا مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يَعْنِي فَرِيقَيِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُوَحِّدِينَ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمُحَاجَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ الْأَمْنُ الْمُطْلَقُ هُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مُسْتَجْمِعِينَ لِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: الْإِيمَانُ وَهُوَ كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ. وَثَانِيهِمَا: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وَهُوَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ اعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهٍ وَالْمُعْتَزِلَةَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا وَجْهُ تَمَسُّكِ أَصْحَابِنَا فَهُوَ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي الْإِيمَانِ الْمُوجِبِ لِلْأَمْنِ عَدَمَ الظُّلْمِ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ الظُّلْمِ أَحَدَ أَجْزَاءِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ لَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ عَبَثًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَاسِقَ مُؤْمِنٌ وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا وَجْهُ تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ حُصُولَ الْأَمْرَيْنِ، الْإِيمَانِ وَعَدَمِ الظُّلْمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْأَمْنُ لِلْفَاسِقِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ الْوَعِيدِ لَهُ.
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الْمُرَادُ مِنَ الظُّلْمِ الشِّرْكُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عن لقمان إذ قال لابنه: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] فالمراد هاهنا الَّذِينَ آمَنُوا باللَّه وَلَمْ يُثْبِتُوا للَّه شَرِيكًا فِي الْمَعْبُودِيَّةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي نَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، فَوَجَبَ حمل الظلم هاهنا عَلَى ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ: أَنَّ وَعِيدَ الْفَاسِقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُعَذِّبَهُ اللَّه، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ: فَالْأَمْنُ زَائِلٌ وَالْخَوْفُ حَاصِلٌ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْأَمْنِ الْقِطَعُ بِحُصُولِ الْعَذَابِ؟ واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٣]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) صفحة رقم 49

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَلَامٍ تَقَدَّمَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا لَهُ: أَمَا تَخَافُ أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا لِأَجْلِ أَنَّكَ شَتَمْتَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ:
أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ حيث أقدمتهم عَلَى الشِّرْكِ باللَّه وَسَوَّيْتُمْ فِي الْعِبَادَةِ بَيْنَ خَالِقِ الْعَالَمِ وَمُدَبِّرِهِ وَبَيْنَ الْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ وَالصَّنَمِ الْمَعْمُولِ؟ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْكُلُّ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: حُجَّتُنا خَبَرُهُ وَقَوْلُهُ: آتَيْناها إِبْراهِيمَ صِفَةٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي عَقْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِيتَاءِ اللَّه وَبِإِظْهَارِهِ تِلْكَ الْحُجَّةَ فِي عَقْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى. وَيَتَأَكَّدُ هَذَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ دَرَجَاتِ إِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ تِلْكَ الْحُجَّةَ، وَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْحُجَّةِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ لَا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي رَفَعَ دَرَجَاتِ نَفْسِهِ/ وَحِينَئِذٍ كَانَ قَوْلُهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بَاطِلًا. فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا صَرِيحُ قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْحَشْوِيَّةِ فِي الطَّعْنِ فِي النَّظَرِ وَتَقْرِيرِ الْحُجَّةِ وَذِكْرِ الدَّلِيلِ. لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُصُولَ الرِّفْعَةِ وَالْفَوْزَ بِالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، لِأَجْلِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْحُجَّةَ فِي التَّوْحِيدِ وَقَرَّرَهَا وَذَبَّ عَنْهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَرْتَبَةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ دَرَجاتٍ بِالتَّنْوِينِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مَعْنَاهَا: نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً، فَيَكُونُ «مَنْ» فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ. قَالَ ابْنُ مُقْسِمٍ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى الدَّرَجَةِ الْوَاحِدَةِ وَعَلَى الدَّرَجَاتِ الْكَثِيرَةِ وَالتَّنْوِينُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الدَّرَجَاتِ الْكَثِيرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الدَّرَجَاتِ. قِيلَ: دَرَجَاتُ أَعْمَالِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: تِلْكَ الْحُجَجُ دَرَجَاتٌ رَفِيعَةٌ، لِأَنَّهَا تُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ. وَقِيلَ: نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ فِي الدُّنْيَا بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ. وَقِيلَ: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ بِالْعِلْمِ. وَاعْلَمْ أن هذه الآية من أدل الدلائل على أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ فِي الصِّفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَفِي الْبُعْدِ عَنِ الصِّفَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِحُصُولِ هَذِهِ الرَّفْعَةِ هُوَ إِيتَاءُ تِلْكَ الْحُجَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ وُقُوفَ النَّفْسِ عَلَى حَقِيقَةِ تِلْكَ الْحُجَّةِ وَإِطْلَاعَهَا عَلَى إِشْرَاقِهَا اقْتَضَتِ ارْتِفَاعَ الرُّوحِ مِنْ حَضِيضِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ، إِلَى أَعَالِي الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رِفْعَةَ وَلَا سَعَادَةَ إِلَّا فِي الرُّوحَانِيَّاتِ. واللَّه أَعْلَمُ.