
١٠٥ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾، قال الزجاج: (موضع الكاف التي في أول (كذلك) نصب، المعنى: ونصرف الآيات مثل ما صرفناها فيما تلي عليكم) (١)، وقال غيره من النحويين (٢): (المعنى: نصرف الآيات في غير هذه السورة مثل التصريف في هذه السورة، فهو في موضع صفة المصدر، كأنه قيل: تصريفاً مثل هذا التصريف) (٣)، وذكرنا معنى تصريف الآيات في هذه السورة قبل.
وقال ابن عباس في هذه الآية: ((﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ﴾ (٤) نبيّن الآيات في القرآن في كل وجه ندعوهم بها ونخوّفهم) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ قال أبو بكر (٦): (دخلت الواو في ﴿وَلِيَقُولُوا﴾ عطفاً على مضمر، التقدير: وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة ﴿وَلِيَقُولُوا﴾ فحذف المعطوف عليه لوضوح معناه) (٧).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٩.
(٢) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٧١، و"المشكل" ١/ ٢٦٤، و"التبيان" ١/ ٣٥٢، و"الفريد" ٢/ ٢٠٧.
(٣) قال السمين في "الدر" ٥/ ٩٣: (الكاف في محل نصب نعتا لمصدر محذوف، فقدره الزجاج: ونصرف الآيات مثل ما صرفناها فيما تلي عليكم. وقدره غيره: نصرف الآيات في غير هذه السورة تصريفًا مثل التصريف في هذه السورة) اهـ.
(٤) في (ش): (وكذلك نصر)، وهو تحريف واضح.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٠٠.
(٦) أبو بكر: هو ابن الأنباري محمد القاسم، تقدمت ترجمته.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٠٠، والسمين في "الدر" ٥/ ٩٥، وانظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ٥٨.

وأما (درست) (١). فقال أبو زيد: (درسْت أدرس دِراسة وهي القراءة، وقال: وإنما يقال ذلك إذا قرأت على غيرك) (٢)، وقال ابن الأعرابي: (درست الكتاب أدرسُه دَرْساً ودراسةً، أي: ذللته بكثرة القراءة) (٣). قال الأصمعي: (أصل درس الكتاب من قولهم: درس الطعام إذا داسه يدرسه دِراساً، والدِّراس الدِّياس بلغة أهل الشام. قال وأنشدني ابن ميادة (٤):
يكفيك من بعض ازدياد الآفاق | سَمْرَاءَ مما دَرَسَ ابن مِخْرَاقْ (٥) |
(٢) "الحجة" لأبي علي الفارسي ٣/ ٣٧٣.
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ١١٧٣ بلفظ: (دَرَسْتُ الكتاب أدرُسُه دراسة) فقط.
(٤) في النسخ: ابن أبي ميادة، وهو تحريف، والصواب: ابن ميادة الشاعر المشهور الرماح بن أبرد الغطفاني. تقدمت ترجمته.
(٥) ديوانه ص ٧٥، و"الحجة" لأبي على ٣/ ٣٧٣، و"الصحاح" ٣/ ٩٢٧، و"اللسان" ٣/ ١٣٦٠ درس، بلا نسبة في "الجمهرة" ٢/ ٦٢٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ١١٧٤، و"المجمل" ٢/ ٣٢٢، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٦٧ (درس).
(٦) ذكره الرازي ١٣/ ١٣٥، عن الواحدي عن الأصمعي، وفي "جمهرة اللغة" ٢/ ٩٢٧، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٧٣، بعضه عن الأصمعي، وهو في "تهذيب اللغة" ٣/ ١١٧٤ بلا نسبة.
(٧) كعب بن زُهَيْر بن أبي سلمى المزني أبو المضراب، تقدمت ترجمته.

وفي الحِلْم إدْهان وفي العَفو دُرْسة | وفي الصِّدق مَنْجاةُ من الشر فاصدْق (١) |
قال ابن عباس: ﴿وَلِيَقُولُوا﴾ (يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن ﴿دَرَسْتَ﴾ يقولون: تعلمت من يسار (٤) [أبي فكيهة] (٥) وجبر (٦) مولى قريش، وقرأت علينا تزعم أنه من عند الله) (٧)، وفي قول ابن عباس تعلّمت
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٧٤.
(٣) نقله الرازي في "تفسيره" ١٣/ ١٣٥ عن الواحدي.
(٤) يسار أبو فكيهة مولى صفوان بن أمية، عبد نصراني عالم بالكتب المتقدمة أسلم بمكة وزعمت قريش أن النبي - ﷺ - يتعلم منه.
انظر: "السيرة" لابن هشام ١/ ٤٢٠، و"تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي ١/ ١١٦، ٢٦٨، و"الإصابة" ٤/ ١٥٦.
(٥) في النسخ: (يسار بن فكيهة) ثم صحح في (أ) إلى (أبي)، وهو الصواب.
(٦) جبر مولى بني عبد الدار نصراني أو يهودي قرأ الكتب المتقدمة، وأسلم بمكة وزعمت قريش أن النبي - ﷺ - يتعلم منه. انظر: "السيرة" لابن هشام ١/ ٤٢٠، و"تفسير القرطبي" ٧/ ٥٨، و"تفسير مبهمات القرآن" ١/ ١١٦، و"الإصابة" ١/ ٢٢١.
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ٤٩ - ٥٠، وذكر الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٦، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٥، و"الخازن" ٢/ ١٦٩، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٣٠٥ - ٣٠٨، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٥، من عدة طرق جيدة عن ابن عباس قال: (قرأت وتعلمت تقول ذلك قريش) ا. هـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٧٠.

دليل على أن معنى ﴿دَرَسْتَ﴾ قرأت على غيرك. وأخبرنا سعيد بن (١) محمد -رحمه الله- أنبا ابن مقسم (٢) العطار ببغداد عن أبي إسحاق (٣) النحوي قال: (معناه: وليقولوا قرأت كتب أهل الكتاب) (٤)، وقال الفراء: (يقولون: تعلمت من يهود) (٥)، وأخبرني العروضي (٦) عن الأزهري، قال: أخبرني المنذري (٧) عن أبي العباس (٨) في قول الله تعالى: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ قال: (معناه وكذلك نبين لهم الآيات من هنا وهنا لكي يقولوا إنك دَرَسْت، أي: تعلمت، أي: هذا الذي جئت به [عُلِّمتَ] (٩) (١٠).
وقرأ ابن كثير (١١) وأبو عمرو (دَارسْت) وهو قراءة ابن عباس (١٢)
(٢) ابن مقسم: محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن العطار، إمام مقرئ تقدمت ترجمته.
(٣) أبو إسحاق النحوي هو الزجاج إبراهيم بن السري، تقدمت ترجمته.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٩.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٤٩.
(٦) العروضي: أحمد بن محمد بن عبد الله السهلي أبو الفضل، تقدمت ترجمته.
(٧) المنذري: أبو الفضل محمد بن أبي جعفر الهروي إمام، تقدمت ترجمته.
(٨) أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيى، تقدمت ترجمته.
(٩) في (ش): (علمته).
(١٠) (تهذيب اللغة) ٢/ ١١٧٣، وانظر: "مجالس ثعلب" ص ١١٧.
(١١) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (دَارَسْتَ) بألف بعد الدال وسكون السين وفتح التاء، وقرأ ابن عامر بغير ألف وفتح السين وسكون التاء، وقرأ الباقون بغير ألف وسكون السين، وفتح التاء. انظر: "السبعة" ٢٦٤، و"المبسوط" ص ١٧٣، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٦، و"التيسير" ص ١٠٥، و"النشر" ٢/ ٢٦١.
(١٢) أخرجه الطبري ٧/ ٣٠٥، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦٥، من طرق جيدة عن أبن عباس ومجاهد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٩، ٧٠.

ومجاهد (١)، وفسرها (قرأت على اليهود وقرؤوا عليك).
وقال الزجاج (٢) وأبو علي: (أي: دارست أهل الكتاب وذاكرتهم ويقوّي هذه القراءة قوله تعالى: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤]، (٣)، وقرأ ابن عامر: (دَرَسَتْ) أي: هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة، قد درست وانمحت ومضت، من الدرس الذي هو تعفي الأثر وامحاء الرسم (٤).
قال الأزهري: (من قرأ (دَرسَتْ) (٥) فمعناه: تقادمت، أي: هذا الذي تتلوه علينا شيء قد تطاول ومرّ، من قولهم: درس الأثر يدرس درساً) (٦).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٩ - ٢٨٠، وهو قول الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٨٥، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١٦٩، والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٠٥، ومكي في "الكشف" ١/ ٤٤٤، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٥٧٢: (أحسن ما قيل في (دارست) أن معناه: دارستنا فيكون معناه كمعنى (دَرَسْتَ) وقيل: معناه دارست أهل الكتاب، فهذا مجاز) اهـ.
(٣) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٧٤، وانظر: "الحجة" لابن خالويه ص ١٤٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٦٦، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٦٤.
(٤) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٨٥.
(٥) يعني: قراءة ابن عامر، بفتح السين، وسكون التاء.
(٦) "تهذيب اللغة" ١٢/ ١١٧٤، و"معاني القراءات" ١/ ٣٧٧؛ وهو قول الزجاج في =

فأما معنى اللام في قوله: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ فقال أبو بكر: (وأما تصريف الآيات فليسعد بها قوم بفهمها والعمل بما فيها، ويشقى آخرون بالإعراض عنها، فمن يقول للنبي: ((دارست) أو (درست) فهو شقي، ومن يتبين الحق فيها ويعمل [بها] (١) سعيد) (٢)، ويقوي هذا الذي قاله أبو بكر قوله تعالى: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ١٠٥] قال ابن عباس: (يريد: أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد) (٣)، وقال أبو إسحاق: (إن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا: (درست) هو تلاوة الآيات عليهم، وهذه اللام يسميها أهل اللغة: لام الصيرورة (٤)، وهو كقوله عز وجل: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] وهم لم يلتقطوه يطلبون بأخذه أن يعاديهم، ولكن كانت عاقبة الأمران صار ﴿لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ كما [يقول] (٥): كتب فلان هذا الكتاب لحتفه، وهو لم يقصد بالكتاب أن يهلك نفسه، ولكن العاقبة كانت الهلاك) (٦)، ومعنى هذا
(١) لفظ (بها) ساقط من (أ).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٧، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٠٠، وذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٥ بدون نسبة.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٩٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ١٧٥.
(٤) أي: التحول وهو من معاني اللام عند الكوفيين، وعند البصريين تسمى لام العاقبة، ويقال لها أيضاً: لام العلة والمآل والعرض. انظر: "البيان" لابن الأنباري ١/ ٣٣٤، وما سبق من هذا البحث ص ٢٣٨.
(٥) في (ش): (يقولون).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٠. وانظر: "معاني النحاس" ٢/ ٤٦٩ - ٤٧٠، وقال أبو =