آيات من القرآن الكريم

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ
ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ

الْأَسَالِيبِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الِاقْتِرَابِ مِنْ تَنَاوُلِ الْأَفْهَامِ عَامِّهَا وَخَاصِّهَا، وَهِيَ أَيْضًا مُخْتَلِفَةٌ فِي تَرْكِيبِ دَلَائِلِهَا مِنْ جِهَتَيِ الْمُقَدِّمَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْ جِهَتَيِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَمِنَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ، بِحَيْثُ تَسْتَوْعِبُ الْإِحَاطَةَ بِالْأَفْهَامِ عَلَى اخْتِلَافِ مَدَارِكِ الْعُقُولِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآياتِ لِلْعَهْدِ، وَهِيَ الْمَعْهُودَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ:
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَام: ١].
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ، فَهِيَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ أَدْخَلُ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهُوَ هُنَا التَّعْجِيبُ مِنْ قُوَّةِ الْأَدِلَّةِ وَأَنَّ اسْتِمْرَارَ الْإِعْرَاضِ وَالْمُكَابَرَةِ مَعَ ذَلِكَ أَجْدَرُ بِالتَّعْجِيبِ بِهِ.
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِي جُمْلَةِ هُمْ يَصْدِفُونَ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْإِعْرَاضِ مِنْهُمْ. وَتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِتَقَوِّي الْحُكْمِ.
ويَصْدِفُونَ يُعْرِضُونَ إِعْرَاضًا شَدِيدًا. يُقَالُ: صَدَفَ صَدْفًا وَصُدُوفًا، إِذَا مَالَ إِلَى جَانِبٍ وَأَعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ. وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ أَنْ يَكُونَ قَاصِرًا فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولِهِ بِ (عَنْ).
وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي «الْقَامُوسِ». وَقَلَّ التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَلَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها
[الْأَنْعَام: ١٥٧] قَدَّرَ: وَصَدَفَ النَّاسَ عَنْهَا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي الْأَسَاسِ وَلَا عَلَّقَ عَلَى تَقْدِيرِهِ شَارِحُوهُ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْآيَاتِ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَصْدِفُونَ لِظُهُورِهِ، أَيْ صَدَفَ عَن الْآيَات.
[٤٧]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٤٧]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)
اسْتِئْنَافٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّوَعُّدِ وَإِعْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ لَا يَرْجِعُ بِالسُّوءِ إِلَّا عَلَيْهِمْ وَلَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ [الْأَنْعَام: ٢٦].

صفحة رقم 236

وَالْقَوْلُ فِي قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً الْآيَةَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَيْهِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
وَجِيءَ فِي هَذَا وَفِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِكَافِ الْخِطَابِ مَعَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ دُونَ قَوْلِهِ:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ [الْأَنْعَام: ٤٦] الْآيَةَ لِأَنَّ هَذَا وَنَظِيرَهُ أَبْلَغُ فِي التَّوْبِيخِ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُكْنَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ إِتْيَانَ الْعَذَابِ أَمْكَنُ وُقُوعًا مِنْ سَلْبِ الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْعُقُولِ لِنُدْرَةِ حُصُولِ ذَلِكَ، فَكَانَ
التَّوْبِيخُ عَلَى إِهْمَالِ الْحَذَرِ مِنْ إِتْيَانِ عَذَابِ اللَّهِ، أَقْوَى مِنَ التَّوْبِيخِ عَلَى الِاطْمِئْنَانِ مِنْ أَخْذِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَاجْتَلَبَ كَافَ الْخِطَابِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ التَّنْبِيهُ دُونَ أَعْيَانِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَالْبَغْتَةُ تَقَدَّمَتْ آنِفًا.
وَالْجَهْرَةُ: الْجَهْرُ، ضِدَّ الْخُفْيَةِ، وَضِدَّ السِّرِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٥].
وَقَدْ أَوْقَعَ الْجَهْرَةَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الْبَغْتَةِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ تُقَابَلَ الْبَغْتَةُ بِالنَّظْرَةِ أَوْ أَنْ تُقَابَلَ الْجَهْرَةُ بِالْخُفْيَةِ، إِلَّا أَنَّ الْبَغْتَةَ لَمَّا كَانَتْ وُقُوعَ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ كَانَ حُصُولُهَا خَفِيًّا فَحَسُنَ مُقَابَلَتُهُ بِالْجَهْرَةِ، فَالْعَذَابُ الَّذِي يَجِيءُ بَغْتَةً هُوَ الَّذِي لَا تَسْبِقُهُ عَلَامَةٌ وَلَا إِعْلَامٌ بِهِ. وَالَّذِي يَجِيءُ جَهْرَةً هُوَ الَّذِي تَسْبِقُهُ عَلَامَةٌ مِثْلَ الْكَسْفِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الْأَحْقَاف: ٢٤] أَوْ يَسْبِقُهُ إِعْلَامٌ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: ٦٥]. فَإِطْلَاقُ الْجَهْرَةِ عَلَى سَبْقِ مَا يَشْعُرُ بِحُصُولِ الشَّيْءِ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَغْتَةِ الْحَاصِلُ لَيْلًا وَمِنَ الْجَهْرَةِ الْحَاصِلُ نَهَارًا.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يُهْلَكُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ فَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ.
وَالْمَعْنَى لَا يُهْلَكُ بِذَلِكَ الْعَذَابِ إِلَّا الْكَافِرُونَ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الْمُخَاطَبُونَ أَنْفُسُهُمْ فَأُظْهِرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِيَتَأَتَّى وَصْفُهُمْ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، أَيْ مُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَظَالِمُونَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ.

صفحة رقم 237
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية